ID
int64
1.01M
3.12M
Document
stringlengths
20
68
Sentences
stringlengths
21
14.5k
Sentence_Count
int64
1
391
Word_Count
int64
4
3.08k
Readability_Level
stringclasses
14 values
Readability_Level_19
int64
3
19
Readability_Level_7
int64
1
7
Readability_Level_5
int64
1
5
Readability_Level_3
int64
1
3
Source
stringclasses
26 values
Book
stringlengths
1
94
Author
stringclasses
215 values
Domain
stringclasses
3 values
Text_Class
stringclasses
3 values
3,010,046
BAREC_Hindawi_28158282_001.txt
المستهل المبدأ الماركسي في الحكومة ومهمة طبقة العمال في الثورة إن مسألة الحكومة قد أخذت في أيامنا هذه شأنًا خاصًّا من الوجهة النظرية، ومن الوجهة السياسية العملية؛ فإن الحرب الاستعمارية قد زادت وعممت تحويل رأس المال الاحتكاري إلى رأس مال احتكاري حكومي، فإن الاستعباد الوحشي الواقع على العمال الذين تستخدمهم الحكومة الذي يزداد اتحادًا شيئًا فشيئًا مع نقابات أصحاب رءوس الأموال ذوات القوة العظيمة، يكاد يصل إلى أن يصير بالتدريج ذا خصائص متناهية في الفداحة، فأعظم البلاد حضارة ومدنية وعلمًا أخذت تتحول — نحن نتكلم عن الماضي — إلى أماكن أشغال شاقة — لومانات — عسكرية للعمال. فالفظائع التي لم يُسمع بمثلها، ومصائب الحرب التي لا تنتهي جعلت حالة الجماهير لا تطاق، وزادت في غضبها واستيائها، فصورة طبقة العمال في العالم أجمع على وشك أن تصبح قابلة للتنفيذ، وصارت علاقة هذه الطبقة بالحكومة محور اهتمام عظيم في الوقت الحاضر. إن العناصر التي تذهب إلى انتظار الأوقات المناسبة، وهي العناصر التي تجمعت في غضون عشرات السنين التي انقضت في السلم النسبي قد أوجدت تيارًا للاشتراكية المخادعة تسلط على الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم أجمع، وهذا التيار — المؤلف من أحزاب بليخانوف، وبوترسوف، وبريخكوفسكي، وروبانوفيتش، ثم تحت شكل مستتر قليلًا تألف من أشياع تسيريتيللي، وتشيرنوف، وشركائهما في الروسيا، ومن شيدمان، وليجيين، ودافيد، وأنصارهم في ألمانيا، ومن رينوديل، وجيسدوفاندرفيلد في فرنسا وفي بلجيكا، ومن هيندمان والفبابينيين في إنجلترا، إلى سواهم من أمثالهم — الذي هو اشتراكي بالألفاظ، ولكنه محبذ لفكرة الوطنية بالفعل يمتاز بخضوع شائن مهين من قبل زعماء الاشتراكية لمصالحهم التي ليست مصالح وجاهتهم الوطنية فقط، بل مصالح حكومتهم الخاصة بالمثل؛ لأن أغلب تلك الدول المعبر عنها بالدول العظمى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل عددًا عظيمًا من الشعوب الصغيرة الضعيفة، وما هذه الحرب الاستعمارية إلا طريقة من طرق التنازع على تقسيم أسباب هذا النوع من الغنيمة، فالكفاح الذي تقوم به الجماهير النشطة للتخلص من نفوذ طبقة الماليين بنوع عام، والماليين الاستعماريين بوجه خاص، لا يمكن أن يقرن بالنجاح بدون أن يكون مصحوبًا بمصارعة الأوهام السيئة التي يتمسك بها أشياع انتهاز الفرص مراعين بها جانب الحكومة. وقبل كل شيء نبدأ باستعراض تعليم ماركس وإنجيل عن الحكومة، شارحين بتفصيل هذا المبدأ الذي صار تركه في زوايا الإهمال، أو صار إخراجه من حدوده الطبيعية بواسطة مذهب انتهاز الفرص، ثم نتكلم فيما بعد بنوع خاص عن ممثل هذه المبادئ المخرجة عن طورها الطبيعي، وهو كارل كاوتسكي الذي هو زعيم الاشتراكية الدولية الثانية من عام ١٨٨٩ إلى ١٩١٤ الذي أصيب بفشل محزن إزاء الحرب الحاضرة. وأخيرًا نستخلص أهم التعاليم المستمدة من تجربة ثورتي ١٩٠٥ و١٩١٧ الروسيتين، ولا سيما الأخيرة منهما، وهذه الأخيرة في الوقت الذي نحن فيه (مستهل أغسطس ١٩١٧) في نهاية المرحلة الأولى من انتشارها وتمكنها، ولكن كل هذه الثورة لا يمكن الخوض في شئونها إلا باعتبارها إحدى حلقات سلسلة ثورات طبقات العمال الاشتراكية، التي استوجبتها الحرب الاستعمارية، ومسألة علائق الثورة الاشتراكية القائمة بها طبقات العمال بالحكومة ليست ذات معنى سياسي عملي فقط، بل ذات أهمية حالية لا مثيل لها؛ لأن هذه المسألة أفهمت الجماهير ما يجب أن تفعله لتتحرر من نير صاحب رأس المال في المستقبل القريب. (أغسطس ١٩١٧) ن. لينين الفصل الأول الحكومة والثورة: الطبقات الاجتماعية والحكومة (١) الحكومة نتيجة الاختلاف الدائم بين طبقات الشعب إن مذهب ماركس أصيب في هذه الآونة بما أصيب به مذاهب المفكرين الثوريين، ورؤساء الطبقات المضطهدة في صراعهم لأجل تحرير تلك الطبقات، وكبار الثوريين كانوا دائمًا عرضة للمصادرة والاضطهاد طوال حياتهم، وكانت تعاليمهم موضعًا لأفظع الأحقاد، ولحملات الأكاذيب والمطاعن المتناهية في السخف، والحماقة الموجهة ضدها من الطبقات المتحكمة الغاشمة، وبعد وفاتهم يحاول خصومهم أن يجعلوهم مثال التُّقى والفضيلة باعتبارهم من الأولياء والقديسين، ووضع أكاليل المجد على هاماتهم لأجل تسلية الطبقات المضطهدة وغشها وتضليلها، مع الاستمرار على تحطيم أساس تعاليمهم الثورية. وينضم إلى هؤلاء المتحكمين الغاشمين، فريقا الأعيان ومتحيني الفرص من طائفة العمل اللذيْنِ يتحدان في تهذيب المذهب الماركسي، فهما إما يتناسيان، أو يصقلان، أو يخرجان القسم الثوري من هذا المذهب عن طبيعته، بل يبعدان عن هذا المذهب روح الثورة بالمرة، فأول ما يبدآن بعرضه من مبادئ هذا المذهب، بل بالمغالاة في تفخيمه وإجلاله هو كل ما كان قابلًا للانطباق على مصالح جماعة الأعيان والوجهاء، وهنا ينقلب الاشتراكيون الوطنيون إلى ماركسيين
31
725
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Lenin's Memoirs
Vladimir Lenin
Social Sciences
Specialized
3,010,047
BAREC_Hindawi_28173195_001.txt
ثانيًا: أوصاف الذات وصفاتها وبعد إثبات الذات يبدأ وصفها، فيرتبط بسؤال إمكانية العلم بالذات سؤال آخر وهو أخص وصف تتميز به الذات، وهل هناك صفات أخرى لا نعلمها إذا ما تم حصر الصفات؟ فعلى فرض إمكانية العلم بالذات عن طريق آثارها التي تدل عليها فهل يمكن ابتداءً من هذه الآثار وصف الذات في نفسها أو في غيرها أو في أفعالها؟ وهنا يظهر موضوع الصفات الذي أصبح لب التوحيد. ثم تمايزت الصفات عن الأوصاف بعد حصرها وتصنيفها إلى نفسية ومعنوية، سلبية وثبوتية. وعلى الرغم من أنها كلها تقريبًا إنسانية وتشبيهات وقياس للغائب على الشاهد. ماذا تعني صفة؟ هل الصفة شيء؟ هنا يظهر الحس من جديد ويفرض نفسه على التنزيه. فإذا كان التنزيه قد استطاع أن يتخلى عن كل مظهر من مظاهر التشخيص حتى ولو كان ذاتًا أو فردًا أو غيرًا، فإنه يضعف أمام الحس الذي يجعل الصفة شيئًا. ١ أمَّا إذا اجتمعت الصفات فقد لا تكون بالضرورة أشياء؛ لأن المجموع يعطي كلًّا جديدًا يستطيع أن يتجاوز الصفة المفردة بصفته، وهي عملية شعورية ثانية يكون بها الكل أقوى من الجزء. ولا يمكن أن تكون الصفة إلا شيئًا ما دامت تصف ذاتًا موجودة. فالشيء موجود والموجود شيء. ولما كان وصف الصفة بالشيء يوحي بالشيئية المرفوضة في التجسيم فهل تكون الصفة معنى؟ المعنى أقرب التصورات إلى التنزيه لأن الشيء يوحي بالجسمية، فالأجسام وحدها هي الأشياء في حين أن المعنى مشخص بل دلالة خاصة. ٢ ولما كان المعنى مجرَّدًا ذاتيًّا والذات حسية موضوعية لم يُوَفَّ المعنى كل حق الصفة. فإذا لم تكن الصفة شيئًا أو معنى فهل هي اسم؟ وماذا يعني اسم؟ الاسم هو اختيار إنساني للفظ من اللغة العادية للتعبير به عن مضمون شعوري أو للإشارة به إلى شيء موجود في الواقع إذا تم الاتفاق على ربط هذا الاسم بهذا المُسَمَّى. وعلى هذا النحو يكون التوحيد بين الأسماء والصفات انتقال من اللغة إلى الشيء بلا برهان أو من الذات إلى الموضوع دون اتفاق مسبق على تطابق هذه الأسماء مع تلك المسميات. ٣ فليس كل عالم عالمًا بالضرورة لمجرد تسميته باسم عالم، وكل قادر لا يكون قادرًا بالضرورة من مجرد تسميته قادرًا. هذه المعاني الثلاث لكلمة صفة كأنما تكشف عن صعوبة وصف الذات التي لا يمكن العلم بها. وماذا يعني وصفها بصفات تقريبية؟ هل هذه الصفات تدل على أشياء بالفعل أم تشير إلى مجرد معاني ذهنية لا توجد في الأعيان أم هي مجرد أسماء وألفاظ من اللغة للتعبير بها عن مضمون شعوري وموقف إنساني خالص في ظرف اجتماعي وسياسي معين كنوع من الإبداع الشعري أو الفكري؟ (١) تداخل الأوصاف والصفات ويميز القدماء بين الوصف والصفة. فالوصف للذات والصفة لآثارها ومتعلقاتها، الوصف لا لمعنى في حين أن الصفة لمعنى، الوصف للوجود والصفة نفي أو إثبات. الوصف للنفس والصفة للمعنى، ومع ذلك يصعب التمييز بين أوصاف الذات وصفاتها. بعض الأوصاف تدخل في الصفات، وبعض الصفات تدخل في الأوصاف، فيتداخلان معًا مثل تداخل دليل الوجود (وصف الوجود) وانتفاء الجسمية (وصف القيام بالنفس) مع الصفات المعنوية السبعة. ٤ وقد تتداخل بعض أوصاف الذات في مضمون الإيمان مع صفاتها (الواحد، الموجود، الأوَّل، القديم) دون فصل بين أوصاف الذات وصفاتها، والتعرض لمسائل المشابهة والمماثلة والجهة دون التعبير عنها بمقولاتها الخاصة وهي المخالفة للحوادث والقيام بالنفس، بل الاكتفاء بالحديث عن الاستواء وسائر الصفات الحسية المتنازع عليها. ٥ وقد تُذكَر أوصاف الذات مختلطة بالصفات دون وعي تصوري بالتمييز بينها (قديم، موجود، واحد، شيء، نفس)، ورفض التشبيه: (النور، اليد، الساق، الأصبع، المجيء، الذهاب، النزول، الجسم، الاستواء على العرش، المكان، الرؤية)، وعدم استقرار إحصاء الصفات بعد، وإدخال المتفق عليها (ست أوصاف للذات وسبع لصفاتها) مع المتنازع عليها.
37
632
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
From Doctrine to Revolution (2)
Hassan Hanafi
Arts & Humanities
Specialized
3,010,049
BAREC_Hindawi_28471509_001.txt
الأرض التي نعيش عليها كيف نشأت الكرة الأرضية؟ وكيف تطوَّرت حتى وصلت إلى حالتها اليوم؟ هل يستطيع العلم الحديث أن يجيب على هذين السؤالين؟ أما إن كان المقصود بالإجابة أن يكون ذلك بصفة قاطعة فكلا! وأما إذا أُريد أن نستعين بنتائج الأبحاث العلمية على الإجابة إجابةً تتفق وهذه النتائج فهذا دائمًا ميسور لكل ذي عقل راجح. وما هي نواحي البحث العلمي التي تتصل بمسألتنا؟ من المعلوم أن الأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس. فالأبحاث الفلكية عن طبائع هذه الكواكب وعلاقة ذلك بنشأتها وتطوُّرها ستدخل إذن في حسابنا، ثم إن طبقات القشرة الأرضية لها علم خاص بها هو علم الجيولوجيا يدخل فيه ما يدخل من علوم الحيوان والنبات؛ إذ من المعلوم أننا نجد بقايا الكائنات الحية محفوظة في الصخور الأرضية مما يساعدنا على تنظيم دراسة العصور الجيولوجية المختلفة، وأخيرًا توجد طائفة من الدراسات تُعرف بالجيوفيزيقا أو الطبيعيات الأرضية تتناول البحث في القوى الطبيعية التي تعمل في مادة الأرض؛ قشرتها وباطنها وجوها. وإذا راعينا أن العلوم الرياضية تستخدم في سائر هذه الأبحاث ويستعان بها على تنظيمها، تكوَّنت لدينا فكرة من نوع المسألة التي نحن بصددها. ومن العبث أن أقحم القارئ في تفاصيل فنية هو في غنًى عنها. لذلك سأكتفي بسرد تاريخ نشأة الكرة الأرضية وتطوُّرها بصفة إجمالية مكتفيًا بالإشارة إلى أهم مراحل هذا التطوُّر وشرح ما يتيسر شرحه من الآراء العلمية التي ترتبط بها. وليتصوَّر القارئ أنه يشاهد شريطًا سينمائيًّا ناطقًا دُوِّنت فيه سيرة كرتنا الأرضية منذ نشأتها. هذا الشريط كسائر الأشرطة التاريخية يعتمد في تحضيره على الوثائق التي بين أيدينا، ويسمح في الوقت ذاته للمخيلة بأن تُظهِر ما كان خافيًا فيه وتُوضِّح ما كان مُبهَمًا. فإذا وصلت درجة الخفاء أو درجة الإبهام إلى حد كبير استُغني عن هذا الجزء من القصة، ووُصِلَت أجزاء الشريط على قدر ما تسمح به الظروف. ولما كانت الأمانة العلمية تقتضي الصراحة التامة في مثل هذه الظروف، فسأشير في عرض حديثي إلى مواضع الضعف في القصة كلما سنحت فرصة لذلك. (١) عمر الأرض ولا بد من إدراك أن الحوادث التي يدوِّنها الشريط استغرقت ملايين السنين، فعرض الشريط في زمن يسير كالذي يتَّسع له مثل هذا المقال يقتضي تغييرًا عظيمًا في مقياس الزمن. ثم إن معرفة الزمن الحقيقي الذي استغرقته هذه الحوادث، هذه المعرفة محوطة بكثير من الشك، فلذا يجب أن نتلقاها بشيء من التحفظ. ويحسن بهذه المناسبة أن أشير إلى مصادر علمنا عن مقادير هذه الأزمنة الطويلة. فلدينا أولًا الطريقة الطبيعية وتنحصر في حساب الزمن الذي لزم لكي تبرد الأرض من حالتها الأولى كقطعة من الغازات الحارة التي انفصلت عن الشمس إلى درجة حرارتها الحالية. هذه الطريقة أدت بعلماء القرن التاسع عشر إلى تقدير عمر الأرض تقديرًا نعتقد الآن أنه خاطئ؛ إذ إنهم أغفلوا مصدرًا هامًّا من مصادر حرارة الأرض وهو مصدر النشاط الإشعاعي لبعض عناصرها كاليورانيوم والراديوم وما إليها. وقد أعاد علماء القرن العشرين حساب عمر الأرض مراعين في ذلك أثر هذا المصدر. ثم إن لدينا وسائل أخرى مستقلة عن الأولى وهي الوسائل التي يستخدمها علماء الجيولوجيا، وأهمها تقدير كمية الأملاح الذائبة في مياه المحيطات وحساب الزمن اللازم لنقل هذه الأملاح بوساطة الأنهار إلى المحيطات. وسأعتمد على أقوال العلماء الذين تيسَّر لهم تمحيص النتائج التي تؤدي إليها سائر الوسائل الطبيعية والجيولوجية والأخذ بأقربها إلى الاحتمال. منذ نحو ألفي مليون سنة كانت الشمس تسبح في فضاء العالم المجرِّيِّ شأنها شأن غيرها من نجوم هذا العالم ولم يكن لها في ذلك الوقت كواكب تدور حولها كما هو الحال في عصرنا الحاضر. والمظنون أن نجمًا آخر أكبر من الشمس قُدِّر له أن يقترب منها بحيث يكاد يدانيها. والنتيجة الطبيعية لهذا الاقتراب أن يندلع لسان من مادة الشمس بقوة الجاذبية بين النجمين فيخرج في الفضاء مبتعدًا عن الشمس ثم ينفصل عنها. هذا اللسان أو هذا الذراع الذي امتد من الشمس في الفضاء الذي هو جزء من مادتها الغازية الحارة هو أصل المجموعة الشمسية، فقد تكاثفت أجزاؤه وتراكمت فكوَّنت كواكب منفصلة هي كواكب هذه المجموعة. وهكذا ولدت الأرض؛ كوكب من هذه الكواكب، ودارت حول الشمس كما دارت سائر الكواكب. وعلى هذا الزعم تكون الأرض بنتًا للشمس، وتكون الكواكب أخوة وأخوات للأرض ولدت معها في «بطن» واحدة. وبديهي إذا أخذنا بهذا الرأي أن الأرض بدأت حياتها ككتلة من الغاز الحار. هذه الكتلة الغازية الحارة جعلت تفقد من حرارتها عن طريق الإشعاع فتحوَّلت بمرور الزمن إلى سائل، ولعلها استغرقت خمسة آلاف سنة أو أقل في هذا التحول، وبعد ذلك استمرت درجة الحرارة في الانخفاض حتى تجمَّدت مادة الأرض أو معظم مادتها. وبطبيعة الحال استغرقت عملية التجمد أطول من عملية التحول إلى سائل، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن درجة حرارة الأرض قد هبطت فقل إشعاعها، وثانيهما أن الأرض قد انكمشت فقل سطحها المشع. ولعل التجمد حدث في نحو عشرة آلاف سنة، وعلى ذلك تكون الأرض قد تجمَّدت في نحو خمسة عشر ألف سنة من وقت ولادتها. وهي مدة ضئيلة إذا قيست بعمر الأرض الذي سبق أن ذكرنا أنه ٢٠٠٠ مليون سنة. (٢) انفصال القمر والمظنون أن القمر انفصل عن الأرض حوالي الوقت الذي بدأت فيه تتجمد، فالقمر إذن هو ابن الأرض كما أن الأرض بنت الشمس. وليس القمر بالحفيد الوحيد للشمس فإن للكواكب الأخرى أقمارًا أو توابع انفصلت عنها كما انفصل القمر عن الأرض. ويزعم البعض أن حوض المحيط الهادي هو الحفرة التي نشأت عن انفصال القمر عن الأرض. فمن المعلوم أن حوض المحيط الهادي يشغل نحو نصف سطح الأرض، وأن القارات اليابسة متجمعة في النصف الآخر. كما أنه من المعلوم أيضًا أن الصخور التي يتكوَّن منها هذا الحوض ترجع إلى عصور جيولوجية عظيمة القِدَم. ومع هذا كله فلا أميل إلى الرأي الذي ذكرته من أن حوض المحيط الهادي هو الحفرة التي نشأت عن انفصال القمر عن الأرض؛ لأن الأرض في الغالب كانت في حالة سيولة عندما انفصل القمر عنها.
50
960
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Scientific Studies
Ali Mustafa Meshrefa
STEM
Specialized
3,010,050
BAREC_Hindawi_28504718_001.txt
مقدمة: الجوانب المتعدِّدة لعلم النفس والأوجُه الكثيرة للأفلام الأفلام — شأنها شأن كلِّ الفنون — مشبَّعة بالعقل البشري؛ فهي من صُنع البشر، وتُجسِّد أفعالًا بشرية، ويشاهدها جمهور من البشر. إنها شكلٌ فنيٌّ مفعم بالحيوية البالغة، يستخدم صورًا متحرِّكة أخَّاذة، وأصواتًا نابضة بالحياة، للربط بين صُنَّاع السينما والجمهور عبر شريط السيلولويد والحواس. إليك القصةَ التالية:1 وُلد مارتن سكورسيزي في حيِّ فلاشِنج بنيويورك عام ١٩٤٢م، ونشأ في حيِّ ليتيل إيتالي (الحي الإيطالي) ذي الطبيعة القاسية بأقصى جنوب مانهاتن. ونتيجة لمعاناته من مرض الربو، لم يكن يستطيع أن يلعب مثل بقية الأطفال، فكان يَقضِي جُلَّ وقتِه في مشاهدة الأفلام في منزله؛ حيث حَمَاه ذلك إلى حدٍّ ما من شوارع نيويورك سيتي الوضيعة، لكنه أورثه شعورًا بالوِحْدة والعُزْلة. وقد انغمس في المذهب الكاثوليكي انغماسًا عميقًا، وارتاد معهدًا دينيًّا لفترة قصيرة قبل أن يلتحق بكلية السينما بجامعة نيويورك. شكل ١-١: روبرت دي نيرو في دور ترافيس بيكل في فيلم «سائق التاكسي» ١٩٧٦ (حقوق النشر محفوظة لأرشيف إيه إف/آلمي). وبحلول منتصف السبعينيات، أصبح سكورسيزي واحدًا من شباب المُخرِجين الطموحين (إلى جانب آرثر بن، وفرانسيس فورد كوبولا، وستيفن سبيلبرج وآخرين)، الذين كانوا يُحدِثون ثورةً في هوليوود آنذاك. وفي عام ١٩٧٦م، أخرج فيلم «سائق التاكسي» (تاكسي درايفر) الذي يَدور حول سائق تاكسي مضطرب عاطفيًّا، يُدعى ترافيس بيكل، يقع في شَرَك شوارع نيويورك سيتي المُزعِجة. وقد قام الممثل روبرت دي نيرو ببطولة الفيلم، فمَنَح صراعاتِ ترافيس الداخلية النفسية واقعيَّةً رائعة. كان «سائق التاكسي» إنجازًا رائعًا جمع بين اللغة الفجَّة، والصور المُربِكة، والتقنيات السينمائية المبتكَرة. ففي أحد المشاهد الشهيرة، تستعرض الكاميرا بلقطة تفصيلية، بطيئة الحركة ومأخوذة من أعلى، المذبحةَ الناجمة عن محاولة ترافيس الملتوية لإنقاذ مومس قاصرة (أدَّتْ دورَها جودي فوستر). واعتُبر هذا المشهد على وجه الخصوص عنيفًا للغاية، حتى إن جمعية الفيلم الأمريكي أصرَّتْ على أن يُغيِّر سكورسيزي لون الدم؛ كي لا يصنَّف الفيلم ضمن فئة «للكبار فقط». شكل ١-٢: المخرج مارتن سكورسيزي يُمسِك مسدَّسًا في موقع تصوير فيلم «سائق التاكسي» (حقوق النشر محفوظة لشابيرو/كوربيس). شكل ١-٣: جون هينكلي الابن، الذي حاول اغتيال رونالد ريجان عام ١٩٨١م، واقفًا أمام البيت الأبيض (حقوق النشر محفوظة لبيتمان/كوربيس). بالرغم من أن موضوع الفيلم أقلُّ مِن أنْ يوصَف بأنه تجاري، فقد حقَّق نجاحًا مدوِّيًا وشهد إقبالًا جماهيريًّا كبيرًا. وقد انقسمتْ ردود أفعال الجمهور؛ إذ زعم بعض المشاهدين أن الفيلم ليس فقط مبهرًا على المستوى التقني، لكنه أيضًا يجسِّد رحلة تطهيرية من الغوص داخل النفس المجروحة، سواء نفوس الأشخاص أو أمريكا ذاتها. بينما رأى آخرون الفيلم على أنه استغلالي ومُضلِّل على المستوى الأخلاقي؛ فالمشهد الذي يَنظُر فيه ترافيس — وهو عاري الصدر لكنه مدجَّج بعدد كبير من المسدسات والأجربة — إلى المِرْآة ويَسأل بنبرة تهديد: «هل تُخاطبني؟» أصبح جزءًا من اللغة المتداولة. في عام ١٩٨١م، شاهد أحد المتفرِّجين — ويُدعَى جون هينكلي الابن — الفيلم ١٥ مرة في إحدى دُور العرض المُخصَّصة للعروض القديمة. وقد أوحى له الفيلم باغتيال الرئيس ريجان كي يَجذِب اهتمام جودي فوستر التي كان هينكلي مهوُوسًا بها عاطفيًّا. باءتْ محاولةُ الاغتيال بالفَشَل، لكنَّها أسفرتْ عن إصابة ريجان بطَلْق ناري وإصابة عدد كبير من الأفراد بجروح خطيرة؛ من بينهم جيمس برادي، السكرتير الصحفي لريجان، الذي أُصيب بالشلَل بقيةَ حياته. شُخِّصت حالة هينكلي على أنها فِصام ارتيابي، وتمَّتْ تَبرِئتُه استنادًا إلى إصابته بالجنون. وقد أصبحتْ تلك الواقعة جزءًا من الجدل الثقافي حول الدفْعِ بالجنون، والحدِّ من انتشار الأسلحة، ودَوْر وسائل الإعلام في المجتمع. وبعد مُضيِّ أكثر من ثلاثين عامًا، لا يزال النُّقَّاد وأساتذة الجامعات يستشهدون كثيرًا بفيلم «سائق التاكسي» للتدليل على أهمية أشياء كثيرة على اختلاف أنواعها؛ كالروح الثقافية للسبعينيات، وتشويه الحقيقة في الصور التي تقدِّمها وسائل الإعلام، وطبيعة التفكير الارتيابي، وهكذا.
28
682
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Cinema and Psychology
Skip Dyne Young
Social Sciences
Specialized
3,010,051
BAREC_Hindawi_28504718_002.txt
أين علم النفس في هذه القصة؟ من الواضح أنه في كلِّ مكان. لقد امتَزَجَتِ الخلفية الشخصية لسكورسيزي المتأصِّلة في بيئة اجتماعية قاسية مع مواهبه وهواجسه الفردية. فتيمات الخطيئة، والمعاناة، والعدوانية، والخلاص تتجلَّى في أفلام مثل «سائق التاكسي»، ليس في القصة فحسب، لكن أيضًا في اختيار زوايا الكاميرا ونظام الألوان. وإدراكًا منهم بأن للفن علاقةً مع العالَم الموجود خارج دار العرض، أثنى بعض المشاهدين على الفيلم؛ إذ قدَّم تجسيدًا استبصاريًّا للجنون والعفن الثقافي، بينما وجده البعض الآخر مُزعِجًا، وعبَّروا عن قلقهم مما يبعثه من رسائل. كذلك اتخذه أحد المشاهدين العُصَابيين نموذجًا يُحتَذَى في اغتيال الرئيس. وباستطاعة المرء أن يتخيَّل بسهولة كتابًا كاملًا بعنوان «علم نفس سائق التاكسي». لعل السؤال الأكثر كشفًا هو: ما الجانب الذي لا يتعلَّق بعلم النفس في هذه القصة؟ هناك عناصر يُمكن فصلُها عن دائرة علم النفس؛ ربما الاستخدام «التقني» للَقَطات التتبُّع أو السمات «التاريخية» لأمريكا في السبعينيات، بَيْدَ أن هذه التمييزات تنهار لو فكَّرتَ فيها أكثر مما ينبغي. ففي كل الأحوال، تشكِّل لقطات الكاميرا الأساس الذي تقوم عليه التجربة الإدراكية للجمهور. وتاريخ السبعينيات مجسَّد في شخصيات مثل ترافيس، وفنَّانين مثل سكورسيزي، وأفراد من الجمهور مثل هينكلي. فما إنْ تبدأ في البحث عنه، حتى لا يكون باستطاعتك الهرب من علم النفس في الأفلام. ربما كانت هناك طُرق أخرى للحديث عن الأفلام دون تسليط الضوء على العناصر السيكولوجية، لكنْ بصفتي متخصصًا في علم النفس، لستُ متأكدًا من السبب الذي قد يجعل أيَّ شخص يرغب في ذلك.
16
266
14-nun
14
6
4
3
Hindawi
Cinema and Psychology
Skip Dyne Young
Social Sciences
Specialized
3,010,052
BAREC_Hindawi_28504718_003.txt
(١) أهداف الكتاب الفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا الكتاب هي أن جميع الأفلام مُفعَمة بالعناصر السيكولوجية، وزاخرة بالدراما الإنسانية التي تمَّ تناوُلُها من العديد من الزوايا المختلفة. وممَّا له دلالة في هذا الشأن أن كلًّا من علم النفس المعملي والتحليل النفسي الإكلينيكي ظهر في اللحظة التاريخية نفسِها تقريبًا التي ظهرتْ فيها السينما؛ نهاية القرن التاسع عشر. 2 ومن الواضح أن التأثير الثقافي لكلٍّ مِن علم النفس والسينما على القرن التالي وما بعده كان هائلًا. فعَلَى امتداد هذا المسار التاريخي، كان هناك العديد من المناسبات التي شَخَصَ فيها علماء النفس بأبصارهم نحو السينما، مثلما كان هناك العديد من الأوقات التي شَخَصَتْ فيها السينما ببصرها نحو علماء النفس. وهذا الكتاب يقدِّم لمحةً من هذا التضافر الساحر بين علم النفس والسينما. ما من سبيل لتقديم خلاصة ولو موجَزة لكل الأعمال التي تناولتْ علم النفس في الأفلام في كتاب واحد. فحجم القَدْر المُتاح من دراسات وتحليلات وتعليقات هائل بحقٍّ، وجدير ليس بكتاب واحد فقط، بل بمكتبة كاملة. ففي عام ١٩١٦م، وضع واحد من أبرز علماء النفس الأوائل (ولا يزال الأكثر بروزًا في الوقت الحالي)، هوجو مونستربرج، كتابًا بعنوان «المسرحية السينمائية: دراسة سيكولوجية»، ومنذ ذلك الحين شهدت تلك الدراسة توسُّعًا مستمرًّا على مدار القرن. وكتابي هذا يُمكن النظر إليه باعتباره دليلًا إلى «المكتبة الدولية لعلم النفس والسينما» الأسطورية؛ إذ يُساعد في التعرُّف إلى أقسامها المختلفة ولَفْت الانتباه إلى بعض الأعمال الأكثر إثارةً للاهتمام. سأسعى في هذا الكتاب إلى تغطية نطاق واسع من الحقول البحثية المتنوِّعة. وبحسب علمي، لم يحاول أيُّ كتاب آخَرَ أن يضمَّ بين دفَّتَيْه مثل هذا العدد الكبير من المقارَبات المتبايِنة. فهو يتناوَل كلَّ شيء؛ بدايةً من التحليل النفسي الفرويدي لهيتشكوك، إلى الشعبية الخارقة لأفلام بعينها، وحتى السلوك العدواني تجاه الدُّمْيَة بوبو المستوحَى من أفلام الأطفال. في ظل الوَفْرة الهائلة التي شهدتْها دراسات الأفلام، فإنها تجزَّأت إلى أقسام أكثر من ذي قَبْل؛ فمعظم الكتب الصادرة مؤخَّرًا التي تتناول قضايا متعلِّقة بعلم النفس والسينما، تُغطِّي على الأرجح فصلًا واحدًا أو فصلين اثنين من الفصول التي يحتويها هذا الكتاب. وأنا آمُل أن أُميِّز، على امتداد صفحات هذا الكتاب، بين المقارَبات المختلفة، وأن أصِفَ بدقة القضايا الأساسية، وأقدِّم أمثلة سينمائية موحية. وفي كل الحالات، لا تهدف تلك النظرة الشاملة إلى أن تكون نهائية وقطعية؛ فهي تتوخَّى، بدل ذلك، تقديم بعض المفاتيح التي تساعد في إجراء المزيد من البحث والاستقصاء. يتوجَّه هذا الكتاب في المقام الأول إلى جمهور قُرَّاء قوامُه الطلاب وغير المتخصصين من عشَّاق السينما و/أو علم النفس. لهذا، فهو يخلو نسبيًّا من المصطلحات المتخصصة، وفي الحالات التي سأُضطرُّ فيها لاستخدام بعض المصطلحات التقنية، سأتوقَّف لتوضيحها. إن جميع التقاليد البحثية التي يناقشها هذا الكتاب تضرب بجذورها في ظواهر إنسانية جوهرية ذات صلة بالسينما، فضلًا عن كونِها مَثَارَ فضول الكثير من الناس. وتتمثَّل مُهِمَّتي في استجلاء تلك النقاط، التي تَحظَى بافتتانٍ واسع المَدَى، للجمهور العريض. والكتاب، علاوةً على ذلك، قد يكون ذا فائدة لمَن لديهم اطِّلاع جيِّد على جوانب معيَّنة من علم نفس الأفلام. فمِن خلال عَقْد صلات بين مجالات بحثية متنوِّعة، يتمُّ اقتراح مسارات بديلة للبحث قد تحمل بعض الإرشادات حتى للمتخصصين. فهدفي، في نهاية المطاف، هو مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس على تذوُّق الأفلام معنا على نحوٍ أكثر اكتمالًا. لقد أهَّلتْني خلفيَّتي الشخصية والمِهْنية جيدًا لهذه المهمَّة، وفوق ذلك كلِّه عشقي للسينما. فمنذ تلك الرحلات التي كنتُ أقوم بها مرتين أسبوعيًّا إلى دار العرض الكئيبة الكائنة في إحدى القواعد العسكرية الأمريكية بألمانيا التي نشأت عليها، وقعتُ في غرام السينما. وعند عودتي إلى الولايات المتحدة وأنا في العاشرة من عمري تقريبًا، اكتشفتُ أعاجيب ثورة الكَبْل المتنامية باطِّراد، والتي أتاحتْ مشاهدة عدد كبير من الأفلام. وفي سنوات مراهقتي، شكَّلت الرحلات إلى دار العرض ومحلات تأجير شرائط الفيديو جزءًا أساسيًّا من حياتي الاجتماعية وأوقات اختلائي بنفسي. وتعلَّمتُ أنْ أُحِب كلَّ أنواع الأفلام — الأمريكية والأجنبية، الجماهيرية والفنية، الجديدة والقديمة — بَيْدَ أنني شُغفتُ على نحوٍ خاص بهيتشكوك، وأفلام التشويق بوجْهٍ عامٍّ، والكوميديا الساخرة السوداء. لقد كان هذا الشَّغَف بالسينما هو ما قادني إلى العديد من الاختيارات الدراسية عند الْتِحاقي بالكلية. وباعتباري طالبًا في جامعة ميامي (أوهايو)، اخترتُ علم النفس كتخصص رئيسي، ودراسات السينما كتخصص فرعي، فضلًا عن كتابة مقالات نقدية عن الأفلام لمجلة الكلية. وقدَّمتُ أطروحةَ بحثي عن تجربة طلاب الكلية مع مشاهد العنف في الأفلام، واستخدمتُ فيها فيلم «القطيفة الزرقاء» (بلو فيلفت) الذي كان يُعرَض وقتَها في دُور السينما، كمحفِّز أساسي. وفيما بعدُ، اخترتُ أن أُنجِز مشروع تخرُّجي في جامعة كلارك، في ورسستر، بماساتشوستس؛ نظرًا لمكانتها الفريدة في تاريخ علم النفس الأمريكي؛ إذ شارك في تأسيسها عالِم النفس الأمريكي الرائد الشهير جي ستانلي هول، 3 كذلك تأثَّر الطابع الفكري للجامعة تأثُّرًا عميقًا بعد أن استقرَّ فيها هاينس فيرنر، المتخصِّص في علم النفس التطوري، بعد فراره من ألمانيا النازية. اعتَبَر هاينس أن «التطور» هو «مفهوم» موجِّه يأخذ في الاعتبار معنَى أنْ يُحرِز البشرُ تقدُّمًا باتجاه نقطة نهائية متخيَّلة (مثل النُّضْج، التَّسامِي، التنوير، السعادة، إلخ). وقد تميَّزتْ مقاربتُه بكونها أكثرَ انفتاحًا على التفكير المتعدِّد الاختصاصات مقارنةً بالجزء الأكبر من التيار السائد في علم النفس الأمريكي؛ حيث جمعتْ أعماله بطبيعة الحال بين التطور عند الأطفال، وعلم الإنسان، وعلم النفس الإكلينيكي، والفلسفة. 4 كانت تلك الروح الطليقة في أوْج ازدهارها أثناء دراستي بالكلية في التسعينيات، حين تدرَّبتُ كعالِم نفس إكلينيكي، لكن هذا لم يمنعني من الانهماك في مطالعة فروع أخرى من علم النفس (مثل علم النفس التطوري، وعلم النفس الثقافي، وعلم النفس السردي، وعلم النفس العصبي)، فضلًا عن تأثُّري بمجالات بحثية متداخِلة الاختصاصات مثل الفلسفة التأويلية والدراسات الأدبية. 5 وانتهى بي المطاف بالحصول تقريبًا على تعليم جامعي ليبرالي كلاسيكي. وفي ظل هذا المناخ الخصب، واصلتُ متابعة اهتماماتي في مجال علم نفس الأفلام. عندما حان وقت الانخراط في الحياة العملية، انجذبتُ بطبيعة الحال إلى كليات العلوم الإنسانية. فهذه النوعية من الكليات (الصغيرة عادةً) تتَّبِع منهجًا في التعليم يتميَّز بالشمولية وتعدُّد الاختصاصات، وتسعى إلى تعليم طلابها مهارات ذهنية أساسية؛ مثل الكتابة، والتفكير النقدي، والقدرة على المشاركة في حوار عقلاني. أعملُ حاليًّا أستاذًا في قسم علم النفس بكلية هانوفر في ولاية إنديانا منذ ١٥ عامًا؛ حيث أقوم بتدريس مقرَّرات ذات منحًى إكلينيكي؛ مثل الاضطرابات السلوكية والاستشارة والعلاج النفسي، بالإضافة إلى مقرَّرات محبَّبة إليَّ مثل علم نفس الأفلام. كما أنني أُمارِس أيضًا علم النفس الإكلينيكي برخصة مزاولته. ساعَدني العملُ بالتدريس في كلية للعلوم الإنسانية في الإعداد لكتابة هذا النص؛ فقد أمضيتُ آلاف الساعات على مقربة شديدة من الطلاب، ما بين إلقاء محاضرات لمجموعات صغيرة، ومناقشة الأفكار في حلقات دراسية، والجلوس مع الطلاب وهم يعملون في مشروعات مستقلَّة. وكثيرًا ما كنتُ أستعين بالسينما، والموسيقى، وغيرهما من الوسائل الرمزية كوسائل تعليمية. وطلابي إجمالًا أفراد أذكياءُ، لدَيْهم حبُّ استطلاع، لكنهم لا يُشارِكون أساتذتهم اللغة نفسَها على الدوام. ربما كان هذا شيئًا جيدًا؛ فعندما يقضي المرء وقتًا أطول ممَّا ينبغي بصحبة «خبراء» آخَرين، يكون من السهل أن يَتُوه بين المصطلحات والتفاصيل التقنية وينسَى الافتراضات الأساسية التي تُشكِّل قوام الميدان البحثي. ومن ناحية أخرى، يَمِيل الطلاب الجامعيون إلى طرح الأسئلة الأساسية التي لا تكون ساذجة مطلقًا، وإنما كثيرًا ما تتوجَّه إلى صُلب الموضوع. وأريد لكِتَابنا هذا أن يُركِّز بالمثل على صُلب الموضوع. مثَّلت نوعية الدراسة المتوقَّعة في كلية للعلوم الإنسانية مزيَّة في عملية تأليف هذا الكتاب. ففي بعض الأحيان، يُشار إلى كليات العلوم الإنسانية على أنها «كليات تدريس»، مما يدلُّ على القِيمة الرفيعة التي تُسبِغها تلك المؤسسات على التدريس وتعليم الطلاب. فالأساتذة في معظم تلك الكليات لا يعملون بمنطق «النشر أو الهلاك» الذي يَسِم قسمًا كبيرًا من التعليم المعاصر. ورغم أنني نشرتُ أعمالًا في مجال علم النفس والسينما، إلا أنني كان لدَيَّ مطلق الحرية للقيام بأبحاث حول قدرات الحفظ عند الطلاب، وحتى عن موسيقى بوب ديلان. وفي المقابل، أصبح الكثير من الأكاديميين المعاصرين شديدي التخصص، لدرجة أن الباحثين كثيرًا ما يعملون في مجالات بحثية فرعية ذات أقسام فرعية، لا تسمح إلَّا بالحدِّ الأدنى من التواصُل مع الأفراد من خارج تخصُّصهم، حتى المُنتَمِين منهم إلى المجال البحثي ذاته. أما فلسفة العلوم الإنسانية المُطبَّقة على الدراسة، فتتطلَّب منهجًا تكامليًّا متعدِّد الاختصاصات. ومن هنا، يضم هذا الكتاب نطاقًا واسعًا مصمَّمًا لتغطية العديد من التقسيمات الفكرية الراهنة، ونتيجة لذلك سيكون — كما نأمل — حافزًا للقرَّاء الذين يتمتعون بانفتاح عقلي يهتمُّ بكلِّ ما يخصُّ السينما وعلم النفس.
66
1,457
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Cinema and Psychology
Skip Dyne Young
Social Sciences
Specialized
3,010,053
BAREC_Hindawi_28504718_004.txt
(٢) القصة والترفيه والفن في الأفلام موضوع هذا الكتاب هو «الأفلام»؛ وهي مفردة يَفهَم الجميع معناها بطريقة حدسية. ومع ذلك، هناك بعض الغموض حول الهوامش التي قد تُسبِّب ارتباكًا في بعض الأحيان. من هنا، وسعيًا لتضييق نطاق البحث، سوف أركِّز على الأفلام «السردية، السينمائية المصنوعة لأهداف فنية/ترفيهية». بعض هذه المصطلحات يستحقُّ أن نتفحَّصه. الأفلام السردية: معظم الأفلام التي سنناقشها يروي قصصًا لها بداية، ووسط، ونهاية. بعض تلك الحكايات بسيط، وبعضها الآخر معقَّد. بعضها يروي قصصَه بطريقة مباشرة جدًّا، بينما بعضها الآخر يستخدم تقنية الفلاش باك (مثل «تيتانيك»)، أو الغموض المتعمَّد (دوني داركو) أو متواليات زمنية مُربِكة (مثل «خيال رخيص» (بالب فيكشن)). ومن حين لآخَر، فإن فيلمًا تجريبيًّا مثل «كويانيسكاتسي»، الذي يكاد أن يستغني تمامًا عن القصة لصالح التركيز على حركات، وأشكال، وألوان مجردة، يَجِد له جمهورًا، لكنَّ هذا أمرٌ نادر الحدوث. ومن هنا، سأفترض، بوجه عام، أن هناك شيئًا في البِنْية السردية يَجِده الناس آسِرًا على نحو خاص. معظم الأفلام التجارية تروي قصصًا خيالية؛ فهي لا تزعم أنها تعرض الأحداث كما وقعتْ بالفعل. وحتى تلك الأفلام التي تتناول سِيَر أشخاص وتجاهد في سبيل الدقة التاريخية، يتمُّ فهمُها بوصفها «إعادة تجسيد» لأحداث ماضية. والأفلام الوثائقية استثناء من ذلك؛ لأنها تستهدف تقديمَ بَشَر حقيقيين وأحداث حقيقية. لكن، في معظم الأحوال، تُصاغ تلك الأفلام بحيث تروي قصةً عن شخص، أو حدث، أو ظاهرة ما. فلقد تمَّ التوسُّع في أسلوب الأفلام الوثائقية بما يتجاوز البرامج الإخبارية التليفزيونية و«قناة هيستوري» لتشمل أفلامًا حقَّقت نجاحًا كبيرًا؛ مثل «فهرنهايت ٩/١١»، و«مسيرة البطاريق» (مارش أوف ذا بينجوينز)، و«في انتظار سوبرمان» (ويتنج فور سوبرمان). ورغم أن القصص الوثائقية تتمتع بسمات سيكولوجية مختلفة نوعًا ما، فإن بؤرة اهتمام هذا الكتاب هي الأفلام الروائية. والأفلام التجارية الطويلة هي، على وجه التحديد، محطُّ اهتمامي الرئيسي؛ ذلك لأن معظم الناس ليست لديهم الفرصة لمشاهدة الأفلام القصيرة أو أفلام الهواة بصفة منتظمة. الأفلام السينمائية: قبل الخمسينيات، كانت جميع الأفلام تُنتَج بهدف عرضها على شاشة دار عرض لجمهور واسع، ومنذ ذلك الحِين، أصبحتِ الأفلام التي تُنتَج لكي تُعرَض في دور العرض تُوزَّع في صِيَغ مختلفة على شاشات التليفزيون، وشرائط الفيديو، وأقراص الدي في دي، وأقراص البلو راي، وأجهزة الكمبيوتر، إلخ. واليوم، هناك العديد من الأعمال السردية المرئية يتمُّ إنتاجُها من أجْل وسائط عرض أخرى غير شاشة السينما (مثل المسلسلات القصيرة (ست كوم) التي تُنتَج للعرض التليفزيوني أو للتوزيع على أقراص دي في دي). وثمة الكثير من السمات النفسية المشترَكة بين الفيلم والوسائط المرئية الأخرى. ومن هنا، يحدِّد بعض الباحثين موضوع دراستهم بأنه «الوسائط»، وليس «الفيلم» ولا «التليفزيون». بَيْدَ أن الأفلام السينمائية تتمتَّع بتاريخ ومكانة خاصة، مقارنةً بالوسائط المرئية الأخرى التي تحمل سمات سيكولوجية فريدة. وبينما سأُشير من حين لآخر إلى التليفزيون وغيره من أشكال الثقافة الجماهيرية، فإنني أَميل أكثر إلى الأمثلة المأخوذة من الأفلام السينمائية. الأهداف الفنية/الترفيهية: تحتوي جميع أشكال الترفيه على خصائص فنية، كما تحتوي جميع الفنون على خصائص ترفيهية. ويَمِيل مصطلح «الترفيه» إلى الإشارة ضمنًا إلى أن الناس يَسعَوْن إلى الشيء لأنه مُمْتِع. من المفترض أيضًا أن يَجِد الناس متعةً ما في تجاربهم الفنية، وإلا فإنهم على الأرجح لن يسعَوْا إليها مرة بعد أخرى. فالمشاهِدون الذين يزعمون أنهم يشاهِدون الأفلامَ لقيمتها الجمالية «فقط»، وليس لأنهم يستمتعون بها، إنما هم منغمسون في طقس مازوخي بعيدًا تمامًا عن الشغف الواضح لعشَّاق أفلام كلٍّ من آدم ساندلر وإنجمار بِرجمان (وبالطبع، فإن فرويد كان سيذهب إلى أن ذوَّاقة الجمال المازوخيين يجدون متعةً غير واعية في مشاهدتهم الطقوسية تلك على كل حال). يركِّز هذا الكتاب اهتمامه على تشكيلة واسعة من الأفلام؛ من الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، إلى نُفايات الثقافة الرديئة، وكل ما بينهما. فمصطلح «فن» يَمِيل إلى الإشارة ضمنًا إلى أن شيئًا ما يمتلك صفة خاصة تولِّد تجربة تأمُّلية ذات مغزًى. بَيْدَ أن هذه الصفة قد تكون متوافرة في أكثر أفلام هوليوود ترفيهًا؛ مثل «حرب النجوم» (ستار وُرز)، و«كازابلانكا»، و«ساحر أوز» (ذا ويزارد أوف أوز).
37
760
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Cinema and Psychology
Skip Dyne Young
Social Sciences
Specialized
3,010,054
BAREC_Hindawi_29046147_001.txt
بيان هذا الكتاب يتضمَّن مباحثَ مختلفة في موضوعات شتَّى علمية واجتماعية، وهو الجزء الثاني من مجموعة كتاباتنا. والمباحث المنشورة فيه كُتبت في أزمان مختلفة ونُشرت في صحف مختلفة أيضًا. وقد جمعتُها هنا غيرَ ملتزم في ترتيبها تاريخَها بحسب وضعها، فقد يكون المبحث كُتب أخيرًا ونُشر هنا أولًا، وبالضد. وحاولت أحيانًا أن أضمَّ الموضوعات المتقاربة بعضها إلى بعض، ولكني لم أتعمَّد ذلك دائمًا؛ إما لصعوبة الجمع، وإما بقصد أن يَجِدَ القارئ في التنقُّل بين المختلفات راحةً قد لا يجدها بين المؤتلفات. وهي مباحث ربما كان على بعضها أثر من الجدَّة بيننا في الماضي، وأما اليوم فالأفكار قد ألِفتها حتى يخال لي أنها صارت قديمة في هذا العهد الجديد الراقي. ولا أقلَّ من أن يدلَّ هذا البعض بعض الدلالة التاريخية للمتعقب على كيفية نشوء الأفكار في الشرق. وهذا حسبي من نشرها، وكفى. الدكتور شبلي شميل مصر، في ٢٤ ديسمبر سنة ١٩٠٨ المقالة الأولى حوادث وأفكار١ لا أعلم من الفلسفة إلا اسمها، ولا أعي من العلوم إلا رسمها، ولا أعرف عن البسيطة الشيء الكثير، ولا أدري عن الإنسان إلا اليسير. فلا تَرْجُ أيها القارئ أن ترى مني فلسفة أرسطو، أو فصاحة ديموستين، أو رواية طاسيت، أو تَثَبُّت ابن رشد، أو إحاطة ابن سينا، أو علم نيوتن، أو خواطر باسكال، أو إسهاب فولتير، أو إصابة روسو؛ فما هي إلا حوادث يومي وأفكار ليلي. وإن شئت فقل: حوادث يومك وأفكار ليلك؛ حوادث تتوالى على الإنسان وتتناقلها الحواسُّ، فتؤثِّر في العقل تأثيرًا يجعل فيه تفكيرًا يقف به تارةً على الأرض، وأُخرى يرتفع إلى السماء، وطورًا يدخل به إلى نفسه؛ فإن في طاقة العقل أن يحكم في أعمال ذاته كما يحكم في أعمال العالم الخارجي. والمؤثرات إما مرئيات أو مسموعات أو مشمومات أو مذوقات أو ملموسات، وكلٌّ منها إما لذيذ وإما مؤلم، وبحسب درجته في اللذة والألم يكون تأثيره في العقل؛ فإن الحواس ليست إلا ناقلة لتلك الإحساسات لا شاعرة بها، فأما كيفية شعور العقل بها مع كوننا نحسبها مرسومة في الحواس نفسها، فمن أَدَقِّ مسائل علم المعقول، ومن أقوى الأدلة على وجوب تقسيم الأعمال. إلا أن تَأَثُّرَ العقل بالمؤثرات وإحكامه بها تختلف كثيرًا بالنظر إلى اختلافها واختباره إياها، فكلما كان أشد غرابةً وأعظم اختلافًا كان العقل أشد انفعالًا بها وأعظم تأثرًا؛ ولهذا كانت أميال العقل وتصوُّراته تختلف على حسب اختلاف الأقاليم، وكلما كان العقل أقل اختبارًا للمؤثرات كان أكثر توهمًا فيها؛ فإنه كثيرًا ما يتوهم بها أمرًا ثم لا يلبث أن ينفيه عنها بعد أن يزداد اختبارًا لها، وقد يصعب عليه ذلك إن تمكَّن الوهم فيه. ولَمَّا كان الأوائل أقلَّ اختبارًا من الأواخر كانوا بالضرورة أقلَّ علمًا منهم، بل كان معظم علمهم جهلًا وجلُّ أفكارهم وهمًا، وكأن الخلف يشتغلون كل يوم بإصلاح ما أفسده السَّلَفُ بحسب ما يتبين لهم بازدياد اختبارهم واتساع معارفهم. إلا أن إزالة ما فسد من المبادئ من عقول الناس لا بدَّ وأن تحُول من دونها مصاعبُ ربما أدَّت إلى إراقة الدماء؛ فإن الأوهام الراسخة في العقل بواسطة النقل مُدَّةَ قرون تكون كالحقائق الراهنة لا تحتمل تأويلًا ولا تدع للجدال سبيلًا، ولا سيما أن أفراد الأمم لا يتساوون، جميعهم، في سيرهم المعنوي، فلا نرى في كل جيل وفي كل عصر غيرَ أفراد قليلين سابقين قومهم بكثير من السنين. فعدد الجاهلين هو العدد الكثير، فهو القوي من هذه الحيثية، والقوة تغلب الحق في مثل هذه الأحوال، ولكن غلبتها حاليَّةٌ وقتيَّةٌ، وأما في المستقبل فيتأيد هذا الحق وتَجني الأواخرُ ثمرة اجتهاد الأوائل الذين كثيرًا ما لا يحصدون ما يزرعون. والغريب أن الناس لا يصبرون على بيان الحقيقة بالأدلة والبراهين إذا كانت مخالفة لآرائهم مغائرة لأهوائهم، بل ينقضونها بالقوة، وهذا مخالف للعقل غير موافق للنقل، فقد عُلم أن كثيرًا من هذه الحقائق التي حاولوا إطفاءَ نورها تأيدت وعمَّت أخيرًا، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن ينبذ حقيقة لقلة نُصرائها وكثرة أعدائها؛ فكم من حقيقة ضاعت بكثرة الجلبة، ثم كانت لها الغلبة بقوة الحق.
39
668
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Scientific and Social Studies
Shibli Shmeil
Arts & Humanities
Specialized
3,010,055
BAREC_Hindawi_29150372_001.txt
مقدمة قتل ودمار في الفردوس وبهذا الفعل البسيط، قَتَلَ الرجلان عشرين شخصًا على الفور وجرحا ما يقرب من مائة آخرين. عُثر فيما بعدُ على بقايا حقائب الظهر وأشلاء سيقانهما ورأسيهما المشوَّهة بشدة، ولكن لم يُعثر على جذع أي منهما؛ مما يدل على أنهما انتحاريان. ومع أن ذلك الحادث ليس أكبر حادث تفجير انتحاري يضرب بالي (إذ مات مائتا شخص في هجوم مخطط بسيارة مفخخة قبل عامين فقط من هذا الحادث على وجه التحديد)، فقد كان لهذا الحادث أثر خاص فينا. إذ كان المطعمان اللذان هاجمهما الانتحاريان على بعد خمسين مترًا فقط من العتبة الأمامية لمنزلنا الهادئ. كانت الجزيرة الإندونيسية التي اخترناها سكنًا لنا منتجعًا استوائيًّا آمنًا عندما انتقلنا للعيش فيها أول مرة منذ ثلاثة عشر عامًا. تتمتع بالي بتراث ثقافي مذهل الثراء، وقد حُفظ على مدار الزمن، كما أن لدى شعبها طاقة إبداعية فريدة تنبُع من عيشهم على أرض خصبة مثمرة. وكان الركن الصغير الذي اخترنا أن نعيش فيه أحلامنا الجامحة — وهو خليج جيمباران — تجسيدًا للكمال الاستوائي المذهل، لكن كما غيرت الأحداث الدولية، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شكل العالم، زادت التوترات المحلية ولم يعد ملاذُنا الهادئ محصَّنًا. بالنسبة لنا، لم يكن ذلك التفجير مجردَ حادث عشوائي لن يتكرر، إنما كان ذروة سلسلة طويلة من الأحداث المزعجة الآخذة في الازدياد، كما لو كان هناك مخطط لتدمير هذه الرقعة الآمنة من الفردوس. وإننا نشاطركم هذه القصة؛ لأننا نعتقد أنها تعكس في نواحٍ كثيرة السلسلة الدرامية من الأحداث التي نظن أنها قد تؤدِّي إلى موت الإبداع... فلنَسرُدْ خلفية الموضوع في البداية. قبل ذلك اليوم المشئوم بعشر سنوات، كانت قريتنا الهادئة التي تعتمد على الصيد — وتقع في الطرف الجنوبي من الجزيرة — لا تزال نقية نسبيًّا لم تطلها يد الفساد. لا تبعد القرية سوى ١٠ كيلومترات من صخب المركز السياحي المكتظِّ في حي كوتا، وعلى الرغم من ذلك، كانت هادئة جدًّا وطبيعية وكأنها على كوكب آخر. كانت النساء تصنع القرابين والزينة الملوَّنة الجميلة يوميًّا لتقدِّمها للآلهة، كما كان الرجال يَنحِتُون تماثيل خشبية وحجرية بالغة المهارة. بعد ذلك أتى السياح، وفي أعقابهم رائدو الأعمال مسرعين في لهفة للحصول على حصة من هذا النشاط السياحي. وعندها، تغيَّر محور التركيز في المكان جذريًّا. بدت التغيرات الأولى بريئة للغاية، وبعد ستة أشهر من افتتاح بعض سكان المنطقة أربعة مطاعم صغيرة لشواء الأكلات البحرية على الشاطئ، استيقظنا ذات صباح لا على الصوت المعتاد اللطيف للأمواج وهي ترتطم بالشاطئ الرملي، لكن على ضوضاء ماكينة نشر مزعجة تسحقُ وتجتثُّ الأشجار الموجودة في المدخل بوحشية؛ لإفساح الطريق لإنشاء سلسلة من مطاعم مماثلة تقدِّم الأكلات البحرية. وسرعان ما اختفت الأشجار، ونُقلت الأبقار إلى مراعٍ أكثر خضرة، وتحوَّل الحقل جذريًّا إلى موقف كبير للسيارات، ممهَّد وجاهز لاستيعاب أعداد هائلة من حافلات السياح. ولم يعُدْ لدى السكان المحليين وقتٌ لعباداتهم الدينية ولا للفنون الثقافية، كما نشأت خلافات بينهم حول من يمتلك المطاعم ومن يحصل على العمل ومن يَجْنِي المال. ومع توالي الشاحنات المحملة بمواد البناء، تبدَّل الحقل الأخضر الذي تحفُّه الرمال أمام منزلنا، وصار موقعًا لمائة وعشرة مطاعم مذهلة مكتظة بالناس ومشبعة بالدخان، وكلٌّ منها نسخةٌ طبق الأصل للمطعم المجاور له؛ بلا ابتكار أو إبداع، بل مجرد صفوف وصفوف من الرتابة المدفوعة بوعود جني المال. توافَدَ آلاف السياح إلى المنطقة، وسرعان ما تراكمت القمامة، وتسبَّبت حافلات السياح في سد الشوارع الضيقة، وبدأت المياه العكرة الملوثة تطغى على الرمال التي يومًا ما كانت نقية. وصار الهواء مثقلًا بدخان الشواء الخانق ليتسبَّب في انهمار دموع عينيك كلما سرت في الطرقات، وتسميم سكان المنطقة كلَّ يوم بلا شك. نعم، لقد اقتحمت السياحة رقعتنا من الفردوس وستترك لدى رحيلها علامة لا تَنْمَحِي. وبمرور الوقت، انهال تدفق الوفود الضخمة على منطقتنا المحلية، فاختنقت بالدخان وضربها جشع التجارة ثم غزاها الإرهابيون في النهاية. هذا المكان لم يعد المكان الذي أُغْرِمْنَا به من قبل؛ إذ تحوَّل إلى شيء مختلف بالكلية، وسارت القرية التي اتسمت بالبراءة فيما مضى في اتجاه حتمي لتدمير نفسها. ولكن لا يرجع انتكاس هذا الموطن الشاطئي الجميل إلى أمر محدد بعينه، بل إلى مزيج من العوامل، إلى سلسلة من الأحداث لا أمل في الرجوع فيها بكل وضوح. فلم يتعمَّد أحد تدمير الشاطئ أو المجتمع القروي، بل لم يعترف أحد بالمساهمة في هذا القتل البطيء المؤلم. ومع ذلك، كان الأثر الناتج واضحًا للجميع. على النحو نفسه، إننا نرى أن البراءة الإبداعية تتعرض تدريجيًّا للدهس والخنق والاعتداء المباشر في جميع مجالات الحياة وفي كافة أنحاء العالم. فنصطدم مع وقائع التغيير الجذري المتوالية في حياتنا الفردية ومجتمعاتنا ومؤسساتنا، حتى إننا نجد صعوبة في مواكبة كل التغيرات. وأول ضحايا هذه العملية هو عادةً الإبداع الذي لا يمكنه تحمُّل مثل هذه الضغوط الخارجية بسهولة. وحال اختناق الإبداع كمِثل حال تخريب خليج جيمباران، فلم يكن أي منهما متعمَّدًا. فليس ثمة مجرم أو منظمة (كما نأمل! ) ممن لديهم خطة شاملة لتحويلنا إلى كائنات من الموتى الأحياء بلا مخيلة. فيبدو أن البراءة الإبداعية التي كانت تعرفنا وتميِّزنا في صغرنا تاهت وسط السعي لتحقيق الأهداف الشخصية أو المؤسسية. ويبدو الأمر كأننا نغفل المبادئ والشغف الذي يمدنا بالهدف، ونفقد الدافع والقدرة على الإبداع أثناء تلك العملية. وفي حين كان الجميع في بالي مشغولين بجني المال من السياح، احتضر الشاطئ النقي وانهارت القيم الأساسية لمجتمع بالي المبدع. واليوم تسقط العديد من المؤسسات في الفخ نفسه؛ فتسعى وراء جني الربح قصير الأمد في مقابل خسارة القيم الراسخة، وهذا مثال واضح للبراءة المفقودة. تشير آخر الأبحاث إلى أن متوسط مستوى الذكاء يرتفع مع كل جيل، بينما بقي متوسط مستوى الإبداع راكدًا حتى عام ١٩٩٠، وبعدها أخذ في الهبوط. ويفقد الكثير منا حِسَّ الإبداع الذي تمتعنا به حينما كنَّا صغارًا بمرور الوقت. فنلتحق بالمدرسة وكلنا حماس وانطلاق وأفكار جديدة، لكننا نتخرَّج بعد اثنيْ عَشَرَ عامًا وقد تعلَّمنا في أغلب الأحيان أهمية أن نكون «على صواب» بدلًا من «التحلي بالإبداع». وكذلك يلاحَظ قمع الإبداع في الكثير من المؤسسات. ورغم أن كثيرًا من رواد الأعمال يبدءون بأفكار جديدة ومبتكرة، فإن الذين يُديرون مؤسساتهم في نهاية المطاف يتعلَّمون تأسيس أنظمة وهياكل تكفل الاستقرار، وغالبًا ما تتعارض هذه العملية مع الحاجة إلى التفكير الإبداعي. إذن فما هو الإبداع بالضبط؟ ولماذا نشعر بأن له من الأهمية ما يستوجب الحفاظ عليه من الدمار؟
53
1,061
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Who Killed Creativity?
Andrew Grant and Jaya Grant
Social Sciences
Specialized
3,010,056
BAREC_Hindawi_29257536_001.txt
شكر وتقدير من بين كثيرين ساعدوني في تأليف هذا الكتاب، أوَد أن أعبِّر عن شكري لكِرستن دِماتا، وإيما مارشنت، ولاثا منون — جميعهم من مطبعة جامعة أكسفورد — لتشجيعهم ودعمهم ومساهمتهم التحريرية، ورحابة صدرهم التي لم تكن — لحسن الحظ — مطلقة، الأمر الذي حثني على عدم الإطالة حتى يخرج هذا الكتاب إلى النور. كما أتوجه بالشكر إلى روبرت شاباك؛ لمساعدته الكريمة بينما كنت لا أزال أعمل في معهد الرياضيات العددية والتطبيقية بجامعة جورج أوجست في جوتينجين ولملاحظاته على النسخة قبل الأخيرة من مخطوطة هذا الكتاب. وإلى ديفيد دافنبورت، وأوجو باجالو، وكريستوف شولز؛ لملاحظاتهم. وإلى زوجتي أنَّا كريستينا دي أوزوريو نوبري؛ لمساهمتها وملاحظاتها القيمة، خاصةً في الفصل السادس، ولما تضفيه على حياتنا من بهجة. أشعر بالامتنان الشديد إلى أكاديمية العلوم في جوتينجين؛ نظرًا لشرف انتخابي لمنصب كرسي أستاذية جاوس خلال العام الأكاديمي ٢٠٠٨-٢٠٠٩. وإلى جامعة هرتفوردشاير؛ لكرمها معي في جدول التدريس أثناء زيارتي جوتينجين وإنهاء هذا الكتاب. مقدمة يهدف هذا الكتاب إلى تقديم خطوط عامة عن ماهية المعلومات؛ عن طبيعتها متعددة الأوجه، وعن الأدوار التي تلعبها في العديد من السياقات العلمية، وعن الموضوعات الاجتماعية والأخلاقية التي تثيرها أهميتها المتزايدة. الخطوط العامة انتقائية بالضرورة، وإلا فإنها لن تكون مختصرة جدًّا أو تتسم بطابع تقديمي إلى الموضوع. آمل أن يساعد هذا الكتاب القارئَ في فهم التنوُّع الكبير في الظواهر المعلوماتية التي نتعامل معها يوميًّا، والأهمية العميقة والأساسية لها، ومن ثَمَّ مجتمع المعلومات الذي نعيش فيه. إن طبيعة المعلومات من حيث كونها تتجلى في صورٍ كثيرة، وما تتسم به من كثرة المعاني يسيء إلى سمعتها؛ فقد ترتبط المعلومات بالكثير من التفسيرات، بناءً على وجهة النظر المُتبنَّاة والمتطلبات والرغبات التي يسعى لها المرء. وفي معرض كلامه عن المعلومات كان أبو نظرية المعلومات كلود شانون (١٩١٦–٢٠٠١) حذرًا جدًّا حين قال: منح كُتَّابٌ عديدون كلمة «معلومات» معاني مختلفة في المجال العام لنظرية المعلومات. ربما تثبت فائدةُ بعض هذه المعاني في بعض التطبيقات بما يجعلها تستحق المزيد من الدراسة والاعتراف بها بصورة دائمة. «من الصعوبة بمكانٍ توقُّع أن يقدِّم مفهوم واحد للمعلومات تفسيرًا مُقنِعًا للتطبيقات الممكنة المتعددة لهذا المجال العام.» (جرى تنصيص الجملة الأخيرة للتأكيد. ) في حقيقة الأمر، دعَّم وارن ويفر (١٨٩٤–١٩٧٨) — أحد رواد الترجمة الآلية والذي شارك شانون في تأليف كتاب «النظرية الرياضية للاتصال» — تحليلًا ثلاثيًّا للمعلومات من حيث: (١) المشكلات الفنية المتعلِّقة بالتحديد الكَمِّي للمعلومات والتي تناولتها نظرية شانون. (٢) المشكلات الدلالية المتعلقة بالمعنى والحقيقة. (٣) ما أسماه المشكلات «المؤثرة» المتعلقة بأثر وفعالية المعلومات على السلوك الإنساني، والتي رأى أنها تلعب دورًا مساويًا في الأهمية. يقدِّم شانون وويفر مثالين مبكرين على المشكلات التي يثيرها أي تحليل للمعلومات؛ فقد يكون فيض التفسيرات المختلفة محيرًا، وتكثر الشكاوى حول سوء فهم وسوء استخدام فكرة المعلومات في حَدِّ ذاتها، حتى وإن كان ذلك دون أي فائدة ظاهرية؛ لذا يسعى هذا الكتاب إلى وضع خريطة بالمعاني الرئيسية التي يتحدث من خلالها المرء عن المعلومات، ويجري وضع الخريطة بالاعتماد على تفسير مبدئي للمعلومات يعتمد على مفهوم البيانات. ولسوء الحظ، فإن هذا التفسير الاختزالي أيضًا قابل للاختلاف معه. وإنصافًا لهذا المنهج يمكن القول بأنه أقل خلافية من المناهج الأخرى إذا جازت الإشارة إلى إيجابيات هذا المنهج. بطبيعة الحال، يجب أن يبدأ أي تحليل مفهومي من موضعٍ ما، وهو ما يعني عادةً تبنِّي تعريف قائم للموضوع قيد النظر. لكن ليست هذه الملاحظة المعتادة هي التي أريد التأكيد عليها هنا، فالصعوبة هنا أكثر من ذلك بكثير؛ حيث لا تزال عملية صياغة مفهوم المعلومات تقف عند حدود تلك المرحلة المؤسفة عندما يؤثِّر عدم الاتفاق على أسلوب صياغة وتأطير المشكلات مؤقتًا، وبناءً عليه، يمكن أن توضع إشارات «أنت هنا» المتعددة الواردة في الأشكال التوضيحية في هذا الكتاب في مواضع مختلفة. الهدف الرئيسي لهذا الكتاب هو وضع عائلة المفاهيم حول المعلومات على الخريطة بصورة راسخة؛ ومن ثَمَّ التمكين من إجراء المزيد من عمليات التعديل وإعادة التوجيه. الفصل الأول
32
684
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Information
Luciano Floridi
STEM
Specialized
3,010,057
BAREC_Hindawi_29382427_001.txt
كلمة المؤلِّفة لقد أطلعني العديد من العلماء والمرضى على ما لديهم من معلوماتٍ وتجارِب من أجل هذا الكتاب. ولم يأتِ ذِكرُهم كلهم ذِكرًا مباشرًا في هذه الصفحات، لكنني في غاية الامتنان لكل واحد منهم. الاقتباسات التي لم يُشَر إليها في المُلاحَظات مأخوذةٌ من مُقابلاتٍ أجريتُها شخصيًّا مع مَرْضى ومُعالِجين. أما كلُّ الاقتباسات المُشار إليها فهي إمَّا من مُقابلاتٍ معي، أو من مصادرَ منشورةٍ أخرى، وعليها علاماتٌ في النصِّ، مع ذِكر المصدر في الملاحظات. وقد غيَّرتُ أسماء بعض الأشخاص؛ حمايةً لخصوصيتهم، وفي هذه الحالات أُشير إلى الشخص باسمِه الأول فقط. في الحالات التي يُذكَر فيها الاسم بالكامل، تكون هُويَّة الشخص الحقيقية. (باستثناء ديفيد في الفصل الأول، وفاهينا في الفصل العاشر؛ فهذان اسماهما الأوَّلان الحقيقيَّان. ) المقدمة ذاتَ صباحِ يومٍ من أيام العمل في الصيف الماضي ذهبتُ إلى المُتنزَّه العام. كان المشهد مُبهجًا شأنَ مَشاهد جنوب لندن، حيث الأطفال يخوضون في النوافير، ويلعبون كرة القدم على العُشب. جلستُ على حافة الملعب الرملي مع اثنتَين أُخريَين من الأمهات، وفي أيدينا كريم الوقاية من أشعَّة الشمس، وكعك الأرز، بينما نُراقِب أطفالنا يبنون قِلاعًا غيرَ مُتوازِنة بجواريفَ بلاستيكيةٍ زاهيةِ الألوان. إحدى المرأتَين كانت أمًّا مرِحةً ومُتكلِّمة كنتُ قد التقيت بها للتَّو، وكانت قد أخذت توضِّح لي كيف شفاها الطبُّ التجانسي من إكزيما مُنهِكة استمرَّت طويلًا. قالت: «إنني أُحبُّ العلاج التجانسي!» وبصفتي عالمةً كان لا بد أن أعترض. فالعلاج التجانسيُّ في واقع الأمر عبارةٌ عن ماء (أو أقراص سكَّر) في زجاجاتٍ أنيقة؛ فأيُّ مادة فعَّالة تُخفَّف في هذه الأدوية لدرجة عدم بقاء جُزيء واحد من المادة الأصلية. هكذا قلت: «لكن أدوية العلاج التجانسي لا تحتوي على أي مادة فعَّالة.» رمقَتني صديقتي الجديدة بنظرةِ استهزاء. وأجابت قائلةً: «إنه ليس بالشيء الذي «يُمكن قياسه».» كأنني بليدة الفهم بعضَ الشيء لعدم إدراكي أنَّ خصائصه العلاجية ناتجة عن ماهيَّةٍ غامضة تفُوق إدراك العلماء. وقد شعرتُ أنها لخَّصَت بهذه الجملة واحدةً من المعارك الفلسفية الرئيسية الدائرة في الطب حاليًّا. احتشد في جهةٍ أنصارُ الطب الغربي التقليدي. وهم عقلانيون، ويتبعون نهجًا اختزاليًّا، وآراؤهم نابعة من العالم المادي. والجسد وَفقًا لنموذجهم الفكري أشبَهُ بآلة. وفي أغلب الأحوال، لا يُعتدُّ بالأفكار والمُعتقَدات والمشاعر في علاج الحالات المرَضية. فحين تعطب آلة، لا تتبادل معها الحديث. يستخدم الأطبَّاء أساليبَ مادية — أشعاتٍ وتحاليلَ وأدويةً وجِراحات — لتشخيص الحالة وإصلاح الجزء المعطوب. في الجهة الأخرى، لدينا، لنَقُل، كلُّ ما عداهم؛ أتباع الطب القديم والبديل والشرقي. تُعطي هذه التقاليدُ الشموليةُ الأولويةَ للجانب غير المادي على المادي؛ للناس على الحالات؛ للمشاعر الذاتية والمُعتقَدات على النتائج الموضوعية للتجارِب. بدلًا من وصف العقاقير المادية يستخدم المُعالجون الوخْزَ بالإبر الصينيَّة والعلاج الروحاني وممارسة الريكي الروحانية، زاعمين أنهم بذلك يُسخِّرون مجالاتِ الطاقة غير الملموسة. ولا يأبَه دُعاة الطب التجانسي بأن أدويتهم لا تحتوي على أي أثر مادي ملموس للمادة الفعَّالة؛ لأنهم يؤمنون بأن «ذاكرةً» غير مُستبانة للدواء تظلُّ باقية بطريقةٍ ما. ما زال الطب التقليدي هو السائدَ في الغرب، إلا أن ملايين من الناس يَتَّبعون الطبَّ البديل. في الولايات المتحدة، تُناقَش باستمرارٍ عجائب العلاج الروحاني وعلاج الريكي في برامج الأخبار التلفزيونية. ويَستخدم ما يصل إلى ٣٨٪ من البالغين شكلًا ما من الطب التكميلي أو البديل (٦٢٪ إذا أضَفنا إلى ذلك الصلاة). ويُنفقون على ذلك سنويًّا نحو ٣٤ مليار دولار،ويقومون بما يصل إلى ٣٥٤ مليون زيارة إلى المُعالِجين بالطبِّ البديل (مقارنةً بنحو ٥٦٠ مليون زيارة إلى أطبَّاء الرعاية الأوَّلية). في لندن، حيث أقطُن، من الشائع أن تُلبِس الأمَّهاتُ أطفالَهن قلائدَ كهرمان اعتقادًا منهن أنَّ لهذا الحجر الكريم القدرةَ على دَرْء ألم التَّسنين. وترفض نساءٌ ذكيَّات ومُتعلمات إعطاءَ لقاحات ضرورية لأطفالهن، ومثل صديقتي، يَتَّبعن علاجاتٍ غيرَ منطقية علميًّا. لا غَرْو أن العلماء يُقاوِمون هذه الاتجاهات.
39
654
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Healing
Joe Marchant
STEM
Specialized
3,010,058
BAREC_Hindawi_29480383_001.txt
تقديم يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة التي نُشر بعضها في مجلات ثقافية متنوعة على فترات زمنية مختلفة، وما زال البعض الآخر — حتى كتابة هذا التقديم — قيد النشر. وقد كانت بعض هذه الدراسات مساهمة في مناسبات خاصة؛ فالدراسة الأولى التي جعلناها العنوان الرئيسي لهذا الكتاب «الحصاد الفلسفي للقرن العشرين» تمَّت في إطار المشروع الكبير الذي تبنَّته مؤسسة عبد الحميد شومان الأردنية عن «حصاد القرن العشرين»، وهو المشروع الذي رصد كل ألوان المعرفة من علوم وفنون وآداب على مدى قرن من الزمان، واختصت هذه الدراسة بالحصاد الفلسفي للقرن العشرين. وكانت الدراسة الخاصة ب «المفارقة التاريخية عند نيتشه» مشاركة في احتفال العالم بمرور مائة عام على رحيل نيتشه. وقد كنت في ذلك العام في مهمة علمية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعاصرت هذه الاحتفالات التي تمثلت في إقامة عددٍ كبير من المؤتمرات والندوات التي اهتمت بإعادة إحياء فكر نيتشه واكتشافه من جديد، ومحاولة تقييمه، وإعادة الاعتبار له. وفي هذه الفترة الزمنية نفسها — أي فترة وجودي بالولايات المتحدة الأمريكية — تعرفت عن قرب على فكر الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي عندما حضر إلى ولاية فرجينيا حيث كنت أقيم — وقد كان يعمل بجامعتها أستاذًا للعلوم الإنسانية قبل انتقاله إلى ولاية كاليفورنيا — وذلك للمشاركة في احتفال قسم الفلسفة بجامعة فرجينيا التكنولوجية ببلوغ إحدى عضوات هيئة التدريس فيه عامها التسعين. وينظر الأمريكيون إلى ريتشارد رورتي على أنه الفيلسوف الأول للدولة ومجدِّد البراجماتية. وقد دفعتني هذه المناسبة إلى التعرف على فكر هذا الفيلسوف، وتمكنت من الحصول على مؤلفاته، فكانت الدراسة الخاصة ب «دور الفلسفة في الثقافة المعاصرة، بحث في آراء فيلسوف البراجماتية الجديدة ريتشارد رورتي». وعلى الرغم من تنوع موضوعات هذا الكتاب وانتمائها إلى الفكر الغربي، إلا أن ما يربطها جميعًا هو التوجه النقدي لهذا الفكر الذي لم نكتفِ بعرضه، والتعريف به، والإطلال عليه فحسب، بل تناولناه تناولًا نقديًّا في محاولة للحوار مع هذا الفكر والوقوف منه مواقف تحليلية وتقييمية يمكن أن تفيد في تفعيل نشاطنا الفلسفي في العالم العربي. ولعل النقد — بعد العرض والتعريف الضروريَّين — أن يكون هو إسهامنا الحقيقي والإيجابي في الفكر العالمي — على الأقل في مرحلتنا الحالية — الأمر الذي يمكن أن يبلور لدينا نظريات ومدارس فلسفية ما زلنا نفتقر إليها في حياتنا الفكرية المعاصرة. في النهاية أرجو أن يساعد هذا الكتاب على إعطاء القارئ فكرةً عن بعض ما يدور في الساحة الفلسفية الغربية من دراسات وحوارات ومشكلات وقضايا لا مفر لنا من الإلمام بها، والتعرف عليها، واتخاذ المواقف النقدية المناسبة منها، بحيث يؤدي ذلك كله إلى إثراء حياتنا الفكرية وحفز طموحاتنا إلى التقدم والنهضة الحقيقية. الإسكندرية، في أغسطس ٢٠٠٢م الحصاد الفلسفي للقرن العشرين مقدمة يعيش العالم الآن الأيام الأخيرة من القرن العشرين. ومع اقتراب النهاية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى تعالت صيحات بعض المفكرين، فمنهم من يتنبأ بنهاية العالم، ومنهم من يقول بنهاية التاريخ، وآخرون يُعلنون نهاية الفلسفة، ولكن أين الحقيقة من الأوهام في هذه المزاعم؟ إذا تناولنا الزعم القائل بنهاية الفلسفة، وحاولنا فحْصه للوقوف على حقيقة الأمر فيه، فلا بد ونحن على مشارف الألف الثالثة للميلاد أن نتخذ موقف المراجعة النقدية لكل الاتجاهات الفلسفية التي سادت القرن العشرين، وأن نرصد حركة التفكير الفلسفي — وهو موضوع هذا البحث — حتى نتبين هل أفضتْ هذه الحركة إلى وضْع نهاية لهذا التفكير بالفعل أم لا؟ وكيف تجلت الروح النقدية بأشكال وصور مختلفة في جميع التيارات الفلسفية التي سنتعرض لها بالرصد والمتابعة والتقييم؟ وأخيرًا هل استطاعت الفلسفة طوال مائة عام — وهي الحقبة الزمنية التي يتناولها البحث بالتقييم — أن تواكب احتياجات المجتمع المتغيرة في تلك الفترة التاريخية التي تميزت بالاحتجاج والتمرد على كل ما هو مألوف ومعتاد؟ وإذا كان الرد على هذا السؤال بالإيجاب، فما هي السمات العامة للتفكير الفلسفي التي ميزت القرن العشرين عن القرون الماضية؟ وهل استطاعت الفلسفة أن تلحق بركب التطورات السريعة للتقدم العلمي والاجتماعي، بحيث أصبح وجودها لازمة ضرورية مصاحبة لهذا التطور؟ أم أن الطفرات التي حققها التقدم المذهل في العلوم الطبيعية قد أزاح دورها الريادي؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تراجعت الفلسفة بالفعل عن مكانتها بما يسمح للبعض بإعلان نهايتها؟ وهل النهاية المقصودة في هذا المقام تعني المعنى الحرفي للكلمة، أم هي إعلان بنهاية المشكلات التقليدية للفلسفة ومنع طغيانها على الفلسفة المعاصرة؟ أم هي إيذانٌ بتحولات جديدة في التفكير الفلسفي وفي طرح مشكلاته كما تمثلت في الثلث الأخير من القرن العشرين؟
29
730
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Philosophical Harvest of the 20th Century
Atiyah Abu Al-Saud
Arts & Humanities
Specialized
3,010,059
BAREC_Hindawi_29537472_001.txt
البحث عن الحقيقة ما هذا الذي حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ أسئلة كان من الصعب تمامًا أن يُجيب عليها الإنسان وسط زوبعة الرمال والتراب، وعُواء القطط والكلاب، وفرقعات مُسدَّسات الأطفال، وقنابل الصوت التي كانت تَحفل بها الساحة، والذي تفجَّر فجأةً في أوائل أبريل الماضي إثر نشر إعلان — مُجرَّد إعلان — عن مقالات سبع ستنشرها لي جريدة القبس الكويتية، وتنقلها عنها بعض جرائد الخليج والأردن؛ فحتى ذلك الوقت كانت الساحة السياسية هادئةً أو شبه هادئة، وكان الشدُّ والجذب يدور حول حتمية «التغيير» وضرورته؛ ذلك الذي تُطالِب به المعارضة، وعدم ضرورة التغيير الفوري وخطورته؛ ذلك الذي تراه السلطة وبالذات قيادة الحزب الوطني الحاكم. وكأنه كان غريبًا أن تظهر مقالاتي في نفس ذلك الوقت. فأنا لست طرفًا في اللعبة السياسية الدائرة منذ حادث المِنصَّة حول السادات، أو هكذا بدوت، وأن أطلع فجأةً على القرَّاء برأيٍ خطير في أنور السادات مسألةٌ قيل في تأويلها كل ما يمكن أن يخطر على بال إنسان موتور أو حتى حسن النية، غير أن أحدًا لم يتوقف للحظة ويتساءل عن الحقيقة، ولماذا بدا أني خرجت على الناس فجأةً برأي في السادات، وكأنني قد اتفقت مع الأستاذ هيكل ومع الصحف العربية التي نشرت كتابه ومقالاتي في «مؤامرة» للنَّيل من الرئيس الراحل، معًا وفي وقتٍ واحد. وفي الجانب الذي يخصُّني سأُورد هنا ولأول مرةٍ حقيقةَ أفكاري ومشاعري تلك التي انتهت بنشر المقالات السبعة. والبداية الحقيقية كانت في أوائل يونيو عام ١٩٨٢م، حين اجتاحت جيوش إسرائيل لبنان تضرب وتذبح وتُنكِّل وتحرق وتنسف وتقتل المدنيين والعسكريين، الأطفال والنساء والشيوخ، ويُتوَّج الأمر بمذابح صبرا وشاتيلا في النهاية. كان غزو لبنان نقطة تحوُّل كبرى في تفكيري. ذلك أني كنت أعتقد أن الضرر الذي حدث من كامب ديفيد كان قاصرًا إلى ذلك الحين على عزل مصر عن شقيقاتها العربيات، وربط مصر ربطًا مُحكَمًا بالاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية؛ للسيطرة على المنطقة بتحييد أكبر وأهم دولة عربية باستطاعتها التصدي للأطماع الإسرائيلية أو الأمريكية أو المشتركة في المنطقة. ولكن غزو لبنان أكَّد لي الشعور بأن كامب ديفيد لم تكن إلا مجرد خطوة على الطريق، أو بالأصح البداية الحقيقية لفترة طويلة قادمة، هي فترة السيادة الإسرائيلية بالقوة الغاشمة على المنطقة؛ تلك السيادة المطلوبة والمدعومة والمسنودة تمامًا من الولايات المتحدة الأمريكية. وتَصادف أني كنت قد انتهيت من قراءة الجزء الأول من مذكرات كيسنجر، وأيضًا مذكرات الرئيس الأمريكي السابق كارتر، وبدأت تُنشَر في خريف عام ٨٢ أيضًا مذكرات محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية إبَّان مفاوضات كامب ديفيد. والحقيقة أني تابعت قراءة تلك المذكرات التي كانت تنشرها جريدة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن، وكنت أُتابع ما يُنشر من فصولها (التي بلغت حوالَي الثلاثين صفحة من صفحات الجريدة) في شغف، وإلى درجةٍ دفعتني لكتابة مقال في نفس الجريدة كان ردًّا على بعض الأقلام التي هاجمت محمد إبراهيم كامل في صحف القاهرة، وعابت عليه نشره لمذكراته كوزير خارجية سابق. وحين انتهى نشر المذكرات، وبالإضافة إلى ما عَلِق بذاكرتي من مذكرات كيسنجر وكارتر عن نفس الفترة، وجدت أني قد بدأ يتكوَّن لي رأيٌ خطير فيما فعله السادات في كامب ديفيد، وفيما فعلته كامب ديفيد في السياسة المصرية والعربية. وكما ذكرت، بدأت أكتب هذا الرأي لنفسي كما قلت آنفًا في إحدى مقالاتي السابقة، ثم بدأت أجد أن رأيي هذا يستلزم الرجوع إلى شخصية السادات ودوره في الثورة المصرية وشخصيته والخطة التي بناها كيسنجر، ومُرتكَزها الأساسي تلك الشخصية الساداتية الفريدة في تاريخنا كله. كتبت الآراء على هيئة خمس مقالات، كان موقفي فيها امتدادًا لما كتبته عشيةَ الغزو الإسرائيلي للبنان باعتبار أنه جزء من الخطة الكبرى المرسومة للمنطقة. بل إن دافعي الأول لكتابة تلك المقالات لم يكن مجرد «البحث عن السادات»، كان في الحقيقة محاولة للبحث عن الخطة العظمى المرسومة للمنطقة، والتي أدخل السادات نفسه فيها عن إرادة ووعي؛ لا ليستغلها هو لمصلحة مصر، وإنما لكي تستغله هي — أي الخطة — لمصلحة أمريكا وإسرائيل. وحين تسرَّب خبر كتابتي للمقالات، في حوالَي فبراير ١٩٨٣م إلى الجرائد الكويتية، تلقَّيت عرضًا من جريدة القبس، عن طريق مدير مكتبها في القاهرة، لنشر المقالات في الجريدة المذكورة والحصول على حق نشرها في كل المشرق العربي. ووافقت.
28
698
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Searching for Sadat
Yusuf Idris
Social Sciences
Specialized
3,010,060
BAREC_Hindawi_29593738_001.txt
كلمة تمهيدية جرت العادة المألوفة بين الأمم المتمدنة ألا يجوز لسياسي نشر ما عرفه من خفايا الأمور في إبَّان وظيفته وإباحته إلا بعد مُضِي خمسٍ وعشرين سنة على الأقل من تاريخ حدوثها. ولا تسمح الوزارات الخارجية بالاطِّلاع على التقارير السِّرية المحفوظة في خزائنها، إلا بعد تَصرُّم خمسين سنة على وفاة محررها. هذا هو السبب الذي من أجله تربَّصتُ إلى هذا اليوم لنشر بعض الحوادث السياسية التي مثلتُ بها دورًا، أو وقفتُ على خفاياها طيلة السبع عشرة سنة التي تولجتُ في أثنائها القنصليات الأربع الكبيرة؛ وهي بوردو، وباريس، وبروكسل، وبونس إيرس. هذا وقد شاءت الأقدار أن يكون إنشاء هذه القنصليات ما عدا قنصلية باريس من نصيبي. ولا يغرب عن الذهن ما يجده المرء عند مفتتح الأعمال الخطيرة من المشاق والعراقيل والمعضلات. ومن المعلوم أيضًا أن مهمة القناصل اقتصاديةٌ أكثر منها سياسية، أما أنا فكان حظِّي منها أن تكون مهمتي سياسية أكثر منها اقتصادية، مع أني لم أكن قط ميَّالًا إلى هذا السلك. فإن ما تلقنته في دار العلوم السياسية في أثناء إقامتي الطويلة بباريس، وما درسته من تواريخ الساسة والسياسة جعلاني أدرك أنني لست من أربابها؛ إذ يترتب على السياسي أن يكون ذا أخلاقٍ وسجايا خاصة. فإذا كان حاد المزاج مثلًا أو عديم الصبر والأناة أو سريع التأثر فلا يصلح قط لتلك المهنة. يروى عن البرنس دي تالايرين الذي كان وزير خارجية نابوليون الأول، والذي يُضرَب المثل بحنكته ودهائه أنه إذا ضربه أحد في قفاه، فلا يختلج له سُرٌّ من أسارير وجهه. وعلى السياسي أن يُبدي كثيرًا عكس ما يُكمن ويعتقد، وأن يتظاهر بجهله ما يعرف ومعرفته ما يجهل. ويحق له أن يكذب لخدمة وطنه وحكومته. وليس ذلك بمستغرب؛ إذ لا أزال أذكر، عندما كنت طالبًا بكلية اليسوعيين في بيروت، أن أستاذًا في الفلسفة شرح لنا في أحد الأيام ما يسمُّونه «الكذب التقي»، وهو أنه يَحلُّ للمرء أن يكذب إذا كان ينجُم عن كذبه خيرٌ. والداهية «بسمارك» قد افتخر بتزويره ما يسمونه «برقية أيمس» التي كانت سببًا لشهر الحرب السبعينية بين فرنسا وألمانيا. وإلى القارئ تفصيل الحادثة، مأخوذة بحروفها من مفكِّرات «بسمارك» نفسه. قال بعد أن ذكر كدَرَه العظيم من تساهل مليكه «غليوم الأول» نحو سفير فرنسا: عزمت على الاستقالة من منصبي، فدعوت إلى تناول الطعام في منزلي، المارشال «مولتك» (قائد الجيوش البروسية وقتئذٍ)، ووزير الحرب الجنرال «روون». وبينما نحن على الطعام جاءني ساعٍ بيده برقيةٌ مكتوبة بالأرقام، يوقِّعها مستشار الملك الخاص في أيمس (حيث كان يستحم) فأمرتُ بحلها سريعًا. ولما أتاني بها قرأتها على مسامع ضيفيَّ، فعَلَتْ على وجهَيْهما ملامحُ الكآبة من الضعف الذي أبداه الملك أمام سفير فرنسا، وقد تجاوز الحد في قحته، وانقطعنا عن الطعام والشراب. أما أنا فاستعَدْتُ قراءة تلك الرسالة مرارًا، وكان الملك غليوم قد أذن لي بنشرها، فأخذت حينئذ قلمًا وحذفت منها بعض الجمل فانقلب معناها انقلابًا تامًّا، ثم التفتُّ إلى المارشال «مولتك»، وألقيت عليه أسئلةً مختلفة تتعلق بجيوشنا ومهماتنا وعاقبة الحرب، أو هل الأجدر بنا التربص قليلًا ريثما نكمل استعداداتنا لها؟ فأجابني للحال: إذا كان لا مندوحة من الحرب؛ فالأولى بنا السرعة في شهرها؛ وإلا فكل مماطلة تجرُّ علينا أخطارًا. فقرأتُ عليهما الرسالة فأبرقتْ أسارير وجهَيْهما، وقالا: قد تغيرت نغمتها الآن. فقلت: ستصل هذه الرسالة إلى باريس قبل منتصف الليل، وسيكون تأثيرها على الثور الفرنساوي تأثير الراية الحمراء. ونجاحنا السياسي منوطٌ بشَهْر الحرب علينا؛ إذ يهمنا قبل كل شيءٍ أن تكون فرنسا البادئة بإعلان الحرب، وأن نكون نحن مدافعين. فسرَّ المارشال «مولتك» بذلك سرورًا عظيمًا، ثم أرسل نظره إلى السماء وصاح: «إذا قُدِّر لي الحياة؛ كي أتمكن من قيادة جيوشنا في هذه الحرب، فإلى جهنم النار هذه العظام.» وقرَع صَدرَه بكلتا يديه. ولا يخفى أن التزوير صنيع مكروه تقتصُّ من مرتكبه العدالة، ومع ذلك، كما رأى القارئ، فقد كان «بسمارك» فخورًا بتزويره، ولم أسمع عن أحد أن انَتقَد أو جرَّم هذا الارتكاب المعيب. أما أنا فإنني من رأي السياسي الإنكليزي «وليم باتل» القائل: «إن الحقيقة وحدها يجب أن تكون دعامة السياسة.» ولهذا قد اتخذتها قاعدةً لي في جميع المشاكل التي أُلقي على عاتقي حلُّها — كما سيرى القارئ في حينه — ولحسن الحظ قد تكلَّلت كلها بالنجاح. ١ ذكر الأستاذ هومبرتو دي كمبوس عضو المجمع العلمي البرازيلي قصة هامة حول موضوع السياسة والصفات التي يجب أن يتحلى بها المشتغل بالسياسة، قال: كان رجل ذا مكانة عالية في العالم التجاري وصاحب رأسمال كبير ودائرة عظيمة الاتساع. وبينما كان جالسًا في أحد الأيام في مكتبه أخذ يفكر بأحد أصدقائه مدهوشًا من نفوذه الواسع بين الناس، فنسب ذلك إلى تدخله في الشئون السياسية، فاعتزم أن ينخرط في ذات السلك. ورأى أن انتخابه نائبًا عن إحدى المقاطعات من الأمور السهلة لأسباب شتى؛ منها أنه غني ومصلح وكريم، فضلًا عن أن الشرف عنده كان في الدرجة الأولى. ثم نهض وسار رأسًا إلى دار زعيم سياسي لحزب الجمهوريين، وفاتحه بعزمه وأكد له أنه سيُرشِّح نفسه نائبًا عن إحدى المقاطعات، فأجابه الزعيم أن لا بأس بالأمر ما دام في نفسه نزعة في السياسة. ولكن عليه كسياسي أن يكون طويل الأناة، كثير الجلَد، يتحمل أقوال الخصوم بصدر رحب وثَغْر باسِم. ومضى الزعيم في حديثه وهو يفتش في محفظة أوراقه إلى أن قال: وأنا لا أشك في أن لديك وثائق تدحض أقوال خصومك المجانين الذين يتناولون حكايتك مع تلك الأرملة وأولادها! وما إن سمع التاجر الكبير هذه التهمة، حتى وقف وقال، والحدة بادية عليه: إن التهمة كاذبة من أصلها، وإنه رجل شريف لم يختلس مال أحد. وحبذا لو عرف المفتري ليريه عاقبة الاختلاق. فسكَّن بالَه الزعيم السياسي، وقال له: صبرًا يا عزيزي، هل تصرعك الحدة إلى هذا الحد وأنت تطلب السياسة ومنازعها ومراميها؟ ففطن الرجل إلى حقيقة حاله واعتذر. ولكن الزعيم قال له: حسن إذا كان ثائرك ثار لحادث بسيط من هذا النوع؛ فماذا تقول لو اطلعت على وثائق بين والدتك وشخص مجهول؟ فتغيرت ملامح الرجل إذ ذاك، وعلت وجهَه صفرة الموت، وقال: إن هذا منتهى السفالة واللؤم. فأي نذل قال هذا القول؟! وهم بالانصراف مزمجرًا.
56
1,057
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Memoirs
Amin Arslan
Social Sciences
Specialized
3,010,061
BAREC_Hindawi_29620393_001.txt
المسرح عند قدماء المصريين نشر الدكتور لويس عوض كُتيبًا عن «المسرح المصري»، جمع فيه سلسلةً من المقالات كان قد نشرها بجريدة الجمهورية، وقد لخَّصَ فيه وناقش مُجْملَ ما انتهى إليه علماء الآثار المصرية في تنقيبهم عن أصول الفن المسرحي عند المصريين القدماء، وكان اعتماده الأساسي على كتاب وضعه بالفرنسية «الأب دريوتون» الذي ظل سنواتٍ مديرًا لمصلحة الآثار المصرية وللمُتحفِ الفرعوني بالقاهرة، واسم هذا الكتاب: «المسرح المصري» وقد صدر في سنة ١٩٤٢م. وعلماء الآثار مختلفون في حديثهم عن المسرح عند قدماء المصريين، وأولئك الذين يُرجِّحون معرفة المصريين القدماء لهذا الفن، وتبعية اليونان في ابتكاره، يعتمدون على بعض النصوص والنقوش التي اكتُشِفتْ على جدران المعابد، وهم يحاولون إظهار عنصر الدراما في ذلك المسرح العتيق القائم على الأساطير الدينية، ويركزون الصراع الذي هو عنصر الدراما فيما تحمله أسطورة «أوزوريس» من صراع بين الشر والخير، والحياة والموت، والجبر والاختيار، والجريمة والعقاب. «فأوزوريس» إله الخير والحياة يدخل في صراع عنيف مع «ست» إله الشر والفناء وينتصر إله الشَّرِّ في بادئ الأمر، ولكن «حوريس» ابن «أوزوريس» ينتقم لأبيه، وتتضافر جهود «إيزيس» مع ابنها «حوريس» على الانتقام للحياة وللخير. وعلى هذا الأساس يؤكد هؤلاء العلماء أن الفراعنة قد عرفوا فن المسرح، واستقامت لهم أصوله باستقامة جوهره وهو الصراع، أي الدراما. والواقع أن المصريين القدماء كان لهم دين، وكانت لهم أساطير، وأن عنصر الدراما قد وُجِدَ في تلك الأساطير، وبذلك وُجد ما يصلح مضمونًا للفن المسرحي، ولكن هل اتَّخذَ ذلك المضمون صورة هذا الفن؟ وهل استطاع أن يتطوَّر بحيث يتخلص من دائرة الدين الضيقة ويَدْلُف إلى حياة الإنسان والمجتمع كما حدث عند الإغريق القدماء الذين أخذ عنهم العالم الأوربي الحديث صور هذا الفن وأصوله؟ ذلك ما نشُكُّ فيه أكبر الشك؛ فأسطورة «إيزيس وأوزوريس» وغيرها من الأساطير يمكن أن تُقصَّ وأن ترتَّل في المعابد، ويتناوب قَصَّها وترتيلَها نفرٌ من الكُهَّانِ في دور العبادة المغلقة، كما كان يحدث عند المصريين القدماء، دون أن يتخذَ ذلك صورة المسرحية التي ظهرت عند اليونان. وفي بلاد اليونان نفسِها نما فنُّ المسرح في أثينا كفن شعبي، بل كنظامٍ من نُظُمِ الدولة، إلى جوار أسرار الديانة في ضاحية «أيلوزيس» المجاورة لأثينا، وهذه الأسرار هي التي يعترف الإغريق بأنها نزحت إليهم من مصر، وأدَّت إلى اختلاط أسطورة «إيزيس» بأسطورة «ديميتر» ربة الخصب والإنتاج، ولم تتحوَّل تلك الأسرار قطُّ إلى فن مسرحي، ولا اتخذت صورته، بل ظلَّت ترتَّل أو تُقصُّ داخل المعابد المغلقة، وقد اكتُشفت بالفعل عِدَّة تماثيل ومعابد للآلهة المصرية «إيزيس» في أنحاء متفرقة من بلاد الإغريق ومن بينها جزيرة «ديلوس» الصغيرة التي تغطِّي المعابدُ سطحها كله. وفي الحقِّ أن الصورة Forme هي التي تميز فنًّا أدبيًّا عن غيره، فتشهد بوجوده أو عدم وجوده؛ ولذلك لا يكفي أن نعلم أن المصريين القدماء قد كانت لهم أسطورة أو أساطير دراماتيكية لنستنتج أنهم قد عرفوا فن المسرح، وذلك ما لم نتأكد من أن هذه الأسطورة قد أخذت صورة المسرحية ومُثِّلت أمام جماهير الشعب دون أن يُكتفى بترتيل الكهان لها داخل المعابد المغلقة، على أثر موكب شعبي يضجُّ أمام المعبد أو حوله، ومسألة الصورة ليست أمرًا هينًا وبخاصة في فن المسرح الذي نعرف أنه لم يستقم للإغريق إلا بعد أن نما وازدهر فنَّا الشعر الغنائي والملاحم، وعندئذٍ أو بعد ذلك بقرونٍ ظهر عندهم واستقام — على مراحل — الشِّعرُ التمثيلي الذي يتخذ صورة المسرحية بكافة مُقوِّماتِها، وبُنيت المسارح وتعهَّدتَها الدولة كدُور تربية رسمية تنفق عليها، بل وتدفع للمواطنين مكافأة على حضورهم فيها تعويضًا لهم عمَّا يفوتهم من كَسْبٍ؛ نتيجةً لانقطاعهم لمشاهدة المسابقات المسرحية طوال النهار خلال ثلاثة أيام متتابعة في مواسم بعض الأعياد؛ حيث يتبارى الشعراء وتُنحتُ أسماء الفائزين فوق لوحات من الرخام وصل إلينا الكثير منها. ولكنه إذا كان المصريون القدماء لم يصلوا إلى فن المسرح، ولم ينمُ عندهم هذا الفن، رغم وجود مضمونه الأسطوري حتى يصبح فنًّا إنسانيًّا واجتماعيًّا منفصلًا عن الدِّين وخارجًا عن نطاق الكهان والمعابد المغلقة … فإنه من الخير أن نبحث عن أسباب ذلك الجُمودِ وسر تقدُّم الإغريق القدماء في هذا المجال حتى أصبحوا رُوَّاد ذلك الفن وواضعي أسسِه، وحتى اضطررنا نحن المصريين المحدثين أن نأخذه عن الغرب الذي أخذه بدوره عن أولئك الإغريق القدماء. والجواب على هذه الأسئلة لا نظنُّ أن باستطاعتنا أن نجده إلا بالمقارنة بين عقلية المصري القديم وطريقة تصوُّرِه لآلهته، وعقلية اليوناني القديم وطريقة تصوُّره هو الآخر لآلهته. والواقع أن العقلية اليونانية قد تميزت بشيء خطير هو جماع ما يُسمَّى بالمعجزة الإغريقية، التي جعلت من ثقافتِهم الأساس العام للحضارة الحديثة، وهذا الشيء هو الولع بالإنسان والإيمان به، واتخاذه محورًا للحياة كلها بل وللآلهة نفسها، حتى سُمِّيت الثقافة الإغريقية القديمة — ولا تزال تسمى — بحقٍّ ب: «الإنسانيات»، وتفرَّعَ عن هذه الحقيقة العامة أن رأينا الإغريقيَّ القديم يتصور آلهته على شاكلة الإنسان، حتى ليعتبر دينهم القديم الدين «الناسوتي» Anthroporphiste بأدق معاني الكلمة؛ فآلهتهم وإن تكن ترمز لبعض قوى الوجود … كالضوء الذي يشتق من اسمه لفظ «زيس» zeus كبير آلهتهم، كما يمثل «رع» الشمس عند قدماء المصريين، إلا أن البون واسعٌ بين تصوُّر الشعبين لتلك الآلهة، ف «زيس» عند الإغريق كائن له كافة خصائص الإنسان وما فيه من فضائل ورذائل وعواطف ومشاعر ونزعات خير وشر، حتى لنراهم يقصُّون عنه أغرب القصص، كتنكره في شكل ثور رائع يُطامِن من ظهره لفتاة جميلة تسمى «أوروبا»، حتى إذا اطمأنت إليه الفتاة وامتطت ظهره، دلف بها إلى البحر، وخاض غِمارَه ليهربَ بها إلى الشاطئ الآخر؛ حيث يعود إلى أصله أي بشرًا سويًّا، يتزوج من الفتاة التي احتال لاغتصابها من ذويها ... وكم له من مغامرات أشد جرأة حتى ملأ الدنيا أنصاف آلهة، يعقبهم من الفتيات الجميلات اللائي يغتصبهن ... وإذا كان هذا هو شأن كبير آلهتهم، فما بالك بمن دونه من سكان الأوليمب! وأمَّا المصريون القدماء — كمعظم الشرقيين — فقد تصوَّرُوا آلهتَهم كقوى خارجة عن مجال الحياة الإنسانية، مسيطرة على تلك الحياة، وإذا كانت ترمزُ لبعض قوى الطبيعة والحياة على نحو ما يرمز «ست» للشر و«أوزوريس» للخير و«إيزيس» للإنتاج، فإن هذه الرموز لم تتَّخِذ المعنى «الناسوتي» ... ولذلك لم تتصف كل تلك الآلهة بصفة الإنسان الذي تتجمَّع فيه المتناقضات وتتصارع الفضائل والرذائل، وتتعدَّد المغامرات الدراماتيكية الإنسانية، ولم يشتبك البشر مع الآلهة كما لم يشتبك الاثنان مع قوة «الأنانكية»، أي الضرورة أو الجبر الكوني على نحو ما حدث عند اليونان. وإذا صَحَّتْ هذه الحقائق — وهي صحيحة — كان من السهل أن نتصور كيف أمكن أن يتطور المسرح الإغريقي من مجال الدِّين والآلهة وأساطيرهم إلى مجال الإنسان وحياته ومجتمعه؛ وذلك لأن تلك الآلهة لم تكن في الواقع إلا بشرًا، وإن تضخَّمَت أبعادهم وفاقت قوتهم وذكاؤهم قوة البشر وذكائهم وأبعادهم، وأمَّا عند المصريين القدماء، فإن الهُوَّةَ كانت سحيقة بين عالم الآلهة وعالم الإنسان بحيث لم يستطع أن يتخطاها الفن المسرحي حتى يفرض وجوده في عالم الآلهة وعالم الأساطير. وعلى أية حال، فإن المسيحية قد حطمت الديانة المصرية القديمة، وحلَّتْ محلها في نفوس كثير من المصريين، ثم جاء الإسلام فقضى على ما تبقى من آثار تلك الديانة، وأصبح دين الغالبية الساحقة للمصريين، وحمل الإسلام معه اللغة العربية والثقافة العربية بل والفنون العربية، وإذا صَحَّ أن الثقافة هي التي تصنع الإنسان كان من الحق أن نقرر أن مصر الحديثة عربية، وأن التراث الأدبي والثقافي الذي تتربى بفضله الأجيال المتعاقبة هو التراث العربي.
43
1,266
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Theater
Mohammed Mandour
Arts & Humanities
Specialized
3,010,062
BAREC_Hindawi_29620591_001.txt
في نسبه وأوَّليته وإسلامه هو أبو بكر عبد الله عقيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب سعد بن تيم بن حرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر … بن معد بن عدنان. وأمه: هي أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن معد بن عدنان. وكان أبو قحافة من سادات قريش في الجاهلية، وُلد سنة ٨٣ قبل الهجرة، فنشأ سريًّا نبيلًا تاجرًا ذا مكانة رفيعة في قومه، فلما أعلن الرسول دعوته كان أبو بكر أول من أسلم، ولم يُسلم أبوه إلا عام فتح مكة، وبايع رسول الله وكان قد كُفَّ بصره فجاء به ابنه يقوده إلى رسول الله، فلما رآه الرسول قادمًا قال لأبي بكر: هلَّا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتٍ، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه. ثم مسح الرسول صدره، وكان رأس أبي قحافة أبيض كالثغامة، فقال: «غيروا هذا بشيء وجنِّبوه السواد»، فكان أبو قحافة أول مخضوب خضب في الإسلام. وأما أمه فهي ممن أسلمن قديمًا وبايعن النبي أيام الدعوة الأولى في دار الأرقم. وُلد أبو بكر لسنتين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا صديقين حميمين، تصادقا ولأبي بكر ثمان عشرة سنة وللنبي عشرون في تجارة إلى الشام، وكان لا يُفارقه في أسفاره وحضره، وقد وُصِفَ أبو بكر بأنه كان أبيض البشرة نحيفًا خفيف العارضين، منحنيًا لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، معروقًا غائر العينين ناتئ الجبهة عاري الأشاجع (أصول الأصابع)، يخضب بالحناء، وشبَّ كما يشبُّ نُبلاء فتيان قريش كاتبًا عالمًا بأنساب قومه عاقلًا نبيلًا وجيهًا رئيسًا من رؤسائهم، وكانت إليه الأشناق، وهي من الديات، كان إذا تحمل شنقًا صدَّقَتهُ قريش وأمضت حمالته، وإذا حملها غيره خذلوه ولم يقبلوه، وكان يتاجر بالبزر والمنسوجات، وبلغ رأسماله أربعين ألف درهم، وكان مشهورًا بالعِفَّة والاستقامة والأمانة، ولم يشرب الخمر قط. ولما كانت الإرهاصات تأتي النبي قبل البعثة كان يقصُّ ذلك على أبي بكر؛ فقد روى شرحبيل أن النبي كان إذا برز سمع من يناديه: «يا محمد»، فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا، فأسرَّ ذلك إلى أبي بكر، وكان رسول الله قد قال لخديجة: «إني إذا خلوتُ سمعتُ نداءً، وقد والله خشيتُ أن يكون هذا أمرًا»، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك أمرًا؛ فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. ودخل أبو بكر مرة — وليس رسول الله موجودًا — فذكرت خديجة له حديثه صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلما دخل رسول الله أخذ أبو بكر بيده فانطلق به إلى ورقة، فقصَّ عليه ما يسمع، فصار ورقة يُثَبِّتُهُ ويقول له: والله إن هذا هو الناموس الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ولما بعث الله محمدًا برسالته كان أبو بكر أول من آمن به وصدَّقه، وأعلن إسلامه، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: لما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجلًا مؤلفًا لقومه محببًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه فيما بلغني: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا، وكان هؤلاء مع علي وزيد وأبي بكر النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام وصدَّقوا رسول الله. وكان أبو بكر قد اتخذ مسجدًا بفناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن فيجتمع عليه الناس ويستمعون إلى قراءته وينظرون إلى صلاته وبكائه، ولقد لقي أبو بكر على الرغم من مكانته كثيرًا من عنت جُهَّال قريش وسفهائها لإسلامه ولدفاعه عن النبي؛ فقد قالت أسماء بنت أبي بكر وقد قيل لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
41
712
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Era of the Rightly Guided Caliphs
Mohammed As'ad Talas
Social Sciences
Specialized
3,010,064
BAREC_Hindawi_30615370_001.txt
الجزء الأول ذِكْر سلطان تونس وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله، وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد بن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع الربعي، وولي أيضًا قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي أيضًا قضاءها وكان من أعلام العلماء، ومن عوائده أنه يَسْتَنِدُ كلَّ يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل، فلما أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيدُ الفطر فحضرْتُ المصلى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا في أَجْمَل هيئة وأَكْمل شارة، ووافى السلطان أبو يحيى المذكور راكبًا وجميع أقاربه وخواصه وخدام مملكته مشاةً على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصَلَّيْتُ الصلاة وانقضت الخطبة وانصرف الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تَعَيَّنَ لركب الحجاز الشريف شيخُه يُعْرَف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية وأكثره المصامدة فقد موني قاضيًا بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطئ البحر بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلًا، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه، قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيبٍ التنوخي (كامل): سقيًا لأرض صفاقسٍ ذات المصانع والمُصَلَّى محمي القصير إلى الخليــج فقصْرها السامي المُعَلَّى بلد يكاد يقول حين تزوره أهلًا وسهلَا وكأنه والبحر يحسر تارة عنه ويملَا صب يريد زيارة فإذا رأى الرقباء ولَّى وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم، وكان من المجيدين المكثرين (بسيط): صفاقسٌ لا صفا عيشٌ لساكنها ولا سقى أَرْضَها غيثٌ إذا انسكبَا ناهيك من بلدة مَنْ حَلَّ ساحَتَهَا عانى بها العاديين الروم والعربَا كم ضَلَّ في البر مسلوبًا بضاعته وبات في البحر يشكو الأَسْر والعَطَبَا قد عَايَنَ البحر من لوم لقاطنها فكلما هَمَّ أن يدنو لها هَرَبَا (رجع)، ثم وصلنا إلى مدينة قابس، ونزلنا بداخلها وأَقَمْنَا بها عشرًا لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذِكْر قابس: يقول بعضهم (رجز): لهفي على طيب ليال خَلَتْ بجانب البطحاء من قابسِ كأن قلبي عند تذكارها جذوة نار بيد قابسِ (رجع)، ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصَحِبْنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيدون، وكان بالركب قوم رماة فهابَتْهُم العرب، وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم، وأَظَلَّنَا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل، وفي الرابع بعده وَصَلْنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة، وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس، ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفًا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت، وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا، ثم صَرَفَتْهُم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا، ثم توسَّطْنا الغابة وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووَقَعَ بيني وبين صهري مشاجرة أَوْجَبَتْ فراق بنته، وتزوجْتُ بنتًا لبعض طلبة فاس، وبنيْتُ بها بقصر الزعافية، وأولمْتُ وليمة حبسْتُ لها الركب يومًا وأطعمْتُهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حَرَسَها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشان، الأصيلة البنيان، بها ما شِئْتَ من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودِين، كَرُمَتْ مغانيها، ولَطُفَتْ معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة تجلى سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغْرِب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرِب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها، وقد وَصَفَها الناس فأطنبوا، وصَنَّفُوا في عجائبها فأغربوا، وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.
57
712
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Journey of Ibn Battuta
Mohammed bin Abdullah Ibn Battuta and Ibn Jazi Al-Kalbi
Arts & Humanities
Specialized
3,010,065
BAREC_Hindawi_30848590_001.txt
مظاهر الفلك نظر القدماء إلى الشمس والقمر والنجوم كما ينظر إليها عامة الناس الآن فرأوا الشمس جسمًا منيرًا كراحتَي اليد سعة، تطلع صباحًا من الشرق وتغيب مساءً في الغرب، وبين شروقها اليوم وشروقها في الغد يوم كامل نهار وليل، فتقسم الزمان إلى أيام متساوية، ويختلف المكان الذي تشرق منه والمكان الذي تغييب فيه من يوم إلى آخر اختلافًا قليلًا أو كثيرًا فيطول النهار أو الليل بحسب ذلك. وإذا راقبنا المكان الذي تشرق منه والمكان الذي تغيب فيه في فصل الربيع حينما يكون النهار والليل متساويين؛ وجدنا أنها تشرق من الشرق تمامًا وتغيب في الغرب تمامًا، ثم تنحرف شمالًا في شروقها وغروبها، وبعد شهر من الزمان نجد أنها انحرفت كثيرًا فصارت تشرق من مكان يبعد شمالًا عن المكان الذي كانت تشرق منه وتغرب في مكان يبعد شمالًا أيضًا عن المكان الذي كانت تغرب فيه وأن النهار طال والليل قصر، وتتخطَّى ذلك جنوبًا إلى أن يصير النهار على أقصره والليل على أطوله، وتعود فتتقدَّم في شروقها وغروبها شمالًا إلى أن يعود التساوي بين النهار والليل، ثم تتخطَّى ذلك كما تخطَّتْه قَبْلًا إلى أن يصير النهار على أطوله والليل على أقصره، وتكون المدة بين الوقت الذي كان فيه النهار على أطوله أوَّلًا والمدة التي عاد فيها النهار على أطوله ثانيةً نحو ٣٦٥ يومًا، وإذا راقبنا الشمس كذلك زمانًا طويلًا وجدنا أن النهار يعود إلى أطوله والليل إلى أقصره كل نحو ٣٦٥ يومًا بالاطراد، وأن الفصول من صيف وخريف وشتاء وربيع تتكرَّر دوامًا في هذه المدة؛ أي إنَّ الشمس في دورانها الظاهر حول الأرض تُقسِّم الزمان أولًا إلى أقسام متساوية كلُّ قسمٍ منها نهار وليل وهي الأيام، وثانيًا إلى أقسام أخرى متساوية كلُّ قسم منها نحو ٣٦٥ يومًا وهو السنة الشمسية، وفي السنة أربعة فصول مرتبطة بالشمس ولو لم تكن محدودة في عدد أيامها. والقمر يُماثل الشمس جِرْمًا حسب الظاهر ولكنه أقل منها نورًا ويختلف عنها أيضًا في أنه يكون هلالًا يظهر في المساء فوق الأفق الغربي بُعَيدَ غروب الشمس وينحدر نحو الغرب ويغيب فيه ثم يظهر في المساء الثاني أعلى مما ظهر في المساء الأول، والجزء المنير منه أوسع مما كان في المساء الأول ويزيد بُعْدًا نحو الشرق وإشراقًا ليلة بعد ليلة إلى أن يتكامل ويصير بدرًا كاملًا بعد ١٤ ليلة أو ١٥ ليلة، ويتأخَّر طلوعه من الشرق ليلة بعد أخرى ويتناقص الجزء المنير منه ليلة بعد ليلة إلى أن يعود هلالًا فيطلع في الصباح قبل الشمس ويغيب في المساء بعدها بقليل، والمدة بين الهلال والهلال نحو ٢٩ يومًا ونصف يوم وهي الشهر القمري، فالقمر يحدِّد الزمان ويُقسِّمه إلى شهور قمرية ولكن هذه الشهور لا تُقسِّم السنة قسمة صحيحة كما لا يخفى. والنجوم تظهر بعدما تغيب الشمس، الكبيرة منها أولًا قُبَيل اشتداد الظلمة ثم الصغيرة عند اشتدادها، وترى كأنها تسير من الشرق إلى الغرب كما يسير القمر ليلًا وكما تسير الشمس نهارًا، فما يكون منها في كبد السماء يغرب نحو نصف الليل وما يكون منها عند الأفق الشرقي يغرب نحو الصباح ولكن ما يكون منها اليوم عند الأفق الشرقي في ساعة معلومة لا يكون هناك بعد ليلة أو ليلتين في تلك الساعة عينها، بل نراه قد تقدَّم قليلًا نحو الغرب، وبعد شهر من الزمان نرى أن تقدمه نحو الغرب بلغ سُدس الفلك؛ أي إنه يقطع السماء كلها من الشرق إلى الغرب في ستة أشهر. وبعد ستة أشهر أخرى أي بعد سنة كاملة يظهر في السماء في المكان الذي كان فيه في أول تلك السنة، والنجوم كلُّها جارية هذا المجرى كأنها تدور حول الأرض دورتين: دورة كاملة من الشرق إلى الغرب كل نحو أربع وعشرين ساعة، ودورة أخرى كاملة حول الأرض من الشرق إلى الغرب كل سنة، ويُسْتَثْنَى من ذلك خمسة كواكب تُرَى بالعين يتغير مقرُّها بين النجوم من شهر إلى آخر وهي: الزهرة والمشتري والمرِّيخ وزُحَل وعطارد، فإنَّ هذه النجوم ويقال لها: الكواكب السيَّارة والمتحيِّرة، تدور حول الأرض حسب الظاهر كل يوم من الشرق إلى الغرب كما تدور سائر النجوم ولكنها لا تدور حولها دورة كاملة كل سنة بل لها حركات مختلفة كما سيجيء. وبعض النجوم المنظورة كبير شديد اللمعان كالمشتري والشِّعرى والعيوق والدبران وبعضها صغير جدًّا لا يراه إلَّا حديد البصر، وما بقي بَين بين، وفي السماء أيضًا شيءٌ مضيءٌ كالسحاب يسير سير النجوم من الشرق إلى الغرب وهي المجرَّة أو درب التبان، ومجموع النجوم الذي يكون عند الأفق مدة شهر من الزمان حيث تغيب الشمس أطلق القدماء عليه اسم برج، وقالوا: إن الشمس تغيب في هذا البرج أو ذاك بحسب غيابها في شهور السنة، وكانوا قد قسَّموا السنة إلى اثنَي عشر شهرًا فقالوا: إن البروج اثنا عشر برجًا حسب شهور السنة سمَّوها بأسماء مختلفة وقد جمع بعضهم أسماءها العربية بقوله: حَمَلَ الثورُ جوزة السرطان ورعى الليث سنبل الميزانِ ورمى عقرب بقوس لجَدْيٍ فاستقى الدلو حوتهُ بأمانِ
37
782
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Simple Astronomy and Sky Images
Ya'qub Sarouf
STEM
Specialized
3,010,066
BAREC_Hindawi_30903814_001.txt
مقدمة بدأ كل شيءٍ ذات مساءٍ في خريف عام ٢٠٠٤. سافرتُ إلى ميونخ بدعوةٍ من الناشر هوبرت بوردا، من أجل أن أشارك فيما يُسمَّى «تبادل عفوي للخبرات مع المفكرين». لم أعتبر نفسي من قبلُ قطُّ واحدًا من «المفكرين». (لقد درستُ إدارةَ الأعمال وصرتُ صاحبَ شركة؛ أيْ إنني على العكس من أي مفكر)، غير أني كنتُ قد نشرتُ روايتين، ويبدو أن ذلك كان كافيًا لاعتباري أحد المفكرين. على المائدة جلس نسيم نيكولاس طالب، وقد كان وقتَها تاجرًا غامضًا في وول ستريت، ذا تعلُّق بالفلسفة، وقد قُدِّمتُ إليه باعتباري عارفًا بالتنوير الإنجليزي والاسكتلندي؛ خصوصًا ديفيد هيوم. كان من الواضح أن الأمر اختلط عليهم، وأنهم يَعنون شخصًا آخَر. لم أقل شيئًا وابتسمتُ بلا ثقةٍ في جماعة الجالسين، وتركتُ الصمتَ المخيِّم يدلِّل على معارفي الواسعة بالفلسفة. وعلى الفور سحب طالب كرسيًّا فارغًا إلى جواره وطلب مني مُربِّتًا على المقعد أن أتخذ مكانًا بجواره، ولحُسْن الحظ انسحَبَ الحديثُ بعد عدة جُمَلٍ قليلة من هيوم إلى وول ستريت؛ أيِ المجال الذي على الأقل أستطيع أن أتابع فيه الحوار. استمتعنا بالحديث حول الأخطاء المنهجية التي يرتكبها الرؤساء التنفيذيون دون أن نستثنيَ أنفسنا. تحدَّثنا حول حقيقة أن كثيرًا من الأحداث غير المتوقَّعة سيبدو مرجَّحًا أكثر للوقوع لو أننا ألقينا عليه نظرةً في وقتٍ لاحق. وتضاحكنا حول المستثمرين الذين لا يستطيعون فكاكًا من أَسْهُمهم، حتى بعد أن يَقِلَّ سعرُ السهم عن سعر شرائه. وكنتيجةٍ لذلك الحوار، أرسَلَ إليَّ صفحاتِ مخطوطٍ قمتُ بالتعليق عليه ونقد بعض أجزائه، ليصبح فيما بعدُ الكتابَ الذي حقَّقَ نجاحًا عالميًّا واحتلَّ مكانًا في قائمة الكتب الأفضل بيعًا؛ وهو كتاب «البجعة السوداء». ويُعزى لهذا الكتاب الفضلُ في المكانة التي يتبوَّءُها طالب بين نجوم الفكر العالميِّين. بنهمٍ معرفيٍّ يتنامى، رُحتُ ألتهم المراجعَ الخاصة ب «الأخطاء والاستدلال بالحدْس «المُدرَّب»»، في الوقت نفسه قوَّيتُ عَلاقتي مع عديدٍ من الناس الذين يمكن أن نطلق عليهم مثقَّفِي الساحل الشرقي الأمريكي. أدركتُ بعد سنواتٍ لاحقةٍ أنني، إلى جوار عملي كاتبًا وصاحب شركة، قد أتممتُ دراسةً حقيقيةً في علم النفس الاجتماعي والمعرفي. أخطاء التفكير — وهو المصطلح الذي أستعمله هنا — هي انحرافاتٌ ممنهجة عن العقلانية، التي هي الوجه المثالي والمنطقي والعاقل في التفكير والسلوك. إن كلمة «ممنهج» كلمة مهمة؛ لأننا كثيرًا ما نُخطِئ في نفس الاتجاه؛ على سبيل المثال: أنْ نُغاليَ في تقدير معارفنا أكثرُ شيوعًا من أن نُقلِّل من شأن معارفنا. كذلك فإن خطر فقدان شيء يحفِّزنا دائمًا للحركة أسرع من إمكانية كسب شيء. قد يُحدِّثنا عالِم رياضيات أن توزيع أخطائنا في التفكير منحرف (لا متماثل). ولحُسْن الحظ، أن اللاتماثُل هذا يجعل بعض الأخطاء متوقَّعًا أحيانًا. ومن أجل ألَّا أخسر تلك الثروة التي راكمتُها من خبراتي الكتابية والمهنية، بدأت في جمع قائمةٍ من الأخطاء الممنهجة، ومعها ملحوظاتي وحكاياتي الشخصية الطريفة، دون أيِّ نيةٍ سابقةٍ لنشرها ذات يوم؛ فقد كنتُ أجمعها لنفسي، ولنفسي فقط. وسرعان ما اتضح لي أن هذه الملحوظات مهمة، ليس فقط في مجال استثمار الأموال، بل أيضًا في الحياة المهنية والشخصية؛ فمعرفةُ أخطاء التفكير جعلَتْني أكثرَ هدوءًا ورزانةً؛ فقد صرتُ أتعرَّف على أخطائي في التفكير قبل أن أرتكبها، وصرتُ أستطيع أن أتجنَّبها قبل أن تتسبَّب في خسائر ضخمة. كما تمكَّنتُ لأول مرةٍ من فهم الآخرين حين يتصرَّفون على نحوٍ لا عقلاني، وتمكَّنتُ من مواجهتهم مُسلَّحًا بمعارفي، بل أحيانًا كنت أتغلَّب عليهم. أما أهم شيء حدث فهو تلجيمُ شبحِ اللاعقلانية؛ إذ كان تحت يديَّ كلُّ التصنيفات والمصطلحات والشروح التي مكَّنتْني من طرده بعيدًا. إن البرق والرعد منذ عهد بنجامين فرانكلين لم يصبحا ظاهرتَيْن أقلَّ ندرةً، ولا أضعفَ قوةً، ولا أخفَّ صوتًا، إلا أنهما صارا لا يبعثان على الخوف كما في السابق؛ وهذا ما حدث لي منذ ذلك الحين مع مسألة اللاعقلانية. وسرعان ما أثار دليلي الخاصُّ هذا اهتمامَ الأصدقاء الذين كنتُ أحكي لهم عنه، وقد قاد هذا الاهتمامُ إلى نشر عمودٍ أسبوعيٍّ في جريدة فرانكفورتر ألجيماينه تسايتونج وجريدة شفايتسر زونتاجز تسايتونج، وكذلك ألقيتُ محاضراتٍ لا حصرَ لها (غالبًا أمام أطباء، ومستثمرين، ومجالس رقابية، ورؤساء تنفيذيين)، وأخيرًا نشرتُ هذا الكتاب؛ هاكم إياه، أنتم تمسكونه الآن بأيديكم. لا أعني بذلك أنه سيكون حظكم السعيد، وإنما على الأقل سيمثِّل نوعًا من التأمين ضدَّ كلِّ ما يمكن أن تَجرُّوه على أنفسكم من حظٍّ عاثر. رولف دوبلي، ٢٠١١ الانحياز للسفينة الناجية لماذا ينبغي عليك زيارة المقابر؟ أينما نقل ريتو بصرَه وقعَتْ عيناه على نجوم الروك، سواءٌ أكانوا على شاشات التليفزيون، أم على صفحات المعجبين على الإنترنت، أم كانوا متصدِّري عناوين المجلات في برامج الحفلات. أما أغنياتهم فلا يمكن تجاهُلها؛ إذ يطغى صوتها في مراكز التسوُّق، كما تصدح على قائمة التشغيل في جهازك الذكي، وتدق آذانَك في صالة اللياقة البدنية. نجوم الروك في كل مكان، إنهم كثيرون، كما أنهم ناجحون. يؤسِّس ريتو فرقةً موسيقية مدفوعًا لتقليدِ عددٍ لا نهائيٍّ من أبطال العزف على الجيتار؛ فهل ينجح؟ إنَّ احتمالية ذلك لا تزيد قيدَ أنملةٍ فوق الصفر. ومثل كثيرين غيره، قد تنتهي به الحال راقدًا في مقبرة الموسيقيين الفاشلين. إن هذه المقبرة لَتضمُّ عددًا يزيد بعشرة آلاف ضعفٍ عن عدد الموسيقيين الذين يظهرون على خشبة المسرح، لكنْ ليس ثَمَّةَ صحفيٌّ يهتمُّ بالفاشلين، باستثناء النجوم الذين سقطوا. إن هذا هو ما يجعل المقبرة غيرَ مرئيةٍ لمَن يقف خارج المجال. «الانحياز للسفينة الناجية» (أو لِنسمِّه: ضلال النجاة) يعني أنك تُبالِغ بشكلٍ منهجيٍّ في تقدير فرص النجاح؛ نظرًا لأن النجاحات تجتذب اهتمامًا في الحياة اليومية أكبرَ كثيرًا من الإخفاقات.
54
943
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Art of Clear Thinking
Rolf Dubbly
Social Sciences
Specialized
3,010,067
BAREC_Hindawi_30908315_001.txt
شكر وتقدير يهدف هذا الكتاب إلى توصيل الأفكار الرئيسية للاقتصاد البيئي إلى قاعدة أعرض من الجماهير؛ إلى القراء المهتمين بالعالم الذي نعيش فيه، ويتناول العلاقة بين النشاط الاقتصادي والبيئة، وإمكانية وضع سياسة بيئية لتحسين نوعية الحياة التي يمكن أن ننعم بها نحن والأجيال القادمة. ويقوم هذا الكتاب على الأعمال المنشورة للعديد من خبراء الاقتصاد، وعلى النقاشات والمناظرات السياسية التي شاركتُ فيها على مدى أعوام عديدة. كان الراحل الأستاذ ديفيد فيرس أول من شجعني على التفكير في قضايا الاقتصاد البيئي. كنت معجبًا بالتزام ديفيد بتطوير التفكير الاقتصادي في السياسة البيئية، وآمل أن يكون ولو جزء ضئيل من موهبتَي الوضوح والتواصل لديه قد انتقل إليَّ ووجد سبيله إلى هذا الكتاب. على مدار العَقدين الماضيين، ناقشتُ القضايا التي يتناولها هذا الكتاب مع أجيال متعاقبة من الطلاب في يونيفرستي كوليدج لندن، وتعلمت الكثير من خبرتهم ونقدهم الواعي والتزامهم البيئي. مقدمة من منظور واسع جدًّا، يستعرض الاقتصاد البيئي كيفية تأثير النشاط والسياسة الاقتصاديَّيْن في البيئة التي نعيش فيها. فبعض عمليات الإنتاج يتخلف عنها تلوث؛ فيمكن لانبعاثات محطات الطاقة مثلًا أن تتسبب في أمطار حمضية وكذلك في الاحترار العالمي. وتؤثر قرارات الاستهلاك المنزلي كذلك في البيئة؛ فعلى سبيل المثال يمكن أن تؤدي زيادة الاستهلاك إلى زيادة المخلفات التي تُرسل إلى المحارق ومقالب القمامة الملوِّثة للبيئة. بيد أن التلوث ليس نتيجة حتمية للنشاط الاقتصادي. فبمقدور السياسات البيئية أن تفرض على الشركات المسببة للتلوث تنقية انبعاثاتها، وتشجيع الناس على تغيير سلوكياتهم. لكن بصفة عامة، ستشتمل هذه التدابير على بعض التكاليف؛ مثل تكاليف تركيب أجهزة مكافحة التلوث. لذا، هناك مقايضة: بيئة أكثر نظافة، لكن بتكاليف اقتصادية عالية. تتعلق الأسئلة المحورية في الاقتصاد البيئي بهذه المقايضة: إذا كانت حماية البيئة مكلفة، فكم ينبغي أن ننفق على مكافحة التلوث؟ هل الأمر يستحق القضاء على التلوث تمامًا، أم أن علينا تقبُّل درجة معينة منه بسبب المنافع الاقتصادية المرتبطة به؟ عند اتخاذ هذه القرارات، كيف يتسنى لنا تقييم المنافع التي يُحصِّلها الناس من بيئة أقل تلوثًا؟ ما الصورة التي يجب أن تخرج بها السياسات الحكومية الرامية إلى تقليل التلوث؟ هل يجب أن نتبنى سياسات بيئية معتمدة على السوق، عن طريق استخدام ضرائب التلوث أو تداول حقوق إطلاق الانبعاثات في تحفيز الإنتاج والاستهلاك «النظيفَيْن»؟ يقدم الاقتصاد البيئي إطار عمل للتفكير في هذه القضايا التي تمثل جوهر تلك المسائل الرئيسية في الجدل السياسي والحوار العام؛ مثل تغيُّر المناخ والطاقة النووية وإعادة التدوير والاختناق المروري. الفصل الأول الاقتصاد والبيئة استيقظ سكان لندن صبيحة يوم الجمعة الموافق الخامس من ديسمبر لعام ١٩٥٢ ليجدوا المدينة قد غشاها ضباب كثيف حمضي مائل إلى الصفرة — سحابة من «الضباب الدخاني» — خفَّض مجال الرؤية إلى بضعة أمتار فقط وعلق في أحلاق سكانها. كان الطقس باردًا منذ عدة أسابيع، واحتُجزتْ بالقرب من مستوى سطح الأرض انبعاثات السناج الكبريتي الصادرة من محارق الفحم المنزلية والصناعات وحافلات لندن الجديدة التي تعمل بمحركات الديزل بفعل طبقة من الهواء الأبرد؛ وكان ذلك انقلابًا حراريًا استمر لمدة خمسة أيام حتى تغيَّر مسار الرياح. توقفت أغلب مظاهر الحياة في المدينة. كان من الضروري أن يسير الركاب أمام الحافلات بمشعل كهربائي لإرشادها إلى طريق العودة. وكان قائدو المركبات يتبعون الأضواء الخلفية للسيارات التي تسير أمامهم، آملين في أنها تسير في الاتجاه الصحيح؛ وقيل إن البعض كان ينتهي بهم الحال في باحة المنزل الأمامية لأشخاص آخرين. أُلغيت الفعاليات الرياضية حيث لم يكن المشاهدون سيتمكنون من رؤية ما يحدث على أرض الملعب؛ ولم يتابع أحد سباق الكلاب السلوقية في وايت سيتي لمَّا لم تعد الكلاب قادرة على رؤية الأرنب الميكانيكي الذي يفترض أن تطارده. وفي يوم السبت، أُلغي عرض أوبرا «لا ترافياتا» على مسرح سادلرز ويلز بعد الفصل الأول؛ لأن الضباب الدخاني كان قد تسرب إلى المسرح وتسبَّب في إصابة المطربين والجمهور بالسعال والاختناق. كانت لندن معروفة لزمن طويل بضبابها الكثيف — «حساء البازلاء» كما سماه السكان المحليون — لكن ذلك كان على نطاق مختلف تمامًا، وكانت له عواقب وخيمة. أشارت التقديرات في ذلك الوقت إلى وفاة ٤٠٠٠ شخص جراء الضباب الدخاني، رغم أن التقديرات الأحدث أشارت إلى ثلاثة أمثال هذا الرقم. أدى الغضب العام من هذا الحدث على الفور إلى إصدار تشريع جديد. نص «قانون الهواء النقي» لعام ١٩٥٦ على وجود مناطق لادخانية في أنحاء متعددة من لندن، واقتضى أن يحوِّل سكان المنازل محارق الفحم المفتوحة إلى أفران مغلقة تعمل بأنواع وقود لادخاني، أو يستخدموا الغاز أو المدافئ الكهربائية، وهو تدبير مثَّل بداية التشريع الحديث لمكافحة التلوث في المملكة المتحدة. فرض غضب الجماهير استجابة سريعة في السياسات داخل الولايات المتحدة أيضًا، بعد بضع سنوات، وبعد نشر كتاب «الربيع الصامت» عام ١٩٦٢ لعالمة الأحياء والطبيعة راشيل كارسون. ففي تقرير قُتل بحثًا وكُتب بأسلوب مقنع، سلَّطت راشيل كارسون الضوء على التأثيرات البيئية الخطيرة لعادة الرش الجوي العشوائي واسع النطاق للدي دي تي من أجل قتل الناموس، وقالت إن السم بدأ يتسلل إلى السلسلة الغذائية للحياة البرية، وإنه أدى إلى انخفاض شديد في أعداد الطيور والثدييات على مساحة واسعة. علاوةً على ذلك، هددت هذه التأثيرات صحة البشر أيضًا؛ حيث دخلت الرواسب في السلسلة الغذائية البشرية. لم يكن تأثير الكتاب نتيجةً فقط لملاحظاته بشأن الضرر الذي لحق بالحياة البرية. وحذرت راشيل كارسون من المخاطر المحتملة التي قد تمثلها الابتكارات العلمية غير المنظمة على البيئة، لافتة الانتباه إلى الادعاءات المضللة التي يطلقها المصنِّعون عن أمان منتجاتهم الجديدة المربحة وإقرار السلطات العامة هذه المنتجات إقرارًا أعمى. دفعت الاستجابةُ الشعبية الغاضبة للكتاب الرئيسَ كنيدي إلى فتح تحقيق في مزاعم الكتاب، تجريه اللجنة الاستشارية العلمية. وعندما أيدت اللجنة رسالة الكتاب، تبع ذلك إجراء سياسي جذري؛ قُنِّن استخدام الدي دي تي، ثم مُنع استخدامه نهائيًّا، وأُنشئت وكالة حماية البيئة الأمريكية ذات النفوذ عام ١٩٧٠، كما صدرت مجموعة كبيرة من التشريعات البيئية الجديدة الصارمة على مدار العَقد اللاحق. شكل ١-١: الضباب الدخاني في لندن الناتج عن شدة تلوث الغلاف الجوي: شارع ستراند في وضح النهار، ١٧ نوفمبر ١٩٥٣. كان في كلا الحدثين — ضباب لندن الدخاني عام ١٩٥٢ والجلبة التي ثارت حول كتاب «الربيع الصامت» — إشارة ظهور قلق شعبي عارم بشأن البيئة، بوصفها العامل المحرك للإجراءات السياسية والتشريعات. لم تكن الإجراءات التشريعية التي عقبت كلا الحدثين أول تشريعات بيئية في أيٍّ من البلدين على الإطلاق. ففي المملكة المتحدة، كان قد جرى تنظيم ومراقبة التلوث الصناعي منذ إنشاء «هيئة التفتيش على القلويات» عام ١٨٦٣. وفي الولايات المتحدة، كان تنظيم التلوث يُعتبر إلى حدٍّ بعيد شأنًا يخص الولايات كلًّا على حدة وليس الحكومة الفيدرالية، لكن كان هذا قد بدأ يتغير بالفعل، وأُنشئت «الإدارة الوطنية لمكافحة تلوث الهواء» عام ١٩٥٥؛ استجابةً للضباب الدخاني في لوس أنجلوس وغير ذلك من المشاكل. رغم ذلك، ربما يكون الحدثان من بين الإشارات الأولى التي دلت على اعتراف العامة بأن مشكلات جودة البيئة ليست مجرد مشكلات فنية قاصرة على أمن المصانع، لكنها تقع في صميم استهلاكنا ونمط حياتنا، وتقتضي أن نغيِّر سلوكنا على نطاق واسع على الصعيدين العام والخاص، وتضع أمامنا أحيانًا بعض الخيارات غير المحببة إلينا. يقدم لنا الاقتصاد البيئي طريقة لتحليل هذه المقايضات والاختيارات.
60
1,194
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Environmental Economics
Stephen Smith
Social Sciences
Specialized
3,010,068
BAREC_Hindawi_30941460_001.txt
تمهيد احتلَّت المناظَرة المسجَّلة في هذا الكتاب بين روجر بنروز وستيفن هوكينج موقع الصدارة ضِمن برنامج استمرَّ ستة أشهر عام ١٩٩٤ في معهد إسحاق نيوتن للعلوم الرياضية بجامعة كامبريدج. وتمثِّل تلك المناظرة نقاشًا جادًّا حول بعض أهم الأفكار المتعلقة بطبيعة الكون. وغنيٌّ عن القول أننا لم نصِل إلى نهاية الطريق بعد؛ فالشكوك ونقاط الخلاف ما زالت قائمة، وما زال يوجد الكثير لمناقشته. أُقيمت قبل نحو ستين عامًا مناظرةٌ مطوَّلة شهيرة بين نيلز بور وألبرت أينشتاين حول أُسُس علم ميكانيكا الكم، ورفض أينشتاين التعامل مع نظرية ميكانيكا الكم باعتبارها نظريةً نهائية؛ فقد وجدها غير وافية من الناحية الفلسفية، وكافَح كفاحًا مريرًا ضد التفسير التقليدي لمدرسة كوبنهاجن الذي مثَّله بور. وبشكلٍ ما، تُعَد المناظرة بين بنروز وهوكينج استكمالًا لتلك المناظرة الأولى؛ حيث يلعب بنروز دور أينشتاين، ويلعب هوكينج دور بور. أصبحت الأمور الآن أكثرَ تعقيدًا وأوسع نطاقًا، لكنها لا تزال — كما كانت في السابق — تمثِّل مزجًا بين النقاشات التقنية والأفكار ووجهات النظر الفلسفية. أصبحت نظرية الكم، أو نظرية المجال الكمي — وهي الصورة الأكثر تعقيدًا من نظرية الكم — أكثرَ تطورًا في الوقت الراهن، كما لاقت نجاحًا تقنيًّا أكبر، حتى وإن كان لا يزال يوجد بعض الفلاسفة المتشكِّكين، مثل روجر بنروز. وقد نجحت النسبية العامة كذلك، وهي نظرية أينشتاين للجاذبية، في اجتياز اختبار الزمن، وحقَّقت نجاحاتٍ بارزة، رغم وجود مشكلات حقيقية فيما يخص الدور الذي تلعبه المتفردات أو الثقوب السوداء. والقضية الحقيقية المسيطِرة على النقاش الدائر بين هوكينج وبنروز هي محاولة المزج بين هاتين النظريتين الناجحتين، في سبيل الوصول إلى نظرية «الجاذبية الكمية»، بيدَ أنه توجد بعض المشكلات الفكرية العميقة وأيضًا التقنية، التي تُفسح المجال للنقاشات الدائرة في هذه المحاضرات. ومن أمثلة المسائل الجوهرية المطروحة مسألةُ «سهم الزمن»، والظروف الأولية التي كانت موجودة عند نشأة الكون، والطريقة التي تبتلع بها الثقوب السوداء المعلومات. في هذه الأمور وغيرها الكثير، يتخذ هوكينج موقفًا مختلفًا تمامًا عن بنروز. وقد دُوِّنت المناقشات هنا بدقة وعناية من حيث المصطلحات الرياضية والفيزيائية المستخدَمة، ويُتيح الشكل الذي تمَّت به المناظرة إفراد مساحات لتبادل الانتقادات على نحوٍ ثريٍّ ومُفيد. ورغم أن بعض ما جاء في المناقشة يتطلب قدرًا من الفهم المُسبَّق للجوانب التقنية الرياضية والفيزيائية، فإن الجزء الأكبر منها يبلغ مستوياتٍ أعلى (أو أعمق) من شأنها أن تحظى باهتمام على نطاق واسع من الجمهور. وعلى أقل تقدير، سوف يكتسب القارئ فكرةً أولية عن مجال النقاش وصعوبة الأفكار المتداوَلة فيه، وكذلك التحدي الكبير أمام محاولات التوصل إلى صورة مترابطة للكون، تشمل كلَّ ما يخص الجاذبية ونظرية الكم. مايكل عطية الفصل الأول النظرية الكلاسيكية إس دبليو هوكينج في هذه المحاضرات، سأعرض أنا وروجر بِنروز وجهاتِ نظرنا ذات الصلة بعضها ببعض — على اختلافها — حول ماهيَّة المكان والزمان. سيُلقي كلٌّ منا ثلاث محاضرات بالتبادل، تتبعها جلسةٌ نقاشية حول أساليبنا المختلفة لتناول الأمر. وجب التنويه إلى أن هذه المحاضرات ستكون عالية التخصص، ونفترض أنه لدى المتلقِّي إلمام بمبادئ النسبية العامة ونظرية الكم. كتب ريتشارد فاينمان مقالةً قصيرةً يصف فيها تجارِبه أثناء مؤتمر حول النسبية العامة. أعتقد أنه كان يتحدث عن مؤتمر وارسو الذي عُقِد عام ١٩٦٢. وقد أشار في المقال على نحوٍ سلبي للغاية إلى تدنِّي كفاءة الحاضرين عمومًا، وعدم ملاءمة مجالات عملهم لما كانوا يفعلونه. إن ما جنَتْه النسبية العامة من شهرة واهتمام كبيرين في مدةٍ قصيرة يعود الفضل فيه بدرجةٍ كبيرة إلى جهد روجر البحثي؛ فحتى ذلك الحين كانت النسبية العامة قد تمثَّلت في مجموعةٍ غير مرتَّبة من المعادلات التفاضلية الجزئية في نظامٍ أحادي الإحداثيات. إلا أن روجر أدخل بعض المفاهيم الحديثة، مثل السبينورات والأساليب الشمولية، وكان هو أولَ من بيَّن إمكانية اكتشاف الخصائص العامة من دون حل المعادلات حلًّا دقيقًا. وكانت مُبَرهَنته الأولى حول المتفردات هي التي فتحت لي الباب لدراسة البِنية السببية، وكانت مصدر الإلهام لي في أبحاثي في الفيزياء الكلاسيكية على المتفردات والثقوب السوداء. أعتقد أنني وروجر نتفق بدرجةٍ كبيرة في وجهتَي نظرنا حول الفيزياء الكلاسيكية، لكننا نختلف في طريقة تعاملنا مع الجاذبية الكمية، وبالطبع مع نظرية الكم ذاتها. ومع أن المتخصصين في فيزياء الجسيمات يعدُّونني شخصًا ثوريًّا خطرًا بسبب طرحي لفكرة احتمال فقد الترابط الكمي، فإنني بالتأكيد أُعَد مُحافظًا مقارنةً بروجر؛ فأنا أتبنَّى وجهة النظر الوضعية القائلة بأن أيَّ نظرية فيزيائية ما هي إلا نموذجٌ رياضي، وأنه لا مَغزى من أن نسأل إن كانت تعكس الواقع أم لا. كلُّ ما يمكن للمرء أن يتساءل بشأنه هو مدى توافق التنبؤات التي تأتي بها مع الملاحظات المرصودة. أعتقد أن روجر أفلاطوني حقًّا، لكن عليه الرد على ذلك بنفسه. إن النسبية العامة نظريةٌ رائعة تتفق مع جميع الملاحظات المرصودة. قد تتطلب بعض التعديلات على مقياس بلانك، لكنني لا أعتقد أن ذلك سيؤثر على كثير من التنبؤات التي يمكن استنباطها منها. قد تكون مجرد تقريب منخفض الطاقة لنظريةٍ أخرى أكثر جوهرية، مثل نظرية الأوتار، لكنني أعتقد أن نظرية الأوتار قد رُوِّج لها بأكثر مما تستحق. أولًا، ليس من الواضح أن النسبية العامة، عند مزجها مع مجالاتٍ أخرى متنوعة للتوصل إلى نظرية للجاذبية الفائقة، لا يمكنها أن تُعطيَنا نظرية كم معقولة. إن ما يورَد عن اندثار الجاذبية الفائقة ما هو إلا مبالغات؛ ففي وقتٍ ما، كان الجميع يعتقدون أن الجاذبية الفائقة محدودة، وفي السنة التالية تغيَّرت الوجهة، وبدأ الجميع يقول إنه لا بد أن يكون في الجاذبية الفائقة انحرافات، مع أنه لم يُعثَر في الواقع على أيٍّ من ذلك. والسبب الثاني لعدم مناقشتي لنظرية الأوتار هو أنها لم تقدِّم أيَّ تنبؤات قابلة للاختبار. وعلى النقيض، أتى التطبيق المباشر لنظرية الكم على النسبية العامة — وهو ما سأتحدَّث عنه — بتنبؤين قابلَين للاختبار؛ ويبدو أن أحدهما — وهو ظهور اضطرابات بسيطة أثناء التضخم — قد تأكَّد من خلال ملاحظات حديثة لاضطرابات في إشعاع الخلفية الميكروي. أما التنبؤ الثاني — وهو أن الثقوب السوداء لا بد أن تُشِع حراريًّا — فيمكن اختباره من حيث المبدأ. كل ما علينا فِعله هو العثور على ثقبٍ أسود قديم، لكن مع الأسف لا يبدو أنه يوجد الكثير من تلك الثقوب فيما حولنا؛ فلو كان يوجد الكثير منها كنا سنتمكن من التوصل إلى طريقة لقياس الجاذبية قياسًا كميًّا. لن يتغير أيٌّ من هذين التنبؤين حتى وإن كانت نظرية الأوتار هي بالفعل النظرية الأساسية الشاملة في الطبيعة. بيدَ أن نظرية الأوتار — على الأقل في حالتها الحالية غير المكتملة — غير قادرة مطلقًا على التوصل إلى هذه التنبؤات من دون الاستناد إلى النسبية العامة باعتبارها النظرية الفعَّالة القائمة. وأظن أن الحال قد يظل كذلك دائمًا، وأنه قد لا يكون بالإمكان التوصل إلى أي تنبؤات باستخدام نظرية الأوتار لا يمكن التوصل إليها أيضًا من خلال النسبية العامة أو الجاذبية الفائقة. وإن صح ذلك، فإنه يُثير التساؤل عما إذا كانت نظرية الأوتار نظريةً علميةً حقيقية. وهل يُعَد الجمال والكمال من الناحية الرياضية كافيًا في ظل غياب تنبؤات مختلفة قابلة للاختبار بالرصد؟ وهذا لا يعني حتى أن نظرية الأوتار بشكلها الحالي جميلة أو كاملة. لهذه الأسباب، سأتحدَّث في هذه المحاضرات عن النسبية العامة، وسأركِّز على جانبين يبدو فيهما أن الجاذبية قد تُرشدنا إلى خواصَّ مختلفة تمامًا عن نظريات المجال الأخرى؛ الجانب الأول هو فكرة أن الجاذبية من شأنها أن تجعل للزمكان بداية، وربما نهاية أيضًا. أما الجانب الثاني فهو اكتشاف أنه يبدو أن ثَمة إنتروبيا جذبية أصيلة غير ناتجة عن التبسيط العياني؛
59
1,224
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Nature of Time and Space
Stephen Hawking and Roger Penrose
STEM
Specialized
3,010,069
BAREC_Hindawi_31809491_001.txt
العقَّاد الشاعر البصر الموحي إلى البصيرة، الحسُّ المحرِّك لقوَّة الخيال، المحدود الذي ينتهي إلى اللامحدود، ذلك هو شعر العقَّاد، بل ذلك هو الشعر العظيم كائنًا مَن كان صاحبه. إن للشاعر — كما لسائر عباد الله — عينًا ترى، وأذنًا تسمع، لكن الشاعر — دون سائر عباد الله — ينتقل من المرئي والمسموع إلى رحاب نفسه، ليجد هناك وراء ذلك المحسوس الجزئي المقيد بزمانه ومكانه، عالَمًا من صور أبدية خالدة، لا تقتصر حقائقُها على زمان بعينه ومكان بعينه، وهكذا يفعل العالِم، لولا أن العالِم يستخلص تلك الصور هياكل من علاقات مجردة، وأمَّا الشاعر فيقدمها عامرة بالمضمون والفحوى، فتصبح بالنسبة إلى وقائع الحياة الجارية بمثابة النموذج من تطبيقاته؛ فالأول ثابت، والثانية عابرة تجيء وتذهب، ومن هنا كان الشعر هو الذي يُضفي على الحياة وقائع معناها؛ لأنه يطويها تحت نماذجها التي تفسِّرها وتُفصح عن كوامنها، فلئن قيل إن الشاعر الحق يصوِّر الحياة، فليس التصوير المقصود هنا هو تصوير المِرآة للواقف أمامها، بل هو تصوير المثال الثابت للجزئية الطارئة؛ فالأول يفسِّر الثانية ويوضِّحها ولولاه لظلت الجزئية العابرة واقعة صماء خرساء لا تجد اللسان الذي يعبِّر عما انطوى في دخيلتها، ولعل هذا ما أراده العقَّاد حين قال: والشعر ألسنةٌ تفضي الحياة بها إلى الحياة بما يطويه كتمانُ لولا القريضُ لكانت وهْي فاتنة خرساء ليس لها بالقول تبيانُ ما دام في الكون ركنٌ للحياة يُرَى ففي صحائفه للشعر ديوانُ فالشاعر حلقة وُسطى بين عالم المعاني الخالدة من ناحية، وعالم الحياة الجارية العابرة من ناحية أخرى، ينظر إلى أعلى ليكتسب الصور في أبديتها ودوامها، وينظر إلى أسفل ليرى تيار الحياة الواقعة كما يجري، فيردُّ المادة هنا إلى الصورة هناك، وإلا لَلَبِثتْ مادة الحياة الجارية حادثات تتصاحب أو تتعاقب بلا معنًى ولا مغزًى، فلئن كان لا بد للشاعر من عالم أعلى يستمد منه صوره الثابتة، فكذلك لا بد لسائر الناس من شاعر يردُّ لهم أحداثَ حياتهم الواقعة إلى صورها التي تُكسبها معناها. يقول العقَّاد: والشعر من نَفَس الرحمن مقتبسٌ والشاعر الفذُّ بين الناس رحمَنُ وبهذا المقياس ننظر إلى شعر العقَّاد. افتح الجزء الأول من ديوان العقَّاد، واقرأ أول قصيدة منه وعنوانها «فرضة البحر» (الميناء)، وإنما اخترت لك أول قصيدة من أول ديوان للشاعر، حتى لا يكون اختيارنا متحيزًا ولا متعمدًا، فأول لقطة حسية يلقطها الشاعر ببصره هي المنار يظهر ضوءُه ويختفي، فيدخل الشاعر بهذه اللقطة الحسية الجزئية المحدودة بمكانها وزمانها، يدخل بها إلى طوية نفسه فيجد أن الضوء المرئي لا يُغني عن هداية الفكر شيئًا، فإن تراكمت على النفس شبهاتُها وأشجانُها، فمَوئلها هو لُمَع الأفكار لا لمعات الضياء، فأمامك في القصيدة صورتان متشابهتان: إحداهما خارجية والأخرى داخلية. فظلمات البحر في الخارج يقابلها شبهاتُ النفس وأشجانها في الداخل، ولمعات المنار في الخارج يقابلها لُمَع الأفكار في الداخل، وانطلاق الضوء على جوانب اليمِّ بلا حدودٍ تحدُّه ولا قيودٍ تقيِّده يقابله انطلاق العقل حُرًّا نافذًا ... صورتان متشابهتان: أمَّا إحداهما فمن الواقع المحدود، وأمَّا أخراهما فمن المطلق اللامحدود. لكن الصورة الأولى تظلُّ حادثةً طبيعية كأية حادثة أخرى في الطبيعة حتى تسعفها الصورة الثانية فتضفي عليها المعنى: قطبَ السفين وقِبلةَ الربَّانِ يا ليت نورك نافعٌ وجداني أرِقٌ يقلِّب مقلتَي وَلْهانِ وعلى الخضمِّ مطارحٌ من وَمْضِه تسري مدلَّهةً بغير عنان لججٍ من الشبهات والأشجان تخفَى وتظهر وهي في ظلمائها باب النجاة وموئل الحيران واللقطة الحسية الثانية التي يلقطها الشاعر ببصره هي الحركة التي تعجُّ بها الميناء من راحلين وقادمين، فيدخل الشاعر إلى طوية نفسه مرة ثانية، ليرى صميم الحياة أضدادًا متجاورة: فبرٌّ وبحرٌ، وشرقٌ وغربٌ، وراحلٌ وقادم، ومغتربٌ عن الوطن وعائد، ولغاتٌ مختلفات وألوانٌ متباينة: فيها الْتقَى برٌّ وبحرٌ واستوى شرقٌ وغربٌ ليس يستويانِ بسطت ذراعَيها تودِّع راحلًا عنها وتحفل بالنزيل الداني زُمَرٌ توافت للفراق فقاصدٌ وطنًا، ومغتربٌ عن الأوطان متجاوري الأجساد مفترقي الهوى متبايني اللهجات والألوان فانظرْ إلى تلك الوجوه فإنها شتى ديار جُمِّعت بمكان
56
649
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
With the Poets
Zaki Naguib Mahmoud
Arts & Humanities
Specialized
3,010,070
BAREC_Hindawi_31861395_001.txt
خطة السير كانت عادتي كلما هبطتُ مدينة من سفر — قَصُر مقامي بين ربوعها أو طال — أن أبدأ بالنظر إلى خريطتها؛ لأقسم أرجاءها أقسامًا تتناسب في سَعتِها مع طول المدة التي أنوي إقامتَها، فكلما قَصُرَت مدة الإقامة ازدادَت تلك الأقسام اتساعًا، وكلما طالت المدة ضاقت الأقسام، ثم أخصص لكل قسم نصيبَه من الزمن؛ لأجول مارًّا على تفصيلات أجزائه سائرًا على القدَمَين، لا أستعين بقطار أو سيارة إلا إذا هدَّني التعب هدًّا يَستحيل معه أن أواصل السير؛ ذلك لأني أومن بأن الرؤية المتأنية الفاحصة التي تَرسخ في الذاكرة وتدوم، هي تلك التي تجيء من سائرٍ على قدَمَيه، يُمهِل الخُطى حينًا، ويقف عن السير حينًا، كلما احتاجت منه الأشياء إلى إمهال أو وقوف، وبغير هذا النظر إلى خريطة المكان، لأتصور به أين شرقه من غربه، وأين شمالُه من جنوبه؛ تتمزق الصورة عندي وتتبعثر تفصيلاتها، حتى أخرج من زيارتي وكأنني لم أُحصِّل شيئًا، مهما كثرت عندي أجزاءُ ما رأيتُ وما سمعت، فكأنما أمسكتَ بكتاب ومزَّقتَ أوراقه قُصاصاتٍ قُصاصات، تجمعها أمامك في كومة لا ينساق فيها سطرٌ وراء سطر، ثم قلتَ لنفسك: ذلك هو الكتاب، لم يَنقُص حرفًا! لكنه في الحقيقة قد نقَص كل شيء حين زالت عنه الوَحْدة التي تجمع أجزاءه في كِيان. النظرة إلى خريطة البلد الذي أُقيمُ فيه هي العمود الفقري الذي يُبقيه في خبرتي كائنًا متَّصلَ الأجزاء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى علم أُحصِّله، فمهما امتلأ وِفاضي من حقائقَ مفكَّكة الأوصال عن رجال أو عصور أو مذاهب، فأنا المفلس من العلم المفيد ما لم أجد لنفسي الإطار الذي يَجمع الأشتات في كِيان واحد، أعرف فيه أين يقع الرأس وأين يكون الذَّنَب، وإني لأَغْلو مع نفسي في مطلب التوحيد هذا، حتى لأُحاول في كثير من الأحيان ألا أكتفيَ بمجرد مبدأ نظري أجعله قُطبًا للرَّحى، بل ألتمس لنفسي صورة مجسَّدة أخلقها لنفسي خلقًا، فتُعينني على ترتيب الأجزاء وتنظيمها في نسَق موحَّد. فلما همَمتُ بالقراءة لهذا الكتاب، طالبتُ نفسي أولًا بخُطَّة للسير؛ فالتراث العربي أوسعُ من المحيط، ولم يَكتب لي الله في أعوامي الماضية أن أعُبَّ منه إلا قطَراتٍ لا تملأ القدَح، فكيف بي وأنا الغريب — أو شِبه الغريب — في هذه الدنيا المدوِّية بمكنونها الضخم، وقد همَمتُ بالسير في أحنائها وثناياها؟ إنني أريد أن أبحث في هذه الدنيا الفكرية الفسيحة الأرجاء، عن طريقٍ واحد دون سائر ما فيها من طرُق ومَفاوز، وهو طريق «العقل» كيف سار وأين؟ فهل أستطيع الخَطْو بقدَم واحدة إذا لم يكن أمامي خطٌّ واضح أسير على هُداه؟! وطريق العقل في ثقافة عريضة طويلة كالثقافة العربية، لا يَكون قائمًا وحده، بحيث لا يجد السائرُ طريقًا سواه، بل لا بد أن يُخالِطَه كلُّ ما يخالط الطبيعة البشرية من جوانبَ أخرى غير جانب العقل، فالإنسان — فردًا كان أو مجتمعًا — لا يتحرك في حياته مهتديًا ببوصلة واحدة، ذات مؤشِّر واحد، يُشير دائمًا إلى هدف واحد، بل إن طبيعته لتَنطوي على مَنازِعَ متعارضة أحيانًا أشدَّ التعارض؛ فقد يُحدِّد له «العقل» هدفًا بعينه ويرسم أمامه الطريق المؤدِّية إلى ذلك الهدف، ثم تجذبه «العاطفة» نحو هدف آخر وطريق آخر، فلو وصَفْنا إنسانًا فردًا، أو مجتمعًا من الناس، أو عصرًا من العصور، بصفة «العقلانية» فإنما نَفعل ذلك على سبيل التغليب والترجيح، لا على سبيل الحصر والقطع والتحديد. وإذا أردنا شيئًا من التوضيح الذي يُفرق لنا بين وقفة «عقلية» وأخرى «عاطفية»، فحَسْبُنا — فيما أظن — أن نرتكز على العلامة المميِّزة الآتية؛ فصاحب الوقفة العقلية يُشترَط في خطوات سيره أن تكون الخطوة التالية مُكمِّلة للتي سبقَتْها، ومُمهِّدة للتي تَلحَق بها، بحيث تجيء الخطوات معًا في تضامن يجعلها وسيلة مؤدِّية آخرَ الأمر إلى هدف مقصود، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيرًا بالقدمَين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيرًا عقليًّا يَنتقل به صاحبُه من فكرة إلى فكرة، حتى ينتهيَ إلى حل لمشكلةٍ أراد حلَّها، ذلك هو السير «العقلي» وعلامته المميِّزة. لكنْ ما كلُّ سلوك إنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثيرًا ما يريد الإنسان شيئًا ويعمل بما ليس يُحقِّق له ما أراد، فإذا سألتَه: كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه بأنه يُحِس «ميلًا» لا قِبَل له برَدِّه، يميل به نحو جانب مضادٍّ لما ظن بادئ الأمر أنه ما يريد ... الوقفة «العقلية» — بعبارة أخرى — وقفة تتقيَّد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقاتٍ تؤدي في النهاية إلى نتيجة معيَّنة، سواءٌ كانت تلك الحلقات المؤدية محبَّبةً أو كريهة عند مَن أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة. وأما الوقفة «العاطفية» أو «اللاعقلية» فهي التي يُؤْثِر صاحبُها اختيار الطريق المحبَّب إلى النفس بغض النظر عن تحقيق النتائج. ويندر جدًّا أن تجد بين الناس إنسانًا خلَص له العقل وحده، لا يأتمر إلا بتوجيهه، كالذي يُقال عن سقراط إنه كان عقلًا صِرفًا، حتى لتعذر عليه أن يتصور كيف يَرى العقلُ رأيًا ثم لا يجد هذا الرأيُ تنفيذًا عند صاحبه؛ فما يراه العقل — كما ذهب سقراط — هو نفسه العلم بحقائق الأشياء، ومن ذا الذي يرفض أن يُعامِل الأشياء على حقائقها؟ ومن ثَم جاءت فكرته القائلة بأن «العلم والفضيلة شيء واحد»؛
30
884
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Rational and Irrational in Our Intellectual Heritage
Zaki Naguib Mahmoud
Arts & Humanities
Specialized
3,010,072
BAREC_Hindawi_35096397_001.txt
الكتابة العربيَّة المنقَّحة (١) لمحة في تغيُّر الحروف لم تكن الكتابة العربية بهذه الصورة التي نعرفها بها اليوم، في كلِّ وقتٍ من حياتها؛ بل مرَّت بأطوارٍ مختلفة، تنقَّلت فيها من حالة إلى حالة أرقى منها، على حدِّ ما نرى نشوء ابن آدم منذ تصوره في بطن أمِّه إلى أن يدب، ويشب، ويكهل، فيكمل. كان في ديار العرب قبل الإسلام قلمان شائعان رئيسان، يختلف أحدهما عن الآخر كلَّ الاختلاف، وذلك بنحو سبعمائة سنة. وكان الأوَّل معروفًا في الجهة الشمالية من الجزيرة، والثاني في الربوع الجنوبية منها. ويسمَّى الأول ب «الخطِّ النَّبَطيِّ»؛ لأنه كان مبثوثًا في الديار التي كان فيها النَّبط؛ أولئك النبط الذين كان لسانهم عربيًّا أو قريبًا كثيرًا من العربية، لا نَبَط العراق أو البطائح. ويسمَّى الثاني ب «المسند»؛ لأنه كثيرًا ما كان يُزْبَر على الصخر أو الحجر، فكأنَّه كان يُسْنَد إليه، على ما روى لنا هذه الرواية أصحابُ بعض التواريخ والأخبار. ثم انتقل الخط النبطي من صورةٍ إلى صورةٍ أحسن منها، وأجلى للعين وأظهر، حتى صار إلى الحالة التي نَراهُ فيها. وقد بلغ التحقيق بالمستشرقين إلى القول بأنَّ الخط الذي نسمِّيه اليوم بالنَّسخي غير مشتق من الكوفيِّ، على ما كان يزعمه بعض الأقدمين. وأمَّا «المسند» فقد زال من عالم الكتابة شيئًا فشيئًا عند ظهور راية الإسلام، واقتبس العرب الخُلَّصُ حروفهم وترتيبها من عرب الأنباط، وهؤلاء من الآرميين، وهؤلاء من الفنِيقيِّين. وكانوا من أصحاب التجارات، ويحسنون الكتابة والقراءة. وكان للسلف حروف وحركات غير ما نعرفها لهم اليوم من هذا القبيل؛ لأنَّهم كانوا قبائل شتَّى، واختلطوا بأممٍ مختلفةٍ، فكانوا يَنْطِقون بأنواع الحروف والحركات على ما وصلت إليهم من أجدادهم، أو على ما اقتبسوا بعضًا منها من محالِفِيهم. ولمَّا اقتبس العرب حروفهم أو كتابتهم من الآرميين أو الفنيقيِّين، الذين كانوا قد اضطروا إلى اتخاذ الكتابة لتجارتهم ومعاملاتهم للغير؛ اتخذوا ما عندهم من الحروف، وعلى ترتيب ما كانت مستعملة عند أولئك الناس، ثمَّ زادوا عليها أحرفًا كانت تميِّز لغتهم عن سائر اللغات، ففازوا بالفتح المبين الذي تاقت نفوسهم إليه، لكنَّهم — لسوءِ الحظِّ — لم يُقيِّدوا جميع ما كان عندهم من الحروف الجارية على ألسنتهم يومئذٍ، ولا كل ما كان عندهم من الحركات المختلفة؛ فكانوا يصوِّرون الحروف التي لا صور لها بحروف تقاربها صوتًا. وكذلك فعلوا بالحركات. واعتمدوا على التلقين والرواية والسَّماع لمعرفتها معرفة صحيحة، فضاع من اللفظ العربي الصحيح شيء كثير، لا سيما من لفظ أولئك الذين ما كانوا يتلقون النطق بالحروف من الشيوخ الأئمة أو الرواة الصادقي العلم، بل من أجانبَ لم تكن حلوقهم مخلوقة للأصوات العربية أو السامِيَّة، أو الجامعة بين الحروف السامِيَّة واليافِثيَّة، أو السامِيَّة الحامِيَّة معًا. أمَّا العوامُّ، فقد حافظوا على تلك الحروف وتلك الحركات، فهُم ينطقون بها إلى هذا اليوم؛ كلُّ قوم بموجب الديار التي وُجِدُوا فيها أو نزلوها، أو بموجب القبيلة التي ينتسبون إليها، أو يدَّعون الانتماء إليها. (٢) قصور الحروف العربيَّة الحالية عن تأدية اللفظ حقَّ التأدية إن عجز الحروف والحركات العربية الحالية عن تصوير الكَلِم القديمة التي نُقلت عن السلف نَزَعَ من لغة عدنان محاسنها القديمة، ودقائق النطق بها على ما هي، حتى صِرْنا إلى هذه الأيَّام، فزاد اختلاط أبنائِنا بأبناء الغرب لتعلُّم صنائعهم وعلومهم وفنونهم ولغاتهم، فشعرنا بنقص عظيم، وامتنع على فريقٍ مِنَّا النطق ببعض الأحرف الإفرنجية التي كانت — بلا أدنى شكٍّ — في لغات السَّلف مِنَّا، أو لا أقلَّ من أن بعضها كان شائعًا عندهم، فأماتها عدم الاستعمال لها؛ حتى إنَّه ليصعب اليوم على اللبنانيين مثلًا أن يلفظوا الپاء المثلثة التحتيَّة التي تقابل الحرف P الإفرنجي، وكذلك الڤاء المثلثة الفوقيَّة التي تقابل V الإفرنجية، ومنهم من لا يستطيع أن يتبين الجيم المعطَّشة الشامِيَّة (وهي التي اتفق التُّركُ على رسمها بصورة «ژ»؛ أي راء فوقها ثلاث نقط، وتقابل J الفرنسيَّة) من الجيم الشَّجرِيَّة (وهي العراقية أو النجدية) من الجيم النَّطْعِيَّة التي يرسمها التُّرك والفُرس بصورة «» عليها ثلاث نقط (وهي التي تقابل G الفرنسية)، وهي جيم أهل القاهرة لا جميع ديار مصر. وقد وجد أبناؤُنا صعوبة أخرى هي التلفُّظ بحروفٍ عليلة غير مصوَّرة في حروف هجائنا؛ كحرف U الفرنسي، وكان موجودًا سابقًا في لغة السلف كما في «قيل» و«مُدَّ» المجهولين، فإن لفظ القاف هو بين الواو والياء؛ أي Qula، وكذلك في مجهول «مَدَّ»، فإنه يُلفظ Mudda وليس Moudda. وليس عندنا ما يصوِّر الألف المفخمة كما في «الله، والصلاة، والزكاة»؛ فإن الألف فيها كالحرف الإفرنجي O، وليس لنا ما يصوِّر لنا E الفرنسية، التي تختم بعض ألفاظهم؛ مثل Le وMise، وهي عندنا، ولكنَّها لا تصوَّر وتُعرف بالإشمام.
33
801
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
A Message on Refined Arabic Writing
Anastas Mary Al-Karmali
Arts & Humanities
Specialized
3,010,073
BAREC_Hindawi_35152035_001.txt
الزمان والمكان إن الشيوخ الأميركيين الأصليين الاثنين والعشرين الذين اجتمعوا في نيويورك سنة ١٧٨٩ بدوا لأول وهلة أنهم حققوا توقعات مَن وضعوا الدستور، وكان مجلس الشيوخ كتجمع ممتاز متألق من ساسة بارزين متمرسين أكثر أبهة وشكليات من مجلس النواب، وقاعاته أكثر زركشة، وكان أعضاؤه أكثر اهتمامًا بأناقتهم وملابسهم ومكانتهم الاجتماعية، وكان مجلس الشيوخ يجتمع وراء أبواب مغلقة، دون أن يعتمد لجانًا دائمة، يتشاور شخصيًّا مع الرئيس واشنطن، وكان يتصرف تقريبًا كجزء لا يتجزأ من الإدارة. ولكنه لم يكن بد للسياسة أن تدخل مجلس الشيوخ الأميركي شأنها في ذلك شأن جميع المجالس التشريعية الأخرى، وعندما انقسم الحزب الفدرالي بسبب السياسة الخارجية، واستقال توماس جفرسون من الوزارة لينظم أنصاره، أصبح مجلس الشيوخ منبرًا لانتقاد الفرع التنفيذي، وتولت دور المجلس التنفيذي وزارة اعتمد الرئيس عليها في مشاطرته آراءه، وفي كونها مسئولة أمامه. وتولى مجلس الشيوخ تدريجيًّا مزيدًا من مظاهر الهيئة التشريعية، ففي سنة ١٧٩٤ سمح باستخدام الشرفات العامة التي يحتلها الشعب، وذلك في الجلسات التشريعية العادية، وفي سنة ١٨٠١ سمح للمراسلين الصحفيين بالدخول، وما إن حلت سنة ١٨٠٣ حتى كان المجلس يتناقش فيمن يجب أن يُمنح امتياز الدخول إلى قاعاته، وتم الاتفاق على أن يُمنح أعضاء مجلس النواب، والسفراء، ورؤساء الدوائر والحكام، ولكن السناتور رايت انبرى قائلًا: «وماذا عن السيدات؟» وأكد «أن وجودهن يبعث حيوية في المناقشة مقبولة ولازمة، ويصقل حجج الخطباء ويلطف من أسلوبهم»، ولكن جون كوينسي آدمز، الذي ستلاحظ صراحته المتزمتة في مثل هذه المناسبات في مكان آخر من هذا الكتاب، أجاب بقوله: «إن السيدات يحملن معهن ضجة وبلبلة إلى مجلس الشيوخ، وستطول المناقشات بغية اجتذاب أنظارهن (وهُزم اقتراح إدخال السيدات بأكثرية ١٦ صوتًا في مقابل ١٢ صوتًا، على الرغم من أن سياسة استثنائهن نُقضت في سنوات لاحقة إلا أن إعادة تطبيق هذا الاستثناء لم تتم إلا في العصور الحديثة).» وعلى الرغم من أن كل سناتور (عضو في مجلس الشيوخ) كان يتلقى مبلغًا سخيًّا هو ستة دولارات في اليوم الواحد، وتضمنت امتيازاته حق استعمال علب السعوط الفضية الكبيرة في قاعة المجلس، فإن العادات الأرستقراطية التي ميزت أول مجلس كانت شاذة عندما أصبحت قرية واشنطن الصغيرة الكادحة عاصمة في سنة ١٨٠٠؛ لأن وعورة الأراضي التي كانت تحيط بها تباينت كل التباين مع تلك التي كانت تحيط بالعاصمتين المؤقتتين في نيويورك وفيلادلفيا، وظلت الشكليات في نهج المجلس قائمة، وعلى الرغم من أن آرون بير نائب رئيس الجمهورية الذي كان موضع سوء سمعة؛ لأنه قتل هاملتون في مبارزة، كثيرًا ما اضطر إلى دعوة أعضاء مجلس الشيوخ إلى النظام؛ لأنهم كانوا «يقضمون التفاح والكعك في مقاعدهم»؛ ولأنهم كانوا يتمشون بين أولئك الذين انهمكوا في بحث ونقاش. ومع ذلك فإن المجلس التشريعي الذي كان صغيرًا إلى درجة لا يمكن اعتباره معها هيئة للمداولة طغى على مجلس الشيوخ فيما يتعلق بالسلطة السياسية خلال العقود الثلاثة الأولى من حكومتنا، وقال ماديسون إنه «لما كان شابًّا يطمح إلى تعزيز سمعته كسياسي، لا يستطيع قبول مقعد في مجلس الشيوخ» الذي كانت مناقشاته ذات أثر ضئيل في الرأي العام. كان ذلك الوقت وقت تغيير في مجلس الشيوخ وفي صورة حكومتنا، وفي تطور نظام الحزبين وفي انتشار الديمقراطية إلى المزارع والحدود وفي الولايات المتحدة الأميركية، وكان الرجال الذين تميزوا بالمرونة وأولئك الذين كانوا يستطيعون مسايرة تيارات الرأي العام المتقلبة أو مغالبتها، وأولئك الذين كانوا يستطيعون مسايرة تيارات الرأي العام المتقلبة أو مغالبتها وأولئك الذين سعوا لتحقيق أمجادهم عن طريق هيبة مجلس الشيوخ، لا فيما يحققه من إنجازات تشريعية، هؤلاء كانوا رجالَ مثل تلك الأوقات، ولكن جون كوينسي آدمز الشاب ممثل مساتشوستس لم يكن رجلًا من هذا النوع.
28
611
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Types of Courage
John F. Kennedy
Social Sciences
Specialized
3,010,074
BAREC_Hindawi_36080595_001.txt
ومشروع استقلال مصر في سنة ١٨٠١ في الأيام الأولى من شهر يوليو سنة ١٧٩٨ نزل بأرض مصر جيش فرنسي يقوده نابليون بونابرت. ولم تكن هذه أول إغارة لهم عليها، ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر حاولوا امتلاكها، وتلاقت صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة. وكان الفرنسيون في تلك الأيام الغابرة — كما كان في أهل الغرب عامة — أقل حضارة وإتقانًا لفن الحرب كما مارسته العصور الوسطى، وكان الفارس من الفرنجة صورة سقيمة من المملوك الشرقي، فكانت عاقبة تلك الإغارات الفشل. ومضت خمسة قرون تحول فيها فارس العصور الوسطى — كما عرفه سان لويس وبيبرس — إلى الرجل الغربي الذي سيعرفه مراد والألفي والبرديسي في ١٧٩٨. خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض. خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديد. أما مماليك مصر فكانوا في ١٧٩٨ كما كانوا في ١٢٥٠ في الحرب والتفكير، أو كانوا على حال أسوأ بفقدان استقلالهم ودولتهم وما كانوا يجبونه من مكوس مفروضة على تجارة الشرق المارة في أرضهم. كذلك أهل مصر لم يصلهم عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، وظلوا في كل مقومات الحياة الوطنية حيث كان آباؤهم. اصطدم المماليك في صيف ١٧٩٨ بغرب غير الغرب الذي عرفوه أيام الحروب الصليبية. وسرعان ما رأوا أن لا أساس لما زعموه «من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج ١٧٩٨–١٨٠١ لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم» وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر. وحكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلًا على ثلاثة أعوام. وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية. وضيق عليهم أثناءها حصار بحري إنجليزي. وقام المصريون على حكمهم كلما أمكن ذلك. وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددًا لا يستهان به. وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة العربية شهورًا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرًا شبرًا وأخذت تبطل التجارة البحرية، ويقل ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد المغرب. ولم تطب للفرنسيين الإقامة بمصر فقد وجدوها دون ما توقعوا، وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعد ما بلغهم من تألب الدول الأوروبية من جديد ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها. وحتى مصر نفسها، عرفوا معرفة أكيدة أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جموعًا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون ولكنها، ولا بد، لها مع الزمن أثر. لا بد من تذكر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي. ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تمامًا: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن واتسع له الزمن ليجري على أسس الاستعمار الحديث. ولا يمكن الشك في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قايمة على قواعد الثورة الفرنسية، أتيح لها في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير أن تحكم قطرًا زراعيًّا خصبًا ذا مركز جغرافي فذ كوادي النيل. وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعم بعبر الدهر كالأمة المصرية. لو خلص لهم حكم مصر لبذلوا جهدًا صادقًا في تنمية الموارد بتنظيم الري وضبط النيل.
25
540
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
General Jacob and Knight Laskaris
Mohammed Shafiq Ghorbal
Social Sciences
Specialized
3,010,075
BAREC_Hindawi_36246035_001.txt
الثنوية الكونية الثنوية الكونية هي معتقد تمَّ تطويره في ارتباط مع معتقد التوحيد، وذلك في المنطقة المشرقية فيما بين أوائل الألف الأول قبل الميلاد وأواسط الألف الأول بعد الميلاد، وقد نشأ معتقد التوحيد عن معتقد «وحدانية العبادة» السابق عليه، والذي يقوم على عبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة التي لا يُنكر وجودها. كما نشأت وحدانية العبادة بدورها عن الوثنية التعددية التي تقوم على عبادة مجمع للآلهة مؤلف من مراتبية هرمية للقوى الإلهية، تُقدم لها جميعًا فروض العبادة، كلٌّ بما يناسب مقامه وأهمية القوة الطبيعانية التي يُمثِّلها بالنسبة إلى حياة الجماعة. يُمكن تعريف الثنوية الكونية بأنَّها المعتقد الذي يقول بقيام مبدأَين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخَر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم والإنسانية نحو نهاية محتومة عَبْر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة قبل أن يعدو الشر على الخير، والثانية هي مرحلة امتزاج الخير بالشر، والثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيًّا على قوى الشر لكي يعود العالم طيبًا ونقيًّا وكاملًا كما كان، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني. وبشكل عام يُمكن تقسيم المعتقدات الثنوية من حيث شكلها ومضمونها إلى ثلاث فئات هي: (١) الثنوية المطلقة. (٢) الثنوية الجذرية. (٣) الثنوية المعتدلة. تقول الثنوية المطلقة بوجود مبدأين أو أصلين أزليين مستقلين ومتعارضين، لكلٍّ منهما عالمه وسلطانه المطلق على ذلك العالم. فعالم للروح وللنور الأزلي، وعالم للمادة وللظلمة الأزلية، ولم يدخل هذان العالَمان في صلة مباشرة مع بعضهما إلَّا عندما عدت الظلمة على النور ودخلت في نسيجه، فكان لا بد من الفصل بينهما مجددًا، وهذا هو معتقد المانوية. أمَّا الثنوية الجذرية فتقول بوجود مبدأين متساويين في القيمة النسبية وفي علاقتهما بالوجود، ولكن هذان المبدآن ليسا أزليين بل حادثين ومتولدين عن الإله الأزلي الواحد القديم، وهما في حالة صراع دائم منذ صدورهما، وهذا هو معتقد الزرادشتية. وأمَّا الثنوية المعتدلة فتقول بمبدأ واحد وأصل واحد قديم وأزلي هو إله الأنوار الأعلى، ثم إنَّ هذا الإله الأعلى قد خلق إلهًا أدنى منه مرتبةً قام بدوره بخلق العالم المادي. فالمادة شرٌّ بطبيعتها، ولا يُمكن للإله الواحد الخيِّر أن يخلق الشر أو يكون مسئولًا عن وجوده، وهذا هو أساس المعتقدات الغنوصية على تعدُّد فرقها واختلاف مذاهبها. ويُشكِّل المعتقدان المسيحي والإسلامي ثنوية خاصة بهما يمكن أن ندعوها بالثنوية الأخلاقية. ذلك أنَّ التناقض بين الله والشيطان لا يطال كل مظاهر الوجود، وإنَّما يقتصر على الإنسان والمجتمعات الإنسانية، والشيطان لا سلطة فعلية له إلَّا على النفس الإنسانية يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله. فالثنوية هنا شكلية لا أساسية، ونحن نطلقها استنادًا إلى أنَّ الإنسان هو بؤرة خلق الله، وأنَّ العالم قد خُلق من أجله، فهو خليفة الله على الأرض وسيدها. من هنا فإن سلطة الشيطان على الإنسان هي نوع من المشاركة في السلطة على العالم، خصوصًا في المعتقد المسيحي، حيث نجد إنجيل يوحنا يدعو الشيطان برئيس هذا العالم (يوحنا، ١٢: ٣١) ويدعوه بولس الرسول بإله هذا الدهر (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، ٤: ٤). ولكي يتضح لنا مفهوم الثنوية بشكل أفضل، لا بد من التمييز بينه وبين مفهوم القطبية الذي لا يتضمَّن معنى الصراع بقدر ما يتضمَّن معنى التكامل والتعاون. فالقطبية هي معتقد يقول بوجود ثنائية أصلية قوامها قطبان متعارضان ومتناقضان في كل شيء، ولكنهما في الوقت نفسه متعاونان ولا قيام لأحدهما بدون الآخَر، وعن تناقضهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود المادي والحيوي وبهما تستمر. إنَّ النموذج الأكمل عن معتقد القطبية هو التاوية الصينية التي وضع أُسسها الفكرية المعلم لاو تسو في القرن السادس قبل الميلاد. يقول لاو تسو في الكتاب الوحيد المعزوِّ إليه، بوجود مبدأ أزلي قديم يُدعى بالتاو، والتاو ليس شخصية إلهية بل هو القاع الكلي للوجود، والحقيقة المطلقة التي يقوم بها كل نسبي،
31
656
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Merciful and the Devil
Firas Al-Sawah
Arts & Humanities
Specialized
3,010,076
BAREC_Hindawi_36463024_001.txt
مقدمة إما النزاهة وإما الرحيل! توجد ثلاث محطات وقود على طريق يقع بالقرب مني، وكلها إلى الجانب نفسه من الطريق. تخفِّض إحداها دائمًا أسعارها عن أسعار الآخرين بمقدار ٠٫٠١ دولار إلى ٠٫٠٣ دولار للجالون الواحد. يصطف سائقو المركبات على هذه المحطة؛ مما يسد الطريق في كلا الاتجاهين. ينتظر المستهلكون كي يدَّخروا في المتوسط ٠٫٠٢ دولار للجالون الواحد. في حالة خزان وقود يسع ٢٠ جالونًا، سيبلغ مقدار التوفير ٠٫٤٠ دولار. لكن إذا انتظرت ست دقائق في كل مرة، فسيبلغ إجمالي التوفير ٤ دولارات في الساعة، وهو ما لا يكافئ حتى الحد الأدنى للأجر، كما أنه سلوك غير عقلاني. يتصرف مستهلكو الوقود بنحو غير عقلاني لأنهم غاضبون. والسبب وراء غضبهم هو أن سعر الوقود جائر. إنهم يرون السعر جائرًا لأنه مرتفع — إذ تجاوز مؤخرًا ٣ دولارات للجالون الواحد — علاوة على أنهم يظنون أن قطاع النفط لا يتصرف بنزاهة. تمارس منظمة الأوبك سلطة جائرة على إمدادات النفط؛ فهي الآن تتحكم في حوالي ٤٠ في المائة من إنتاج النفط وأكثر من ٦٠ في المائة من احتياطيات النفط الخام. تجني شركات النفط أرباحًا جائرة. أعلنت شركة إكسون موبيل تسجيلها لأعلى أرباح في تاريخ الشركات. ويتلقى تنفيذيُّو شركات النفط أجرًا جائرًا؛ فالرئيس التنفيذي لإكسون موبيل يتلقى ما يربو على ١٤٤ ألف دولار في اليوم. ويفرض بائعو الوقود بالجملة أسعارًا جائرة؛ فيوظفون نظام تسعير جغرافي سري بحيث يفرضون على بعض المناطق ما يصل إلى ٠٫٥٠ دولار للجالون زيادة عن مناطق أخرى. وفي محطة الوقود، يتحمل المستهلكون سعرًا جائرًا؛ ففي الأيام الحارة يحصلون على كمية وقود أقل مما يدفعون مقابله لأن الوقود يتمدد. يردُّ المستهلكون على ما يرونه ظلمًا بالضغط على شركات النفط بالطريقة الوحيدة المتاحة لهم؛ بالتعبير عن غضبهم بمحطة الوقود. يتصرف كل مستهلك من تلقاء نفسه، فيشن المستهلكون حروبًا فردية ضد أسعار الوقود الجائرة، لكن قواهم المنسَّقة ستكون هائلة. تتأخر الشركات في إدراك تأثير الظلم الذي يشعر به المستهلكون؛ فعلى سبيل المثال: قال رئيس شركة ويسترن ستيتس بتروليوم أسوسييشن، مدافعًا عن ممارسات التسعير الجغرافي: «هذه سياسة مقبولة تمامًا من سياسات التسعير … وسيلة تفرض بها الشركات أسعارًا عادلة في مختلف المناطق.» لكن المستهلكين يختلفون معه، ويرون ذلك خاطئًا. وتتفهم بعض الشركات الموقف. مثلًا في إعلان حديث لشركة سبرينت لخدمات الهاتف المحمول، ثمة صورة لمجموعة من الأطفال تبدو عليهم خيبة الأمل وهم يقرءون لافتة خارج أحد الملاعب. على اللافتة كُتِبَت قواعد الملعب، وتنص القاعدتان الأوليان على ما يلي: (١) «عليك تخمين عدد الدقائق التي ستستحوذ فيها على الكرة للعامين المقبلين. لا تبالغ ولا تتهاون في تخمينك وإلا فستدفع الثمن.» (٢) «يتمتع أحدث من ينضم للمعلب بمزايا خاصة؛ وعليه فالأطفال المنضمون حديثًا يحصلون على الألعاب الجديدة ولا يحصل عليها من سبقهم.» يوضح إعلان شركة سبرينت الظلم الذي يكتنفه تسعير شركات المحمول: رسوم إضافية لتقديرها أنك بالغت في استخدامك أو كان استخدامك متدنِّيًا جدًّا، وكذا رسوم أقل للعملاء الجدد. كان يمكن أيضًا أن يذكر الإعلان فرض رسوم إضافية جائرة مقابل «مسائل تنظيمية» والارتباك الجائر الناجم عن الأنظمة المتعددة والفواتير التي يصعب فك طلاسمها. يشرح الإعلان أن شركة سبرينت الآن بصدد إعادة صياغة القواعد «لجعل ممارساتها منصفة» اتجهت سبرينت إلى تغيير سياساتها بناءً على الاستجابة الشعبية الهادئة — وإن كانت فاعلةً — لممارسات التسعير الجائر لشركات المحمول. فمن الواضح أن الشركة شرعت في استيعاب أن الإنصاف مهم. كما يبدو أن شركات الطيران بصدد استيعاب الرسالة أيضًا. منذ طرح شركة أمريكان إيرلاينز في عام ١٩٨٥ لما يُطلق عليه «التسعير المتغير»، راحت شركات الطيران تهنئ نفسها بالاستيلاء على فائض المستهلِك (الفرق بين ما يدفعه المستهلِك فعليًّا لقاء سلعة وما هو مستعد لدفعه في سبيل الحصول عليها)؛ إذ تجعل كل عميل يدفع أقصى مبلغ هو مستعد لدفعه. المشكلة أنه كان بإمكان أحد الركاب ألا يدفع سوى ١٥٠ دولارًا مقابل رحلة الطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس في حين كان يضطر راكب آخر على الطائرة نفسها إلى دفع ١٥٠٠ دولار. كان هذا مقبولًا لدرجة ما؛ فعلى كل حال، كان ركاب درجة رجال الأعمال يتلقَّون خدمة متميزة. لكن هل كانت جودتها أفضل بمقدار ١٠ أمثال جودة الخدمة التقليدية؟ لم يكن الاختلاف في الأسعار المدفوعة مقابل الرحلة الواحدة سوى جزء من المشكلة؛ بينما كان الجزء الآخر أنه لم يتوصل أحد إلى كيفية تحديد الأسعار. لم تبدُ الأسعار منطقية، وبدا أنها تتغير كل ساعة. لم يتلقَّ العملاء أي معلومات، فرفعوا راية التمرد على شركات الطيران. وكما كان الحال مع شركات المنتجات النفطية وشركات المحمول، كانت الثورة هادئة لكنها راسخة. وفي النهاية، استجابت شركة طيران واحدة على الأقل. خفضت شركة دلتا من خيارات التذاكر حتى ثمانية خيارات، وتخلَّت عن شرط قضاء ليالي السبت في الوجهات. نقلت صحيفة «ستار تريبيون» عن محلل جوي توقُّعه بأن شركات الطيران «في سبيلها إلى تبنِّي خطة تسعير أكثر اتساقًا وإنصافًا.»
46
837
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Pricing Error
Sarah Maxwell
Social Sciences
Specialized
3,010,077
BAREC_Hindawi_36480695_001.txt
المقدمة لما كان السبب الحامل على الشيء متقدمًا عليه طبعًا، ناسبَ أن نقدمه وضعًا، ولم نكتفِ بالإيماء في الخطبة إلى ما دعانا لجمع هذا التأليف، بل رأينا من المهم أن نعود إلى إيضاحه هنا ونبني عليه ما أردنا إيراده في المقدمة، فنقول: إن الباعث الأصلي على ذلك أمران آيلان إلى مقصد واحد؛ أحدهما: إغراءُ ذوي الغَيرة والحزم من رجال السياسة والعلم، بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية، وتنمية أسباب تمدنها بمثل توسيع دوائر العلوم والعرفان، وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة، وترويج سائر الصناعات ونفي أسباب البطالة، وأساس جميع ذلك حسن الإمارة، المتولد منه الأمن، المتولد منه الأمل، المتولد منه إتقان العمل المشاهد في الممالك الأوروباوية بالعيان وليس بعده بيان. وهذا على إطلاقه خطأ محض؛ فإن الأمر إذا كان صادرًا من غيرنا وكان صوابًا موافقًا للأدلة، لا سيما إذا كنا عليه وأُخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله. وكل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالًّا في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداءِ به فيما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدنيوية، كما تفعله الأمة الإفرنجية، فإنهم ما زالوا يقتدون بغيرهم في كل ما يرونه حسنًا من أعماله، حتى بلغوا في استقامة نظام دنياهم إلى ما هو مشاهد. وشأن الناقد البصير تمييز الحق بمسبار النظر في الشيء المعروض عليه قولًا كان أو فعلًا، فإن وجده صوابًا قَبِله واتَّبعه، سواءٌ كان صاحبه من أهل الحق أو من غيرهم، فليس بالرجال يُعرف الحق بل بالحق تعرف الرجال، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها. ولما أشار سلمان الفارسي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عادة الفرس أن يطوقوا مدنهم بخندق حين يحاصرهم العدو؛ اتقاءً من هجومه عليهم، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وحفر خندقًا للمدينة في غزوة الأحزاب، عمل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين. وقال سيدنا علي كرم الله وجهه: «لا تنظر إلى مَن قال، وانظر إلى ما قال.» وإذا ساغ للسلف الصالح أخذُ مثل المنطق من غير أهل ملتهم وترجمته من لغة اليونان لما رأوه من الآلات النافعة، حتى قال الغزالي: «مَن لا معرفة له بالمنطق لا يوثق بعلمه.» فأي مانع لنا اليوم من أخذ بعض المعارف التي نرى أنفسنا محتاجين إليها غاية الاحتياج في دفع المكائد وجلب الفوائد؟ وفي «سنن المهتدين» للعلَّامة الشيخ المواق المالكي ما نصه: «إن ما نُهينا عنه من أعمال غيرنا هو ما كان على خلاف مقتضى شرعنا، أما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة، فإنَّا لا نتركه لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لم يَنْهَ عن التشبه بمَن يفعل ما أذن الله فيه.» وفي «حاشية الدر المختار» للعلَّامة الشيخ محمد بن عابدين الحنفي ما نصه: «إن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا تضر.» على أنَّا إذا تأمَّلنا في حالة هؤلاء المنكرين لما يُستحسن من أعمال الإفرنج نجدهم يمتنعون من مجاراتهم فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها، ولا يمتنعون منها فيما يضرهم؛ وذلك أنَّا نراهم يتنافسون في الملابس وأثاث المساكن ونحوها من الضروريات، وكذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربية، والحال أن جميع ذلك من أعمال الإفرنج. ولا يخفى ما يلحق الأمة بذلك من الشَّيْن والخلل في العمران وفي السياسة؛ أما الشين فبالاحتياج للغير في غالب الضروريات الدال على تأخر الأمة في المعارف، وأما خلل العمران فبعدم انتفاع صناع البلاد باصطناع نتائجها الذي هو أصل مهمٌّ من أصول المكاسب. ومصداق ذلك ما نشاهده من أن صاحب الغنم منا، ومستولد الحرير وزارع القطن مثلًا يقتحم تعب ذلك سنة كاملة، ويبيع ما ينتجه عمله للإفرنجي بثمن يسير، ثم يشتريه منه بعد اصطناعه في مدة يسيرة بأضعاف ما باعه به. وبالجملة، فليس لنا الآن من نتائج أرضنا إلَّا قيمة موادها المجردة دون التطويرات العملية التي هي منشأ توفر الرغبات منَّا ومن غيرنا، ثم إذا نظرنا إلى مجموع ما يخرج من المملكة، وقايسناه بما يدخلها، فإن وجدناهما متقاربين خف الضرر، وأما إذا زادت قيمة الداخل على قيمة الخارج فحينئذٍ يُتَوقَّع الخراب لا محالة.
26
691
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Best Paths to Knowing the Conditions of Kingdoms
Khayr ad-Din al-Tunisi
Social Sciences
Specialized
3,010,078
BAREC_Hindawi_38130757_001.txt
تَحِيَّةُ الرَّايَةِ يَا رَايَةً لَوْلَاكِ مَا رَهِبَ الْعِدَا رُوحِي الْفِدَاءُ لَوَ انَّهَا تَرْضَى الْفِدَا خَضْرَاءُ كَالْوَادِي الْخَصِيبِ يَزِينُهَا نُورُ الْهِلَالِ بَدَا كَسَيْفٍ جُرِّدَا وَعَلَى جَوَانِبِهِ النُّجُومُ كَأَنَّهَا حَرَسٌ عَلَيْهِ إِذَا أَحَاطَ بِهِ الْعِدَا قَالَ فِي صِبَاهُ: رَعَى اللهُ أَيَّامَ الصِّبَا مَا أَلَذَّهَا وَأَلْطَفَ ذِكْرَاهَا عَلَى مَسْمَعِ الصَّبِّ تَقَضَّتْ وَأَغْصَانُ الْحَيَاةِ جَنِيَّةٌ فَمَا كَانَ لِي مِنْهَا سِوَى ثَمَرِ الْحُبِّ ثِمَارٌ لَعَمْرِي لَمْ يَذُقْهَا أَخُو الْهَوَى عَلَى الْبُعْدِ إِلَّا هَامَ شَوْقًا إِلَى الْقُرْبِ هُوَ الْحُبُّ لَا لَفْظٌ يُقَالُ وَإِنَّمَا عَوَاطِفُ يُهْدِيهَا الْعَفَافُ إِلَى الْقَلْبِ وَيَنْقُلُ مَعْنَاهَا إِلَى صُحُفِ الْهَوَى لِحَاظٌ تَعَوَّدْنَ الْكِتَابَةَ بِالْهُدْبِ فَمَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْغَرَامِ وَمَا عَسَى يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْعِشْقِ مِنْ أَلَمِ الْكَرْبِ وَرَاجَعَ مَا قَدْ خَطَّ فِي صَفَحَاتِهِ إِذن لَبَكَى الْعُشَّاقُ بِالْمَدْمَعِ الصَّبِّ وَقَالَ: زُرْتُها وَالْفُؤَادُ بِالْحُبِّ طَافِحْ فَأَفَاضَتْ مِنِّي الدُّمُوعُ الْفَوَاضِحْ ظَبْيَةٌ بَيْنَ لَحْظِهَا وَفُؤَادِي كَمْ مُحِبٍّ غَدَا لَعَمْرِي يُكَافِحْ وَهْوَ كَالْغُصْنِ بَيْنَ بِيضِ الصَّفَائِحْ حيثُمَا يَنْثَنِي يُصَادِفُ جَارِحْ لَيْسَ بِدْعًا فَلَحْظُهَا ذُو نِبَالٍ وَفُؤَادِي مُدَرَّعٌ بِالْجَوَارِحْ لَيَالِي مِصْرَ أَمَا وَلَيَالِي الْبَدْرِ فِي الْخَمْسِ وَالْعَشْرِ تَمِيسُ بِهَا الْغَادَاتُ خَصْرًا إِلَى خَصْرِ وَعِفَّةِ بَثْنٍ إِذْ تُنَاجِي جَمِيلَهَا بِرَائِقِ لَفْظٍ دُونَهُ رِقَّةُ الْخَمْرِ وَلَيْلٍ سَرَى الْعُشَّاقُ فِي ظُلُمَاتِهِ وَقَدِ ثَمِلُوا مِنْ عَذْبِ مِبْسَمِهَا الدُّرِّي وَصَوْلَةِ نَابُلْيُونَ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى وَحِكْمَةِ لُقْمَانٍ وَأَيْدِي ذَوِي الْبِرِّ وَمَثْوَى كِرَامٍ أَيْنَعَتْ فِي ظِلَالِهِمْ ثِمَارُ النَّدَى إِنَّ اللَّيَالِيَ فِي مِصْرِ لَأَزْهَى مِنَ الزُّهْرِ الْمُنِيرَةِ إِنَّمَا بِمَا فَوْقَ تِلْكَ الْقُبَّعَاتِ مِنَ الزَّهْرِ أَزَاهِرُ تَحْكِي وَهْيَ بَيْنَ غُصُونِهَا خُدُودَ ظِبَاءٍ لُحْنَ فِي الْحُلَلِ الْخُضْرِ أَجَلْتُ بِهِنَّ الطَّرْفَ لَيْلًا فَخِلْتُنِي وَأَسْتَغْفِرُ الرَّحْمَنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَيَالٍ حَوَتْ مِنْ كُلِّ غَادٍ لِغَادَةٍ هِيَ الشَّمْسُ لَوْلَا هَالَةٌ مِنْ دُجَى الشَّعْرِ إِذَا مَا أَرَتْنَا السِّحْرَ مِنْ لَحَظَاتِهَا سَقَتْنَا حُمَيَّا الْحُبِّ مِنْ ذَلِكَ السِّحْرِ وَإِنْ هِيَ مَالَتْ فَالْقُلُوبُ لِحُسْنِهَا تَمِيلُ وَإِنْ لَامَتْ فَمَا لَكَ مِنْ عُذْرِ وَمِنْ كُلِّ حَسْنَاءَ انْثَنَتْ لِحَبِيبِهَا فَكَانَتْ وَإِيَّاهُ كَحَرْفَيْنِ فِي سَطْرِ وَكَانَتْ وَكَانَتْ مَا لَنَا وَلِعَذْلِهَا فَمَا هِيَ إِلَّا لُعْبَةٌ فِي يَدِ الْفَقْرِ تُنَاجِي فَتَاهَا لَا لِمَيْلٍ وَإِنَّمَا لِمَالٍ بِهِ تَنْجُو الْفَتَاةُ مِنَ الْعُسْرِ وَتَنْظِمُ مِن آيِ الْغَرَامِ بِقَدْرِ مَا سَتَنْثُرُ كَفَّاهُ مِنَ الْبِيضِ وَالصُّفْرِ وَتَبْسِمُ حَتَّى لَا تَرَى غَيْرَ بَاسِمٍ وَتَبْكِي وَلَكِنْ دَمْعُهَا فِي الْحَشَا يَجْرِي لَقَدْ لَامَكِ الْفِتْيَانُ جَهْرًا وَحَبَّذَا هُوَ اللَّوْمُ لَوْلَا مَيْلُهُم لَكِ فِي السِّرِّ فَهُمْ أَفْسَدُوا بِالْمَالِ قَلْبَكِ إِذْ غَدَوْا وَقَدْ عَوَّضُوا مِنْكِ الْفُؤَادَ وَلَمْ تَدْرِي وَلَمْ يَكْتَفُوا حَتَّى انْثَنَوْا وَطِلَابُهُمْ لَعَمْرُ الْهَوَى مَا لَيْسَ يَجْمُلُ بِالْحُرِّ فَكُنْتِ لَهُمْ طَوْعَ الْبَنَانِ وَمَنْ يَذُقْ مِنَ الدَّهْرِ كَاسَ الْفَقْرِ يَخْشَ رَدَى الدَّهْرِ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَنْصَفُوا أَجْزَلُوا لَكِ الْــعَطَاءَ وَلَا دَيْنٌ عَلَيْكِ سِوَى الشُّكْرِ وَسُرُّوا بِأَنْ زَانُوا بِبِيضِ أَكُفِّهِمْ بَيَاضَ التُّقَى لَا سَوَّدُوا جَبْهَةَ الطُّهْرِ وَكُنْتِ وَكَانُوا فِي ائْتِلَافٍ يَزِينُهُ عَفَافٌ كَثَغْرٍ زَانَهُ مَا عَلَى الثَّغْرِ وَرُحْتِ إِذَا مَا لُحْتِ يَوْمًا لِعَاشِقٍ صَفَا وِدُّهُ نَادَاكِ يَا رَبَّةَ الْخِدْرِ وَلَوْ أَنَّ لُقْيَا الْقَبْرِ دُونَ لِقَا ثَرَى حِمَاكِ انْثَنَى شَوْقًا إِلَى ذَلِكِ الْقَبْرِ فَحَسْبُكِ بَلْ حَسْبُ الْمُحِبِّينَ أَنَّهُمْ إِذَا عَشِقُوا مَاتُوا أَسًى فِي الْهَوَى الْعُذْرِي غَدْرُ الْحَبِيبِ حَادِثَةٌ وَاقِعِيَّةٌ غَدَرَتْ فَغَادَرَتِ الْفُؤَادَ عَلِيلَا هَيْفَاءُ أَبْدَتْ لَحْظَهَا الْمَسْلُولَا وَرَمَتْ شِبَاكَ لِحَاظِهَا فَإِذَا بِهَا صَادَتْ فَتًى دَنِفَ الْفُؤَادِ نَحِيلَا يَحْكِي شَمَائِلَهَا بِرِقَّةِ قَلْبِهِ وَبِلُطْفِهِ يَحْكِي النَّسِيمَ عَلِيلَا مَا ضَلَّ بَيْنَ دُجَى غَدَائِرِ شَعْرِهَا حَتَّى رَأَى بِسَنَا الْعُيُونِ دَلِيلَا فَأَتَى إِلَيْهَا زَائِرًا مُتَسَتِّرًا بِذَوِيهِ يَخْشَى فِي الْغَرَامِ عَذُولَا حَتَّى إِذَا حَانَ الرَّحِيلُ وَصَافَحَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ مُحِبَّهَا الْمَجْهُولَا شَعَرَتْ بِضَمِّ أَنَامِلٍ مَا ضُمِّنَتْ غَيْرَ الْغَرَامِ وَحَسْبُهَا تَعْلِيلَا فَدَرَتْ بِمَا فِي قَلْبِهِ وَهَوَتْ بِيُسْــرَاهَا عَلَيْهِ وَقَدْ حَكَتْ إِكْلِيلَا قَالَتْ حَبِيبِي قَدْ أَثَرْتَ بِمُهْجَتِي نَارًا وَهَاكَ يَدِي تَمِيلُ ذُبُولَا فَاخْمِدْ لَظَاهَا مِنْ فُؤَادِي قَالَ لَوْ أَخْمَدْتُهَا بِدَمِي لَكَانَ قَلِيلَا وَغَدَا يَبُتُّ لَهَا الْغَرَامَ بُعَيْدَ مَا ضَاقَ الْمُقَامُ بِهِ وَخَافَ الْقِيلَا بِرِوَايَةٍ وَرَدَتْ لَهَا مِنْهُ وَقَدْ كَانَتْ بِهَا جُمَلُ الْغَرَامِ ذُيُولَا وَرَأَى زِيَارَتَهَا وَقَدْ عَبَسَ الدُّجَى إِذْ خَالَ فِي بَدْرِ السَّمَاءِ أُفُولَا وَكَأَنَّ ذَاكَ الْبَدْرَ وَلَّى مُذْ بَدَتْ شَمْسُ الْحَبِيبَةِ خَاشِعًا مَخْذُولَا هَذَا وَقَدْ نَثَرَ الدُّمُوعَ كَوَاكِبًا تَذْرِي بِدَمْعِ السُّحْبِ فَاضَ سُيُولَا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَا وَسَاءَ لَهَا الَّذِي تَهْوَاهُ كَانَ جَوابُهَا التَّقْبِيلَا وَلَكَمْ وَدِدْتُ بِأَنْ أَرَانِي سَائِلًا يَوْمًا وَأَلْقَى ذَلِكَ الْمَسْئُولَا أَوْ أَنْ تَكُونَ طَبِيبَتِي فِي عِلَّةٍ أَغْدُو بِهَا طُولَ الْحَيَاةِ عَلِيلَا أَوْ أَنْ أُبَارِزَهَا فَتُلْقِيَنِي بِنَبْــلِ لِحَاظِهَا فَوْقَ التُّرَابِ قَتِيلَا وَوَشَى الْوُشَاةُ بِسِرِّ ذَيَّاكَ الْهَوَى لَكِنَّهُمْ لَمْ يَصْدُقُوا التَّفْصِيلَا قَالُوا رَأَيْنَاهُ وَإِيَّاهَا عَلَى دَرَجَاتِ سُلَّمِهَا يَهَابُ دُخُولَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مَسَامِعَ أَهْلِهِ تِلْكَ الْوِشَايَةُ أَكْثَرُوا التَّأْوِيلَا وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْمَوَدَّةُ بَيْنَهُمْ بِالْحِقْدِ إِنَّ الْمَرْءَ كَانَ عَجُولَا وَرَأَى الْمُحِبُّ أُهَيْلَهُ فِي عَذْلِهِ لَجُّوا وَمَا عَذَرُوا فَرَامَ رَحِيلَا هَذَا وَجَاذَبَ قَلْبَهُ يَقْتَادُهُ حِينًا فَيَدْفَعُهُ الْإبَاءُ ذَلِيلَا وَدَرَتْ حَبِيبَتُهُ فَهَاجَ كُلُومَهَا هَجْرٌ رَأَتْهُ لِلشَّقَاءِ سَبِيلَا لَكِنَّهَا كَتَبَتْ كِتَابًا لِلْحَبِيــبِ وَأَوْدَعَتْهُ مِنَ الْغَرَامِ فُصُولَا فَرَأَى بِذَيَّاكَ الْكِتَابِ حَبِيبُهَا مَا رَقَّ أَلْفَاظًا وَرَاقَ أُصُولَا وَغَدَا إِلَيْهَا فِي الْغَدَاةِ وَقَلْبُهُ أَمْسَى بِقَيْدِ غَرَامِهَا مَغْلُولَا وَإِذَا بِهَا تَبْكِي فَقَالَ حَبِيبَتِي رِفْقًا فَطَرْفُكِ لَا يَزَالُ كَلِيلَا قَالَتْ وَكَيْفَ يَطِيبُ لِي بَعْدَ النَّوَى عَيْشٌ وَلَمْ أَلْقَى سِوَاكَ خَلِيلَا فَأَجَابَهَا — وَالْقَلْبُ مِنْ لَحَظَاتِهَا مُدْمًى: كَفَاكِ مُنَى الْفُؤَادِ عَوِيلَا قَالَتْ وَأَنَّى لِي وَآيُ مَدَامِعِي فِي صُحْفِ خَدِّي نُزِّلَتْ تَنْزِيلَا وَقَضَى الْغَرَامُ عَلَيْهِمَا فَتَعَاهَدَا مُسْتَشْهِدَيْنِ مَعَالِمًا وَطُلُولَا وَتَبَادَلَا خُصُلَاتِ شَعْرٍ عَلَّهَا يَوْمًا تَكُونُ مِنَ الْقُلُوبِ بَدِيلَا لَكِنَّهُ لَمْ يَمْضِ أُسْبُوعٌ عَلَى سَفَرِ الْمُحِبِّ وَكَانَ ذَاكَ طَوِيلَا حَتَّى أَتَتْهُ مِنَ الْحَبِيبِ رِسَالَةٌ فِيهَا نَسِيمُ الْحُبِّ فَاحَ قَبُولَا فَتَلَا بِهَا مَا لَوْ تُلِي يَوْمًا عَلَى غُصْنٍ ذَوَى لَزَهَا الْغُصَيْنُ بَلِيلَا أَوْ لَوْ تُلِي مَا بَيْنَ أَرْبَابِ الْهَوَى لَغَدَتْ مَدَامِعُهُمْ تُحَاكِي النِّيلَا وَأَضَاعَ خَصْلَةَ شَعْرِهَا يَوْمًا فَرَاحَ إِلَى حِمَاهَا ذَاهِلًا مَتْبُولَا قَالَتْ تُضِيعُ إِذَنْ فُؤَادِيَ مِثْلَهَا فَعَلَامَ تَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ حَلِيلَا فَأَجَابَ: إِنِّي مَا ذَكَرْتُكِ مَرَّةً وَلَثَمْتُهَا إِلَّا شَفَيْتُ غَلِيلَا فَرَمَتْ إِلَيْهِ بِخُصْلَةٍ أُخْرَى وَقَالَتْ مَا عَهِدْتُ أَخَا الْغَرَامِ بَخِيلَا وَتَفَارَقَا حِينًا وَإِذْ هُوَ جَالِسٌ يَوْمًا بِغُرْفَتِهِ وَكَانَ أَصِيلَا وَإِذَا بِوَاشٍ قَالَ تَزْهِيدًا لَهُ: «لِلْغَيْرِ قَدْ مَالَتْ» فَصَاحَ ذُهُولَا بِئْسَ الْمَحَبَّةُ لَا يَكُونُ حَلِيفُهَا شَرَفًا بِهِ يَغْدُو الْمُحِبُّ نَبِيلَا وَبَدَا بِقَطْعِ رَسَائِلٍ كَانَتْ دَوَاءً لَا لِدَاءِ الْعَاذِلِينَ مُزِيلَا أَمَّا حَبِيبَتُهُ فَلَمَّا آنَسَتْ ذَا الصَّدَّ رَامَ فُؤَادُهَا التَّحْوِيلَا وَصَبَتْ إِلَى صَبٍّ سِوَاهُ وَهَكَذَا حُبُّ النَّوَاعِسِ لَا يَدُومُ طَوِيلَا وَدَرَى الْمُحِبُّ بِأَمْرِهَا هَذَا وَمَا كَادَ الْوُشَاةُ لَهُ فَعَافَ مَقِيلَا وَغَدَا إِلَيْهَا يَرْتَجِي عَفْوًا عَنِ الْــمَاضِي بِأَلْفَاظٍ تَطِيبُ شُمُولَا فِي مَجْلِسٍ كَانَتْ رَسَائِلُهُ الْهَوَى الْــعُذْرِي وَكَانَ اللَّحْظُ فِيهِ رَسُولَا لَكِنَّهُ لَمْ يَجْنِ مِنْ غُصْنِ الْهَوَى ثَمَرًا سِوَى الْإِعْرَاضِ حَتَّى عِيلَا وَمَضَى وَنَارُ الْوَجْدِ تُصْلِيهِ فَمَا يَزْدَادُ إِلَّا رِقَّةً وَذُبُولَا يَشْكُو الْحَبِيبَ وَلَيْسَ يَشْكُو غَدْرَهُ حَذَرًا عَلَيْهِ بِأَنْ يُعَدَّ خَذُولَا فَأَتَى إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمَّا رَأَوْهُ بُحِبِّهَا مَشْغُولَا قَالُوا اغْضِ عَنْهَا الطَّرْفَ إِنَّكَ وَاجِدٌ إِلَّا لِنَفْسِكَ أَنْ فَقَدْتَ مَثِيلَا فَأَجَابَهُمْ وَالْحُبُّ يَنْظِمُ نَثْرَ مَدْ مَعِهِ بِبَيْتٍ قَالَهُ تَرْتِيلَا: مَنْ كَانَ لَا يُهْنِيهِ إِلَّا مَرْيَمٌ أَتُرَى يَطِيبُ لَهُ لِقَاءُ أَدِيلَا
105
1,028
18-sad
18
7
5
3
Hindawi
Memories
Ibrahim Zidan
Arts & Humanities
Specialized
3,010,079
BAREC_Hindawi_38257313_001.txt
مقدمة شعور بالذات تخيَّل حياةً لا بد فيها من ضبط وجود المرء بأكمله وتصميمه بما يتلاءم مع البيئة المتغيرة والقاسية في بعض الأحيان. حياة لا سبيل فيها للهرب. تلك هي حياة النبات. من الصعب علينا نحن البشر أن ندرك كُنْه هذا النوع من الوجود. فبالرغم من أننا عادةً ما نصمد أمام محنةٍ قصيرة الأمد لأننا نمتلك الآليات الفسيولوجية للتعامل مع مصادر الإزعاج الثانوية مثل شدة الحرارة (التعرُّق) أو شدة البرودة (الارتجاف)، فإننا نستطيع، إذا استمرَّت مثل هذه الظروف أو صارت أكثر قسوةً، أن نختار اقتلاع جذورنا والانتقال إلى مكانٍ مختلفٍ علَّه يكون أفضل. أما النباتات فلا تمتلك ذلك الخيار. تبدأ حياة النبات الحامل للبذور حين تنبت البذرة استعدادًا للتحوُّل إلى شتلة. ينضج النبات ليصل إلى مرحلة البلوغ ويمر بتحوُّل ثانٍ؛ إذ يصل إلى مرحلة الإزهار. يتطوَّر النبات بعد ذلك من مرحلة الإزهار إلى مرحلة تكوين البذور. وبعد إطلاق البذور الناضجة، يدخل النبات العجوز في مرحلة الشيخوخة التي قد تسقط خلالها البَتَلات والأوراق. ونظرًا لأنَّ النباتات لا تستطيع التحرُّك عمومًا خلال دورة حياتها، فعليها إذا كان لها أن تنموَ وتزدهر في بيئات ديناميكية، أن تمتلك حسًّا مرهفًا بما يجري حولها، مع القدرة على الاستجابة بطريقة ملائمة. فالإحساس بالبيئة ضروري للغاية من بداية الحياة. فالأرض التي تستقر فيها البذرة وتنبت تحدِّد البيئة المحيطة التي سيقضي فيها النبات الناشئ حياته بأكملها. إنَّ إنبات البذور هو البداية لدورة حياة النباتات الحاملة البذور. تنبثق الشتلة من البذرة، ثم ينضج النبات ويصل إلى مرحلة البلوغ. وبعد فترةٍ من النمو الخضري، يدخل النبات مرحلة التكاثر التي ينتج فيها الزهور. تشهد المرحلة التالية تطورًا من الإزهار إلى تكوين البذور. وبعد إطلاق البذور الناضجة، يدخل النبات العجوز مرحلة الشيخوخة التي قد يفقد خلالها البَتَلات والأوراق. في بعض الأنواع، تموت أفراد النباتات بعد التكاثر، بينما تمر في بعضها الآخر بدورات تكاثر متتالية. وبالرغم من أنَّ النباتات موجودة حولنا في كل مكان، فإنَّ معظمنا لا يعرف سوى أقل القليل عن قدراتها المذهلة على التنبؤ بالظروف المتغيرة باستمرار، والاحتماء منها، والتأقلم عليها. في بعض الأحيان، يُشار إلى انعدام القدرة على ملاحظة النباتات وإدراك أدوارها في الأنظمة البيئية التي نسكنها بما يكفي بمصطلح «عمى النباتات». صار هذا المصطلح محل خلاف على نحوٍ متزايد؛ لأنه يستند إلى استعارة تتعلَّق بإعاقة؛ أي إنه يعكس نمطًا من التفكير الذي يَعتبر العمى عجزًا. وبدلًا من ذلك، يمكن التعبير عن هذه النزعة إلى إغفال النباتات بمصطلح «التحيز ضد النباتات». فقد أوضحت الأبحاث التجريبية والاستبيانات بالفعل أنَّ البشر يفضِّلون الحيوانات على النباتات، وأكثر ميلًا إلى ملاحظتها أو تذكُّرها. نحتاج أيضًا إلى مصطلح مصاحب يشجِّع على تعميق الوعي بالنباتات المحيطة بنا وتقدير أهميتها؛ وفي ذلك يستخدم البعض مصطلح «تقدير النباتات»، لكني أفضِّل مصطلح «الوعي بالنباتات». ولا تقتصر أهمية الحد من التحيز ضد النباتات وزيادة الوعي بها على النباتات فحسب، فهما أمران مهمان للبشر أيضًا، مهمان لصحتنا الجسمانية والذهنية والفكرية. إنَّ الهدف من هذا الكتاب هو زيادة الوعي بالنباتات، والحد من التحيزات المحتملة ضد النباتات، إضافةً إلى التعريف بحكمة النباتات وما يمكن أن نتعلمه منها. من الموضوعات التي سنستكشفها كيفية شعور النباتات ببيئتها واستجابتها لها. إذا أوليت انتباهًا أكبر إلى النباتات المحيطة بك، فسترى العديد من الأمثلة على ذلك. لعلك قد رأيتَ أحد النباتات المنزلية يمتد باتجاه الضوء القادم من نافذة. إن هذا النبات يُظهِر أحد سلوكيات التكيُّف النشطة ألا وهو: الشعور بالضوء والسعي نحوه. فنظرًا لأنَّ النباتات تستخدم الضوء لإنتاج غذائها (في هيئة سكريات) من خلال عملية البناء الضوئي، تنحني للحصول عليه. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، سقوط أوراق شجر القيقب في فصل الخريف. فهذا سلوك موسمي لحفظ الطاقة؛ فسيكون من المكلف للشجرة أن تحتفظ بأوراقها خلال الشتاء. أما سقوط الأوراق، فيتيح للشجرة الصمود والاستمرار في حالة أيضٍ أهدأ. وذلك اللون الزاهي الرائع الذي يظهر قبل سقوط الأوراق (نتيجة تكسُّر صبغة الكلوروفيل الخضراء) هو مثال على نوع السلوكيات المعقدة التي تقوم بها النباتات استجابةً للإشارات البيئية. إنَّ سقوط أوراق شجرة القيقب في الخريف يختلف من ناحية مهمة عن انحناء نبات منزلي باتجاه الضوء. فجميع أنواع النباتات تتسم بأساليب تكيفية موروثة — مثل شكل مميز للورقة أو دورة حياة فصلية في مقابل دورة حياة دائمة الخضرة — تطورت بمرور الزمن وصارت ثابتة وراثيًّا تُمرَّر من جيل إلى جيل. غير أنَّ النباتات تُظهِر أيضًا أساليبَ تكيفية بيئية ليست ثابتة وراثيًّا، بل تظهر في جيل واحد أو حياة واحدة، ولا تُورَّث عادة. تُوجَّه هذه التغييرات التي تحدِّدها البيئة من خلال الجينات التي يتم التعبير عنها، أو المستخدمة بالفعل. وتتضمن تغيرات في النمط الظاهري للنبات (سماته الملحوظة)، مثل حجم الورقة أو سُمكها أو لونها أو اتجاهها، أو طول الساق أو سُمكها، وذلك بناءً على إشارات بيئية متغيرة. ويُعرف هذا النوع من التغير في الهيئة أو الوظيفة استجابةً للظروف البيئية الديناميكية باسم: مرونة النمط الظاهري. لا يقتصر شعور النباتات واستجابتها على الظروف البيئية؛ بل يمتد شعورها ليشمل النباتات والكائنات الأخرى المحيطة بها. يمكن أن نسمي النباتات ب «الجيران المتطفلين». فالنباتات تعرف «أين» توجد من خلال الاستشعار البيئي، وتعرف «مَن» يوجد حولها أيضًا. وتساعدها هذه المعرفة على اتخاذ قرارات بشأن اختيار التعاون أو التنافس. فلن تتنافس النباتات مع نبات مجاور على مصدر ضوء الشمس إلا إذا كان ذلك منطقيًّا؛ أما إذا كان هذا الجار أطول كثيرًا بالفعل، ومن غير المحتمل أن تنجح المنافسة، فسوف تتجنَّبها. وفي بعض الحالات، كما سنرى، قد تتعاون بالفعل للحصول على ضوء الشمس. يمكن للنباتات أيضًا أن تكتشف الاستجابات البيئية التي تصدر عن جيرانها، مما يُمكِّنها من توسيع نطاق وعيها بالإشارات والتغيرات البيئية. بل في بعض الأحيان تُغيِّر سلوكها بناءً على ما إذا كانت تجمعها بجيرانها صلة قرابة أم لا.
53
980
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Lessons from Plants
Bronda L. Montgomery
STEM
Specialized
3,010,080
BAREC_Hindawi_38269262_001.txt
قبل أن نقارن شكرًا نجيب محفوظ! فقد أتاحت لي الفترة التي قمت فيها بإعداد هذا الكتاب، أن أعاود قراءة إبداعك الجميل، مرَّةً واحدة، في فترة متقاربة، وأن أشاهد الأفلام المأخوذة عن بعض هذا الإبداع، من روايات وقصص قصيرة؛ مما جعلني أعايش عالم الكاتب البالغ الاتساع، رغم ضِيق المكان فيه، وذلك من خلال شخصيَّاته، والأماكن التي يعيشون فيها، والمصائر التي تنتظرهم، بالإضافة إلى مواقفهم من الحياة، والكون، والمسائل القدريَّة. جاءت فكرة هذا الكتاب، من خلال اهتمامي بالمقارنة دومًا بين النصوص الأدبية، والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواءً في الآداب العالميَّة أو المحليَّة، وهو أمر مُهمٌّ للغاية؛ حيث لاحظت دومًا أن الكثيرين من المُهتمين بالسينما المصرية، ومنهم نقاد، لا يقرءون الآداب إلا قليلًا، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرةً دُونيَّة، فلا يتابعون الجديد منها، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا نجومًا في السينما بفضل إبداعاتهم؛ لذا فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة للغاية، رغم هذا الكمِّ الكبير من الأفلام الجيدة، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب. مهما قِيل إن الفيلم صورة، فهو أيضًا قصة وحوار. وكم قِيل في هذه العلاقة بين الفيلم والنَّص الأدبي، وكم نُوقِشت مسألة الالتزام، أو الخروج عن النَّص الأدبي، وقد كانت أعمال نجيب محفوظ هي الأكثر جدلًا في هذا الأمر، ليس فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية، ولكن أيضًا لأن محفوظ هو أقدم الروائيِّين ارتباطًا بالسينما، سواءً ككاتب سيناريو منذ بدايته عام ١٩٤٧م، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته، عام ١٩٦٠م، وحتى الآن. فليس هناك أديب آخر ظلَّت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذه السنوات الطويلة، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المُخرجين، وفي مُقدِّمتهم صلاح أبو سيف، الذي كان يفخر دومًا أنه علَّم نجيب محفوظ حِرفيَّة كتابة السيناريو. لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما، ستظل أمرًا متجددًا في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية، خاصةً المقارنة منها. وقد لفتت هذه العلاقةُ الكثيرَ من الباحثين، فقدَّموا العديد من الدراسات والمقالات في هذا الشأن، ولعل الموسوعة التي أعدَّها الدكتور مدكور ثابت عن نجيب محفوظ والسينما في أكاديمية الفنون، تكشف قوة هذه العلاقة، رغم أنه ليس كل ما كُتب عن الكاتب والسينما مرصود في هذه الموسوعة. كما أن الكتب التي تناولت إبداع محفوظ في السينما لم تتوقف إلا عند أفلامٍ بعينها؛ حيث بدا إلى أيِّ حدٍّ صار من الصعب على أيِّ باحثٍ أن يرصد هذه العلاقة. ومن هنا جاء شكل الكتاب الذي نقدِّمه اليوم عن العلاقة بين الفيلم والرواية عند الكاتب، أو بشكلٍ عام بين النَّص الأدبي، أيًّا كان روايةً أو قصةً قصيرة، وبين النَّص السينمائي، إنه كتاب مقارنة في المقام الأول بين الطرفين؛ الفيلم، الرواية. وبالعكس. هو قراءة لكلا النَّصَّين معًا؛ أيْ قراءة النَّصِّ السينمائي، مع أصله النَّصِّ الأدبي، ماذا لفت كاتب السيناريو في النَّصِّ الأدبي؟ وماذا توقف عنده؟ وماذا حذف من النَّص؟ ثُم إضافات السيناريو؛ حيث لُوحِظ أن هناك كُتَّاب سيناريو تعاملوا مع النَّصِّ الأدبيِّ بالتزام واضح في أفلامٍ عديدة، منها «اللِّصُّ والكلاب»، و«أهلُ القمة»، و«الحبُّ فوق هضبة الهرم»، و«بين القصرين»، وبدرجاتٍ مختلفة في «السمان والخريف»، و«الطريق»، و«السُّكَّرية»، و«الحبُّ تحت المطر»، و«ميرامار»، و«القاهرة ٣٠»، و«الحرافيش»، وراحت أفلام أخرى تأخذ بعض السطور أو الفصول، مثل «الخادمة»، و«نور العيون»، و«وصمة عار»، و«ليل وخَوَنة»، بينما من الصعب جدًّا أن نرى أيَّ علاقة بين أفلام كتب في أفيشاتها أنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، دون أن تكون مأخوذة حقيقةً عن أيٍّ من أعمال نجيب محفوظ، مثل «الشريدة» لأشرف فهمي، و«أميرة حبي أنا» لحسن الإمام، و«فتوَّات بولاق» ليحيى العلمي، و«المذنبون» لسعيد مرزوق. لذا، فإننا توقَّفنا عند المقارنة بين النَّصِّ الأدبي، والسينمائي، وعندما لم نجد أيَّ شيء لا يستدعي لا المقارنة، أو التحليل، مثل الأفلام السابقة الذكر، التي استبعدنا الحديث عنها تمامًا، تجاهلنا الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام، فمثلًا بالبحث عن الأصل الأدبي لفيلم «فتوَّات بولاق»، فإن معركةً مفتعلةً قد قيلت في بداية الثمانينيَّات أن الأصل هو «الشيطان يعظ»، علمًا أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم، وقد قِيل آنذاك إن القصة بِيعَت مرَّتين، كما ادَّعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص «أولاد حارتنا»، وهذا ليس صحيحًا، كما أن البعض ذكر أن الفيلم مأخوذ من الحكاية رقم «٢٢» في رواية «حكايات حارتنا»، وبقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين، اتضح أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من «الشيطان يعظ». أمَّا «أميرة حُبي أنا» فالفيلم مأخوذ عن واحدة من قصص «المرايا»، وهناك تشابهٌ واهٍ للغاية بين بطلة القصة وبين أميرة، كما أن كاتب السيناريو أحمد صالح قد كتب سيناريو مختلفًا تمامًا عن أقصوصة «الشريدة»، المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم «همس الجنون» عام ١٩٣٩م، وقد كتب مقالًا في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام ٢٠٠٩م. إذن، فهذا كتاب قوامه الأساسيُّ هو المقارنة بين النَّصَّين، دون الرجوع إلى أيِّ مراجع أخرى وبشكلٍ متعمَّد، سوى النَّصِّ الأدبيِّ كقراءة، والفيلم كمشاهدة، كما لن نرجع إلى ما كان يردِّده محفوظ عن عدم تدخُّله في الفيلم، باعتباره وسيلةً مختلفة، ونحن لم نرَ في العالم كاتبًا يتدخَّل بالمرَّة في حذف أو إضافة لفيلم مأخوذ عن رواية أدبية له؛ فالكاتب لم يشارك قطُّ في كتابة أيٍّ من الأفلام المأخوذة عن نصوصه الأدبية، ولا نعلم ماذا كان سيئول إليه النصُّ لو قام بذلك، لكننا نذكر أن كُتَّابًا عديدين تركوا زميلهم محفوظ يكتب لهم سيناريوهات أفلام مأخوذة عن قصصهم، مثل إحسان عبد القدوس، في «أنا حُرة»، و«بئر الحرمان». ولعل تدخُّل أيِّ كاتب في روايته قد تجلَّى بشكل واضح في تجربة صبري موسى، وهو يقوم بكتابة سيناريو فيلم «حادث النِّصف متر»، فبدا كأنه يكتب سيناريو لرواية مختلفة تمامًا عن روايته. والأمر يحتاج إلى بحوثٍ عديدة عن السينما في كل أنحاء الدنيا. ومن هنا، نقدِّم هذا الكتاب، الذي يعتمد على قراءة ومقارنة النَّصَّين معًا؛ النَّص الأدبي والنَّص السينمائي، كنوع من التسجيل، دون اللجوء إلى التأصيل أو التحليل؛ لأن هذا ليس دورنا في هذا الكتاب بشكل خاص. في آخر الفصول، تعمَّدنا تقديم قائمتين لكافَّة البيانات عن الأفلام التي كتبها نجيب محفوظ مباشرةً إلى السينما، وأخرى عن الأفلام المأخوذة مباشرةً من نصوصه الأدبية، في أول تجميعة من نوعها. بداية ونهاية هذه رواية أُسرة، أكثر منها رواية مكان، كعادة روايات نجيب محفوظ التي كتبها في الأربعينيَّات، رغم وجود المكان الضيِّق الذي تعيش فيه هذه الأُسرة، والمكان هو الذي يحبس أبطاله بداخله، ويكون جزاء مَن يتمرَّد على المكان، أن يدفع الثمن غاليًا، بالموت في المقام الأول مثلما فعل حسنين، من خلال أخته التي دفعت للانتحار، نفيسة. يبدو أبطال الرواية في الفصول الأولى أصغر سنًّا من الممثلين الذين جسَّدوا هذه الأدوار، خاصَّةً حسنين كامل علي وأخيه حسين، اللذين جُسِّدا من خلال عمر الشريف (مولود عام ١٩٣١م)، وكمال حسين (مولود عام ١٩٢٥م)؛ فالمفروض أن الأول في الصفِّ الثاني، والثاني في الصفِّ الرابع الثانوي، أيْ إن عمر الأول يتراوح بين الرابعة عشرة على الأكثر، لكن الفيلم الذي بدأ بعد وفاة الأب بفترة، أقرَّ أن يكون أبطاله في سنِّ الطلاب، باعتبار أن حسنين سيتقدَّم إلى إحدى الكليَّات العسكريَّة عقب حصوله على التوجيهية، أمَّا الفصل الأول من رواية «بداية ونهاية» فيدور داخل المدرسة؛ حيث سيتم إخبار الشقيقين أن أباهما قد رحل.
53
1,355
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Naguib Mahfouz Between Film and Novel
Mahmoud Qassem
Arts & Humanities
Specialized
3,010,081
BAREC_Hindawi_38285964_001.txt
جورج سوريل كان جورج سوريل من المعمرين كمعظم زملائه من فلاسفة الحكم في العصر الحديث، فامتدت حياته من سنة ١٨٤٧ إلى سنة ١٩٢٢، ووقعت في خلال هذا العمر حرب السبعين، وتأسست الدولة الألمانية، وتداولت فرنسا أنواع مختلفة من الحكومات، ثم نشبت الحرب العالمية الأولى، وقامت بعدها حكومة شيوعية في بلاد روسيا القيصرية، فاستطاع سوريل أن يقرن بين مشاهدة الوقائع، ومطالعة التواريخ، ومذاهب السياسة التي كانت في إبان رواجها حوالي الزمن الذي بلغ فيه سن العمل والتفكير، فبنى مذهبه على ما استخلصه من المشاهدة والمطالعة، وكان يقول: إنه يطالع ليمسح من ذهنه بعض ما تعلمه في صباه، فهو يطالع لنسيان بعض القديم كما يطالع لتحصيل بعض الجديد. ويعتبر سوريل أستاذًا لكثير من الكُتاب في فلسفة الحكم والسياسة، ومنهم باريتو وميشل اللذان كتبنا عنهما في هذه الرسالة، وكان موسوليني يقول: «إن الذي جعلني أنا ما أنا لست مدينًا به لنيتشه ولا لوليام جيمس، بل لسوريل.» ومن عجائب الخصائص التي امتاز بها سوريل أنه يَصلح أن يكون أستاذًا لأناس يخالف بعضهم بعضًا مخالفة النقيض؛ لأنه في طوية نفسه محافظ متمرد، ويتوقف على فهم هذه الطبيعة فيه فهم كل ما آمن به وكل ما أنكره من المعتقدات والأخلاق. كان فرنسيًّا من النورمانديين، فيه ما فيهم من طبيعة الجد والمحافظة، فهو لا يتمرد لأنه يحب الإفلات من الواجبات والمأثورات؛ بل يتمرد لأنه يقدِّس الواجبات والمأثورات، ويشمئز من التبذل والإباحة والانطلاق مع الشهوات والصغائر، ولعل استقامته في حياته الزوجية مثل فريد بين الأكثرين من دعاة الثورة وأنصار التجديد. ويمكننا أن نعرف الطريق التي تنفتح أمام هذا الثائر المتمرد إذا عرفنا الآراء التي كانت طاغية في زمانه على الأفكار، فهناك نزعة تمرد أمام كل رأي طغى على سائر الآراء، ومن ثَم كانت ثورة سوريل على مذهب داروين، وعلى تقديس العلم والعقل، وعلى عصمة الحياة النيابية، وثورته على الشيوعية الماركسية كذلك. وُلد سوريل في شربورج وتعلَّم في مدارسها، ثم تخرج من مدرسة الصناعات والفنون بباريس، واشتغل بهندسة الطرق والقناطر إلى أن بلغ الخامسة والأربعين وحصل باجتهاده وأمانته على وسام فرقة الشرف، ثم ثقلت على نفسه آفات الفساد والاختلاس فترك الهندسة، وعوَّل على الدعوة إلى إصلاح المجتمع من حيث يقدر له الصلاح. وران على ضميره شعور الاشمئزاز فملَكته فكرة الانهيار والتداعي، فراح يكتب عن تداعي العالم الحديث كما يكتب عن تداعي العالم القديم، وليس أكثر في كتاباته عن كلمات الانحلال والانحطاط والخراب مقترنة بوصف النظم الاجتماعية التي وجب في عرفه أن تنهدم أو تزال كما تزال الأنقاض. واتفق أنه تصدى للسياسة والفرنسيون خاصة يتحدثون عن آخرة الزمن Fin de siècle لاقتراب نهاية القرن التاسع عشر، كأنما هم يتحدثون عن اقتراب يوم القيامة! فوافقت هذه النغمة شعوره بانحلال كل شيء، وحاجة كل شيء إلى إعادة البناء. وقد أسلفنا أن الأفكار الطاغية في كل زمن من الأزمان تدلنا على الوجهة التي تنفتح بطبيعتها أمام المتمرد في ذلك الزمن. ولهذا تمرَّد سوريل — كما أسلفنا — على مذهب داروين وعلى تقديس العلم والعقل وعلى عصمة الحياة النيابية، كما تمرَّد على الشيوعية الماركسية. ففي أواخر القرن التاسع عشر بلغ مذهب داروين أوجه من الشيوع بين المفكرين فاستهوى إليه الباحثين والمتكلمين في المجالس عن محدثات العلوم، وكان المذهب كما شاع يومئذٍ يقوم على نظرية تنازع البقاء ونظرية التقدم والارتقاء، وهو خطأ في ترجمة كلمة التطور وقع فيه القراء الأوروبيون كما وقع فيه قراء المشرق في أوائل عهدهم بهذه النظريات؛ لأن التقدم Progress لا يلزم من القول بتطور الحياة، وتطور الأشياء على العموم. أنكر سوريل كلتا النظريتين، فقال بتنازع القوة والسيادة بدلًا من تنازع البقاء، وقال بالدورات التاريخية بدلًا من التقدم المطرد في أدوار التاريخ، وقد رجع في الإيمان بإرادة القوة إلى نيتشه، ورجع في القول بالدورات إلى فيكو Vico الذي يقول بنكسة الحضارة إلى البربرية وتجدُّد الحضارة كرة أخرى من غمرة البربرية دواليك على طول الزمن إلى غير انتهاء. وكان العلم الحديث قد أرسل معاوله لهدم كل معتقَد قديم، ووقر في أذهان بعض أنصاره أنه قادر على تفسير كل سر من أسرار الطبيعة والنفس البشرية، وقادر على إصلاح كل عيب من عيوب الاجتماع. وبدأ رد الفعل على هذه الدعوى في إبان الوقت الذي تحوَّل فيه سوريل من الهندسة إلى السياسة، فثار على دعوى العلم، بل ثار على العقليين الذين يعالِجون مسائل الأخلاق ومشكلات الاجتماع كأنما هي كلها قضايا عقلية تَخضع للمنطق والتعليل، ووافقت ثورته هذه ظهور مذهب برجسون القائل بدفعة الحياة وظهور مذهب وليام جيمس القائل بأن «العمل الواقع» هو مقياس الحقيقة، وامتزج المذهبان في رأي سوريل فأنحى على الفلاسفة الأقدمين والمحدثين الذين حسبوا أن الإقناع كافٍ للإصلاح، وأن الأخلاق منوطة بتعريفات العقول والعلوم، وعَدَّ من عيوب المجتمع «البرجوازي» أو مجتمع الطبقة الوسطى أنه يعتمد على الإقناع في جميع الأمور، ولا يلتفت إلى الفضائل الحيوية، وبواعث العمل من أعماق السرائر والطباع.
32
804
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Philosophers of Governance in the Modern Era
Abbas Mahmoud Al-Aqqad
Social Sciences
Specialized
3,010,082
BAREC_Hindawi_38473814_001.txt
الوجدان ميزة الإنسان أحب أن أزور حديقة الحيوان بالجيزة حيث أتأمل موكب التطور، ولكني حين أقف أمام حيوان ما أجدني أتأمله، لا لأعرفه هو ولكن لأعرف الإنسان: لأعرف نفسي. أنا في وجدان، أما هو ففي ذهول، أنا واجد نفسي في هذا الكون، أما هو فذاهل كأنه في حلم، ووجداني هو شيء فوق العواطف؛ فإن الحيوان يغضب ويجوع ويشتهي ويخاف ويغامر، وجميع هذه العواطف أحسها أنا أيضًا في الظروف التي تتطلبها، ولكني حين أحسها يزول عني وجداني بقدر إحساسي لها، فإذا كان إحساسي غامرًا مطبقًا فليس هناك وجدان، وإذا كان صغيرًا جزئيًّا فإني أجد نفسي. أجدني إذا غضبت كثيرًا هذيت بالشتائم وقد أرفس بقدمي بلا تعقل، بلا وجدان، كأني حيوان؛ لأن العاطفة تغمرني، فإذا هدأت؛ أي: إذا خفَّت العاطفة عاد إليَّ وجداني، فأفكر وأتعقل. ليس للحيوان إحساس تاريخي؛ لأنه يعيش بعواطفه، ولكني أنا أعيش في التاريخ، لي أمس وغد، ولي أبعاد زمنية؛ أذكر الفراعنة والرومان والعرب قبل آلاف السنين، وأبعاد جغرافية أتنبه لها كل يوم حين أقرأ عن أخبار الحرب في كوريا، أو البترول في العراق، أو تأميم المناجم في إنجلترا. ونحن البشر نتفاوت في درجة الوجدان، فالمتعلم أكثر وجدانًا من الأمي؛ لأن الكلمات والعلوم زادت وجدانه، وأينشتين أكثر وجدانًا منا؛ لأنه يتصور الكون بآفاته التي لا نصل إليها نحن، وقارئ الجريدة اليومية أكثر وجدانًا من القارئ الذي يقرأ المجلة المصورة. وقد قلت: إن الوجدان ميزة إنسانية، ولكي أرى بوادرها في الكلب وفي حيوانات أخرى، بوادر فقط، حين أتأمل الأسد في قفصه في حديقة الحيوان أعتقد أن وجدانه أو بوادر وجدانه قد ألغيت بالقفص؛ لأنها حرمته من اختبارات الغابة، والصيد، والإصابة، والخطأ، والتجول، والإقدام، والهرب، وكل هذا جديرٌ بأن يكسبه شيئًا من الوجدان. بل ماذا أقول! إني أحيانًا أتأمل بعض الناس فأجد أنهم ذاهلون مثل هذا الأسد في قفصه، والقفص الذي يعيشون فيه هو هذا البيت وهذا المكتب وهذا الشارع بينهما، يقطعونه ذهابًا وإيابًا كل يوم، ولا يقرءون الجريدة، ولا يشتركون في نشاط علمي أو أدبي أو اجتماعي، ولا يخرجون إلى الريف، ولا يسهرون ليلة كاملة في الخلاء. ولو كنا على وجدان تام لكنا على سعادة تامة؛ لأننا — عندئذ — نتخلص من تراث العواطف الحيوانية، وأيضًا نعرف جميع الأسباب ونقدر جميع النتائج، وهذا بالطبع محال، ولكن على قدر وجداننا يكون المقدار الذي نناله من السعادة؛ لأنا نتعقل — عندئذ — جميع الأشياء، ومتى تعقلناها تمامًا لا يكون للعاطفة مكان. والجنون هو فقداننا للوجدان، وهو يبدأ «نيوروزًا»؛ أي: احتداد عاطفة معينة؛ كالخوف، أو الغضب، أو الكراهية، أو الحب، ثم ينتهي «بسيكوز»؛ أي: اختلاط العقل وزوال الوجدان، بل إن الوجدان قد زال قبل ذلك باحتداد العاطفة؛ أي: «بالنيوروز». ومهمة التربية هي تغليب الوجدان على العاطفة؛ لأن معظم أخطائنا وكوارثنا ينشأ من السلوك الذي ينبني على انفعالنا العاطفي بدلًا من تفكيرنا الوجداني. فإن كلمة «المروءة» — مثلًا — تنقلني من حدودي الفردية الذاتية إلى آفاق اجتماعية وبشرية ودينية، وعندما أشيخ ويبدأ خرف الشيخوخة في التسلط على عقلي فإن ذلك لن يكون إلا عن سبيل النسيان للكلمات التي تعين لي المعاني وتزيد وجداني، أما إذا بقيت هذه الكلمات في ذاكرتي فإن هذا الخرف لن يجد سبيلًا إليَّ؛ ولذلك يجب أن نذكر أن للغة قيمة كبرى في صحة النفس؛ سواء من ناحيتي الكم أو الكيف.
24
594
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Attempts
Salama Moussa
Social Sciences
Specialized
3,010,083
BAREC_Hindawi_38503152_001.txt
مقدمة كنت أود أن أشكرك على شرائك هذا الكتاب، ولكن لو كان فيك بعض من خصالي لما كنت اشتريته أبدًا. ومع ذلك فإنك حملته إلى مقهى المكتبة وأخذت تتصفحه وأنت ترتشف الكابوتشينو في الوقت الذي تقرر فيه ما إذا كان يستحق المال الذي ستدفعه فيه أم لا. يخبرك هذا الكتاب عن الكيفية التي يرى بها خبراء الاقتصاد العالم. وفي حقيقة الأمر ربما يجلس أحدهم بجوارك الآن وأنت لا تعي وجوده، فالشخص العادي حينما ينظر إلى خبير اقتصادي لا يرى فيه شيئًا يخالف المألوف. أما في عيون خبراء الاقتصاد فيبدو الأشخاص العاديون وفيهم شيء يخالف المألوف. فماذا يرى خبير الاقتصاد؟ فإذا كان السؤال يعنيك، تُرى ماذا ستكون إذن إجابته عليه؟ ولماذا «يجب» أن يعنيك هذا السؤال؟ قد تظن أنك تستمتع بفنجان الكابوتشينو المغطى بالرغوة، ولكن خبير الاقتصاد يراك أنت والكابوتشينو كلاعبيْن في لعبة دقيقة ومعقدة ذات إشارات ومفاوضات وصراعات قوة ومعارك تعتمد على الدهاء لا العنف. ويحصل الفائزون في هذه اللعبة على جوائز ضخمة: فبعض من شاركوا في الجهد لكي تحصل على كوب القهوة الذي تحتسيه الآن يحصلون على كثير من الأموال، في حين يحصل بعضهم على أموال قليلة. أما البعض الآخر، فيتطلع للحصول على المال الذي تحمله في جيبك الآن. يستطيع مخبرنا الاقتصادي أن يخبرك من سيحصل على ماذا، وكيف، ولماذا. أتمنى بعدما تنتهي من قراءة هذا الكتاب أن تتمكن من رؤية الأشياء بنفس عين خبير الاقتصاد. ولكن من فضلك اشتر الكتاب أولًا قبل أن يطردك صاحب المتجر. وفي حقيقة الأمر فإن خبير الاقتصاد يرى أن قهوتك من المسائل المُحيرة والمثيرة للفضول وذلك لسبب آخر، فهو لا يعرف كيفية صناعة الكابوتشينو، ويعرف أيضًا أن لا أحد يعرف. ففي النهاية من يحق له أن يفخر بأنه هو الذي زرع البن، وقطف ثمرته، وحمصه، وخلطه ببعض التوابل والحبوب الأخرى لإكسابه نكهة مستحبة، وربى الأبقار وحلبها، وسبك الصلب، وشكل اللدائن، وجمعها ليصنع آلة تحضير القهوة. وفي النهاية، يشكل الخزف ليصنع كوبًا جميل الشكل؟ ففنجان الكابوتشينو الذي تحتسيه يعكس نتاج نظام ذا تعقيد مذهل. فلا يوجد شخص بمفرده في هذا العالم يستطيع القيام بكل ما تتطلبه عملية إعداد كوب الكابوتشينو. أما خبير الاقتصاد، فيعرف أن الكابوتشينو هو نتاج جهد مذهل لفريق عمل. ليس هذا فحسب بل لا يوجد من يترأس هذا الفريق. يذكرنا أستاذ الاقتصاد بول سيبرايت Paul Seabright بالتساؤل الذي طرحه أحد المسئولين السوفيت في محاولة لفهم النظام الغربي، وكان سؤاله: «قل لي من المسئول عن توفير الخبز لسكان لندن؟» لقد كان سؤاله مضحكًا، ولكن الإجابة — وهي لا أحد — جاءت محيرة للذهن. وعندما ينصرف انتباه خبير الاقتصاد عن قهوتك ليتأمل باقي المتجر، فإن التحديات التنظيمية تزيد أكثر وأكثر، فتعقيد النظام الذي جعل من المتجر واقعًا حيًّا هو أمر يستعصي وصفه. تذكر الابتكار والتطور اللذين حدثا على مدار قرون من الزمان، بدءًا من الورق الذي تُطبع عليه الكتب، إلى مصابيح الإضاءة التي تنير الأرفف، إلى البرمجيات التي تعطي معلومات عن التغير في مخزون الكتب، ناهيك عن المعجزات اليومية للمؤسسة التي عن طريقها تُجري عملية طباعة الكتب ثم تجليدها ثم تخزينها ثم تسليمها للمكتبات ثم وضعها على الأرفف ثم بيعها. يحقق هذا النظام نجاحًا رائعًا. فعندما اشتريت أنت هذا الكتاب — بالتأكيد اشتريته الآن، أليس كذلك؟— ربما تكون اشتريته دون أن توصي متجر الكتب أن يطلبه من أجلك. وربما لم يخطر بذهنك عندما غادرت منزلك هذا الصباح أنك ستشتريه. ومع ذلك وبشيء من السحر قام العشرات بما يلزم من أجل تلبية رغباتك غير المتوقعة بدءًا بي ثم المحررين، والمسوقين، والمدققين اللغويين، والمطابع، ومصنعي الورق، وموردي الحبر إلى جانب كثيرين غيرهم ... يمكن أن يشرح لك خبير الاقتصاد الكيفية التي يعمل بها نظام مثل هذا، وأيضًا الكيفية التي تحاول بها الشركات استغلاله، وكذا ما يمكن أن تفعله كمستهلك من أجل مقاومة ذلك الاستغلال. والآن ها هو المخبر الاقتصادي يطل من النافذة ويلقى بنظرة محدقة على زحام المرور بالخارج. ينظر بعض الأشخاص إلى زحام المرور باعتباره مجرد حقيقة مزعجة من حقائق الحياة.
33
683
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Economic Detective
Tim Harford
Social Sciences
Specialized
3,010,084
BAREC_Hindawi_39182749_001.txt
النور والحياة أحب الضُّحى وأحب المساءَ وأهوى الظلامَ وأهوَى الضياءَ ووقتًا تُرفرفُ رُوحِيَ فيه يُنازعني من بَقائي البَقاءَ معاني الحياةِ كَأوقاتها فما سُرَّ سَرَّ وما سِيءَ ساءَ إذا الشمسُ أرسلَتِ النورَ لاحت كنبعِ عقيقٍ تَدفَّقَ ماءَ وسالَ كتِبرٍ أُذيبَ وصُبَّ على الكَونِ يسقِي الفَضا والهواءَ تَرقرَقَ مثل دُموعِ العذارى حسِبتَ الخدود لهن إناءَ وما البدرُ في الليلِ إلَّا لجينٌ يذوبُ سَنًى ويُنير السَّناءَ كأَنَّ الحسانَ لَبِسن الحدادَ وأسفرنَ عن كلِّ وجهٍ أضاءَ وإن خيَّم الليلُ قامَ السوادُ بهيمًا كعَقلٍ أضاعَ الذكاءَ كأنَّ الغواني نشرنَ الشُّعورَ وستَّرنَ أوجُهَهُنَّ حَياءَ فشمسُ الصَّباح عقيقٌ يَسيلُ ونحنُ دعَونا العقيقَ ذكاءَ وبدرُ الظلامِ لجينٌ لذاك يلألئُ نُور اللجينِ صفاءَ وليس الدجُنَّةُ إلَّا فَناء إذا ما تراءَت لنا يَتراءى وما قولُنا الشمس والبدر والصبح والليل في العُمر إلَّا امتراءَ وإن الحياة لَتُقضَى كذلِــكَ طورًا ظلامًا وطورًا ضياءَ وما اختَلَفَتْ غيرُ عينٍ تراها شقاءً وعينٍ ترَاها هَناءَ وما النُّورُ إلَّا الحياةُ فهذا رآهُ صباحًا وذاك مساءَ ١١ يوليو سنة ١٩١٢ أمنية ألا ليتَني وحبيبةَ قَلبــيَ في روضةٍ أُنُفٍ زاهِرة فنمشي أُطوِّقُها بالذِّراعِ وأنشُقُ أنفاسَها العاطِرة نسيرُ كذلكَ جنبًا لجنبٍ وعَيني إلى عَينِها ناظِرة فأقرأُ في وَجهها للطَّبيعـَـةِ أكْبرَ آياتها السَّاحرة وتعقُد من فوق هاماتِنا مِظَلَّاتُها الأغصُن الناضرة ونلعبُ في المَرْج مستأنِسَين بصوت عَصافِيره الطَّائِرة تقبلُ أذيالَها الزَّهراتُ وهي بتَقْبِيلها فاخِرة تداعِبُ هَذي الأزاهرَ لطفًا وتَجني أناملُها الماهِرة وتصنَعُ منها صفوفًا صفوفًا لتَكليل هامَتِها الزاهِرة فتعقِصها من هنا وهناكَ ناظمةً جمعَها ناثرَة وترنو إليَّ كما تتألَّــقُ في جوِّها الأنجمُ السافرَة فأفدِي بروحي وأهلي ومالي محاسِنَها الغَضَّة الباهِرة وتقطِفُ بعضَ ثمارِ الغُصون وتُطعمني يدُها الطَّاهِرة ونجلسُ فوق الحصى نَتَحدَّثُ عن كُل واردةٍ صادِرَة وفي الليلِ نرعى نجومَ السماءِ ونرقبُ أفلاكَها الدَّائِرة نُناجِي الغرامَ وخلَّاقَه بأعْماقِ أرواحِنا السَّاهرة تُباركنا الشَّمسُ كلَّ صباحٍ بنُور أشعَّتِها الفاتِرة ونَنشقُ ملءَ الفؤادِ الهواءَ فتُنعِشُنا النُّسُمُ العاطرة وتبسِم لي وتجيءُ بقربي فتُؤنِسني الظبيةُ النَّافِرة
39
289
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The First Dawn
Khalil Shiboub
Arts & Humanities
Specialized
3,010,085
BAREC_Hindawi_39208357_001.txt
مقام إيران في تاريخ الفنون قُدِّر لبعض الشعوب أن يكون لها في تاريخ المدنية شأن خطير، وأن تكون في ميدان الفنون إمامًا ينسج الآخرون على منواله ويقتفون أثره، وعلى رأس تلك الشعوب الإغريق والإيرانيون وأهل الصين. أما الإغريق فقد تركزت على يدهم الأساليب الفنية الكلاسيكية التي قامت على أسسها الفنون الغربية، وكذلك امتد نفوذ الأساليب الفنية الصينية في ربوع آسيا، ولم يَنْجُ من تأثيرها فنٌّ في تلك القارَّة المترامية الأطراف. بينما كانت إيران ملتقى الفنون القديمة في الشرق الأدنى، ونمت فيها أساليبُ فنية تأثرت بفنون بابل وأشور ومصر والهند وبلاد اليونان، وانتشرت في العصور القديمة والعصور الوسطى، وأثرت في فنون الأمم الأخرى. وإنَّا — إذا استثنينا الفن الإغريقي القديم — لا نكاد نعرف أي فن آخر قُدِّر له أن يمتد امتداد الفن الإيراني، بل إننا نستطيع أن نقول في ثقة واطمئنان إنه ليس هناك فن عظيم لم يأخذ عن الفن الإيراني شيئًا من زخارفه أو أساليبه؛ فإن الفن المصري القديم والفنون الإغريقية والرومانية والبيزنطية والصينية والهندية، كلها مدينة للفن الإيراني ببعض أشكال التحف أو أساليب العمارة والزخرفة، أو أسرار الصناعات الفنية الدقيقة. والواقع أن هذه العظمة الفنية في إيران وليدة السيادة في ميادين الحرب والسياسة والمدنية؛ فقد كان الإيرانيون والإغريق يقتسمون الحكم في العالم القديم حينًا من الزمان. ولما فكر الإسكندر الأكبر في تأسيس إمبراطورية تضم بلاد الشرق الأدنى تحت لواء الإغريق، اتجه نظره إلى إيران ليتخذها مركز هذه الإمبراطورية؛ ولكنه مات قبل أن يظفر بتنفيذ مشروعه العظيم، بيد أن حروبه في الشرق الأدنى مهدت السبل لنشر الثقافة الإغريقية فيه؛ فأضحت إيران وأفغانستان حينًا من الزمن ملتقى الأساليب الفنية الإيرانية والإغريقية والهندية، بل كان أثر الثقافة الإغريقية غالبًا في الأجزاء الإغريقية من الهضبة الإيرانية، وهي الأقاليم التي كان يحكمها الأمراء الإغريق الذين آلت إليهم إمبراطورية الإسكندر. واستولت على مقاليد الحكم في إيران منذ سنة ٢٢٤ ميلادية دولة بني ساسان، ووحد ملوكها الشعب الإيراني، وقضوا السنين الطويلة في حروب ومناوشات مع الدولة البيزنطية في الغرب، والأقوام الرُّحَّل الذين كانوا يشنون الغارات على الحدود الإيرانية في الشرق أو الشمال. وبين الذين خلَّدتهم الآثار الفنية من الأباطرة الساسانيين شابور الأول الذي هزم الإمبراطور الروماني فالريان عند مدينة الرها سنة ٢٦٠ ميلادية، فخلد الإيرانيون هذا النصر في نقوشهم المحفورة في الصخر — ولا سيما في نقش رستم على مقربة من مدينة برسبوليس ومدينة إصطخر الحالية — ورسموا القيصر الروماني راكعًا أمام عاهلهم الجبار. كما خلَّدت الآثار الفنية اسم بهرام جور الذي سارت الركبان بحديث مهارته في الصيد فرسمه الفنانون الإيرانيون في مناظر الصيد المختلفة. ولم تكن تلك الحروب الطويلة في العصر الساساني تمنع الشعب من العناية بالفنون الجميلة، بل كانت من أهم عوامل الاتصال بين الشعبين العظيمين في ذلك الحين: الإيرانيين والإغريق؛ فزاد التبادل الفني رغم أنف الفريقين، وتسرب إلى فنون بيزنطة كثير من الموضوعات الزخرفية الإيرانية، ولم تلبث هذه الموضوعات أن اندمجت في الفنون البيزنطية اندماجًا تامًّا، ثم نقلتها أقاليم البحر الأبيض المتوسط التي كانت تابعة لبيزنطة في ذلك الحين. ويبدو ذلك واضحًا في زخارف كثير من المنسوجات التي عثر عليها المنقِّبون عن الآثار في مصر العليا، كما يظهر أيضًا في كثير من الزخارف التي استُخدمت في العصر القبطي، ولا سيما الرسوم المحفورة في الحجر والخشب. على أن الحروب الطويلة بين بيزنطة وإيران، فضلًا عن الحالة الاجتماعية والدينية فيهما، أنهكت قُواهما؛ فأصبحتا في بداية القرن السابع الميلادي عاجزتين عن صد تيار الجيوش العربية التي جمعتها وحدة الإسلام؛ فسقطت إيران، وفقدت استقلالها السياسي وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية التي أُتِيح للعرب تشييدها؛ كما فقدت بيزنطة مستعمراتها في الشرق الأدنى، ولم تَنْجُ بنفسها من جيوش المسلمين إلا بفضل البحر الذي كان يفصلها عنهم، والذي لم يكن العرب يحسنون ركوبه في فجر الإسلام. وقد كان الفتح الإسلامي في إيران أعمق أثرًا في تاريخها من فتح الإسكندر، بل إنه أقالها من عَثْرَتِها؛ فإن زوال استقلالها السياسي لم يكن له النتيجة المنتظرة والمنطقية في اضمحلال مدنيتها وتأخر فنونها. وسبب ذلك أن العرب كانوا قومًا عُمرت قلوبهم بالإيمان وتحلَّوْا بالشجاعة والإقدام؛ ولكنهم أدركوا — بما فيهم من حكمة طبيعية موروثة — أنهم في حاجة إلى معونة الإيرانيين في أنظمة الحكم والأساليب الفنية، فما كاد عصر بني أمية ينتهي بما حفل به من فتوحات وعصبية للعرب، حتى نقل العباسيون مقر الحكم إلى بغداد؛ فكان هذا إيذانًا بانتصار إيران في ميدان الحياة الاجتماعية والفنية والعلمية، ولا غَرْوَ فقد قامت الدولة العباسية على أكتاف الإيرانيين في خُراسان.
35
734
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Iranian Arts in the Islamic Era
Zaki Mohammed Hassan
Arts & Humanities
Specialized
3,010,086
BAREC_Hindawi_39396273_001.txt
للنهايات طابع شخصي كانت باتي رينولدز قاب قوسين أو أدنى من الموت، لكنها عاشت وحكت لنا الحكاية. في عام ١٩٩١ كانت المغنية وكاتبة الأغاني الشابة تروِّج لأسطوانتها الموسيقية مع زوجها حين عجزت فجأة عن الكلام. أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أنها تعاني تمددًا وعائيًّا في جذع المخ. كان دماغها ينزف فعليًّا، محوِّلًا إياها إلى قنبلة موقوتة. في غضون أيامٍ برَّد جرَّاح شاب في أريزونا جسدها عند درجة ٦٠ فهرنهايت، ونزح الدم من رأسها مثلما يُنزح الزيت من حوض الزيت في محرِّك السيارة. كان هذا الإجراء الخطير — الذي يُطلق عليه «توقُّف القلب» — مقدمة لإيقاف التمدد الوعائي وإعادتها من حافة الهلاك. حينها قال الجرَّاح، واسمه روبرت سبتزلر، إن باتي كانت تمر بغيبوبة شديدة، وإنه بصعوبة يمكن اعتبارها على قيد الحياة. غُطِّيت عينا باتي أثناء العملية الجراحية بشريط لاصق، وسُدَّت أذناها بسماعات عازلة للصوت. عندئذ — حسب تعبيرها — خرجت باتي من رأسها. كانت تحلق في أعلى الغرفة، ونظرت لأسفل فرأت ٢٠ شخصًا يحيطون بها حول طاولة العمليات. سمعت صوت مثقاب طبيب أسنان وحديث الجرَّاح وإحدى الممرضات. رأت نفقًا وضوءًا ساطعًا، وتحدَّثت إلى عمِّها وجدَّتها المتوفَّيَين. وبينما كان الأطباء «يعيدون تشغيل قلبها» قرع أذنيها عزف أغنية «فندق كاليفورنيا» لفريق إيجلز داخل مسرح العمليات، وسعدت كثيرًا بالمفارقة التي يحملها جزء الأغنية الذي يقول: «يمكنك أن تدفع الحساب في أي وقت تشاء، لكن لا يمكنك الرحيل أبدًا.» ظنَّت باتي أنها كانت في حالة من الهذيان، لكن الشهود وسجلات المستشفى أكدوا صحة جميع التفاصيل فيما بعد. كيف تسنَّى لها أن ترى تلك الأشياء وهي ترقد على عربة المستشفى ذات العجلات وقد توقفت أجهزة جسدها عن العمل؟ أكد سبتزلر أنه ليس لديه أي تفسير علمي لما حدث. يرى المتشككون أن الوعي بتجربة الاقتراب من الموت والصور المرتبطة بها التي صارت من فرط تكرارها مبتذلة — الأنفاق والأضواء الساطعة — هي أعراض لتغيُّر وظائف المخ بسبب النقص الحاد في الأكسجين. لكن الإفادات المتكررة عن تجربة الاقتراب من الموت تحوي أمثلة تتشكَّل فيها الذكريات الواعية على الرغم من انخفاض النشاط الكهربائي للمخ إلى مستوى لا يمكن رصده، وهو ما يثير هذا السؤال: حين يتوقف المخ عن العمل، أين يذهب العقل؟ (١) هذا كل ما في الأمر يا رفاق (١-١) مواجهة المحتوم في صباح بعض الأيام، أثناء تناولي للقهوة، يعكس قناع ذهبي معلق على حائط حجرة معيشتي نور الصباح الباكر. الوجه ساكنٌ والأنف مستقيمٌ أشم والعينان نصف مغمضتين. إنه أجاممنون، قائد الجيش اليوناني أثناء حرب طروادة. كان القناع الأصلي قد اكْتُشِفَ على يد هينريتش شليمان عام ١٨٧٦ في مقبرة بمدينة مايسيني، وهو الاكتشاف الذي ساعد في إقناع العلماء بأن القصص الملحمية التي رواها هوميروس منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام مثَّلت أحداثًا حقيقية وأشخاصًا حقيقيين. بإنعام النظر في سكينة أجاممنون، تبدو حتمية الموت باعثة على السعادة. فيا لها من منزلة رفيعة أن يموت المرء ملكًا ومحاربًا! غير أن أجاممنون لم يكن خاليًا من العيوب، مثله مثل جميع أبطال الإغريق؛ فقد قدَّم ابنته إفيجينيا قربانًا للآلهة قبل أن يُبحر إلى طروادة، وكان يتشاجر مع أخيل باستمرار، لكنه في النهاية قاد اليونانيين إلى النصر، وقام بالعديد من الأعمال البطولية في ساحة القتال، وعاد إلى وطنه منتصرًا مع خليلته، كاساندرا، التي أُسرت في الحرب. في تلك الأثناء كانت زوجته كليتمنسترا قد اتخذت عشيقها الخاص، وقُتل أجاممنون غدرًا في مأدبة أقيمت على شرفه. سنموت جميعًا، ومن الطبيعي أن نعلِّق الآمال على موت بطولي أو درامي، لكن مع أن قناع أجاممنون يسطع مشرقًا، فإنه محض وهم؛ إذ اتضح لاحقًا أن مقابر مدينة مايسيني كانت قد شيدت قبل ٣٠٠ عام من التاريخ المقدَّر لحرب طروادة. والقناع الذهبي شديد الروعة، حتى إنه ربما يكون تصويرًا لأحد النبلاء أو الملوك، لكن ليس هناك دليل على أنه يمثِّل شخصية أجاممنون التاريخية، بل ثمة شك قوي بأن شليمان وضع القناع في موقع المقبرة لكي يضفي مزيدًا من البريق إلى شهرته. أيضًا ثمة روايات أخرى عديدة عن كيفية موته؛ فقد ذكر الشاعر بندار في إحدى كتاباته أن أجاممنون قُتل في حوض الاستحمام الخاص به على يد زوجته، بعد أن ألقت ببطانية فوقه كي تمنع أي مقاومة منه. ستتباين بالمثل المِيتات التي سنلاقيها؛ فقليلون منا سيلاقون ميتة سريعة ومؤثرة، مثل جيمس دين الذي مات جراء تصادم سيارتين بالمواجهة في الرابعة والعشرين من عمره، أو المُعلمة كريستا ماكاوليف التي قضت نحبها مع انفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» بعد مرور ٧٣ ثانية على إطلاقه. إن أخشى ما نخشاه هو أن تَبلى أجسادنا بلاءً مؤلمًا وتخذلنا خذلانًا مبينًا، أو أن تتحلل عقولنا تحللًا بطيئًا. فالحياة، لسوء الطالع، نادرًا ما تحاكي الفن. ولو جسِّدت الحياة في فيلم سينمائي، لن تنتهي بمشهد تبلغ فيه الأحداث الذروة، بل الأغلب أن تتشوش الصورة وتَبلى وينسى الممثلون الأسطر التي يرددونها. ولو كانت الحياة مثل حفلة موسيقية، فلن تنتهي بفقرة تصعيدية، بل الأغلب أن تفقد الآلات الموسيقية تناغمها، وتختلط الأمور في عقول العازفين، ويذهب صوت الموسيقى شيئًا فشيئًا (الشكل ١-١). شكل ١-١: لم تُنحت أقنعة الموت العتيقة — كقناعي أجاممنون وتوت عنخ آمون — بالاستعانة بوجه المتوفى. وفي وقت إسحاق نيوتن، كانت صور واقعية للمشاهير تُنحت من خلال الاستعانة بتماثيل الشمع أو قوالب تماثلها من الشمع أو الجبس. يظهر في الشكل نسخة من قناع أصلي لإسحاق نيوتن تحتفظ به الجمعية الملكية بلندن.
48
913
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The End of Everything
Chris Impey
STEM
Specialized
3,010,087
BAREC_Hindawi_39407371_001.txt
لغز الرأسمالية كأي قصة بوليسية مشوقة، يبدأ تاريخ الرأسمالية بلغز؛ فلآلاف السنين ازدهرت التجارة في المجتمعات التقليدية، وظلت محدودة للغاية في نطاقيها الاقتصادي والأخلاقي. لكن في القرن السادس عشر، تحركت التجارة في اتجاهات جديدة جريئة، ورويدًا رويدًا شرعت طرق أكثر فعالية في إنتاج الغذاء في توفير العمال والأموال لأنشطة اقتصادية أخرى؛ كصناعة السكر والتبغ والقطن والشاي والمنسوجات الحريرية التي وفدت إلى قارة أوروبا من الشرق وجزر الهند الغربية وما وراءها. رفعت هذه التطورات من مستوى معيشة مواطني أوروبا الغربية، لكنْ تطلب كسر قيود العادات وسلطة النظام الاقتصادي العتيق ما هو أكثر من ذلك؛ فقد ظهرت هذه القوة التي أعادت تشكيل العالم عندما توصلت مجموعة من فلاسفة الطبيعة إلى فهم للقوانين الفيزيائية، وبهذا الفهم توصَّل المخترعون — الذين اتسموا بنزعة أكثر نحو العملية — إلى طرق مدهشة لتوليد الطاقة من قوى الطبيعة؛ فحقق الإنتاج قفزة نحو الأمام. حلَّت الرأسمالية — وهي نظام قائم على الاستثمارات الفردية في إنتاج السلع الصالحة للبيع — شيئًا فشيئًا محل الأساليب التقليدية في تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع؛ فمنذ المراحل الأولى من الثورة الصناعية حتى ظهور الاقتصاد العالمي الحالي عملت سلسلة من الثورات المتعاقبة بلا هوادة على تغيير عادات البشر ومواطنهم، ويكمن اللغز في السبب وراء استغراق هذه التطورات زمنًا طويلًا جدًّا كي تتحقق. بدأت غالبية الآلات الرائعة التي غيَّرت وجه الجهد البشري بتطبيقات بسيطة للبخار والكهرباء. فكم من البشر سبق لهم مشاهدة البخار المتصاعد من قدر به ماء يغلي وهو يرفع غطاء هذا القدر قبل أن يتمكن أحدهم من استنتاج كيفية استخدام البخار لتشغيل محرك؟ ألم يكن من الممكن أن يبدأ أيٌّ من البشر إجراء تجارِبَ على البرق في وقت مبكر؟ إن النجاح الهائل لاختراعات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يدفعنا لأنْ نتساءل لماذا ظلت المجتمعات البشرية قابعة في ظل نظام زراعي بدائي على مدى آلاف السنين، وكيف عجزت العقول البارعة التي سبرت بعضًا من أسرار الكون عن تصوُّر كيفية مكافحة الفقر؟ والإجابة عن هذا السؤال بأن الأزمان القديمة كانت متخلفة اقتصاديًّا إجابةٌ بلاغية بلا شك، لكنها لا تساعدنا حقًّا على حل لغز ظهور منجزات حضارية عظيمة على الرغم من الإنتاجية الاقتصادية المحدودة. انطلاقًا من هذه الأسئلة سأستكشف معايير صعود الرأسمالية، وأبحث كيف غيَّر هذا النظام من طبيعة السياسة بينما كان يزعزع الممارسات والأفكار والقيم والمُثُل التي سادت لزمن طويل داخل شرنقة العُرْف. لا يعد هذا الكتاب على الإطلاق دراسة عامة للرأسمالية، بل سرد يتعقب تشكُّل النظام الاقتصادي الذي نعيشه اليوم. وهو لا يبين كيف تحولت دول عديدة إلى الرأسمالية، بل يركز على التطورات المميزة التي حدثت في مناطق بعينها فشكلت الرأسمالية، وسيكون تركيزي منصبًّا على الممارسات الاقتصادية بالطبع، لكن لا بد أن أؤكد على أن الرأسمالية نظام ثقافي بقدر ما هو اقتصادي. لقد ظهرت طريقة جديدة لإرساء النظام السياسي، وانقلبت نظرة الناس إلى الماضي والمستقبل تمامًا، وأعاد الناس النظر في الطبيعة البشرية؛ فعلى مستوى شخصي للغاية، شرع الرجال والنساء في وضع خطط لأنفسهم كانت تبدو باعثة على الضحك في الماضي من فرط طموحاتها. وسيتخلل ثنايا هذا السرد فحص للكيفية التي استجابت بها مجتمعات مختلفة للتحديات الدائمة التي لاحت في حياة أفرادها خلال القرون الأربعة السابقة. لو كان لنا أن نزور مدنًا كفلورنسا وحلب وكانتون في الماضي لاندهشنا من الترتيب المنمَّق للأطعمة والسلع المعروضة للبيع في أسواق هذه المدن ومتاجرها وحوانيتها. إلا أنهم كانوا عبيدًا لنظام اقتصادي محدود الحجم والنطاق للغاية إلى حد أنه كان بالكاد يلبي حاجاتهم من المأكل فحسب. لقد ارتضوا التعرض من آنٍ لآخر للمعاناة الناجمة عن النقص الحاد في جميع أنواع السلع؛ لأن الحال دائمًا ما كانت كذلك.
25
587
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Capitalism
Joyce Appleby
Social Sciences
Specialized
3,010,088
BAREC_Hindawi_39474130_001.txt
أرفع قيثارتي هذه إلى روح والدي يا أبي لقد فتكَت بك يدٌ أثيمة في بلاد الغربة بعيدًا عن زوجك وصغارك، فخلَّفتَ اليأس في صدر أمي والألمَ في قلبي! كنتُ في العاشرة من عمري يومَ توارى وجهك اللطيف إلى الأبد، وكنتُ لا أزال أدفأ بين جناحَيْك، وها أنا اليوم في الثانية والعشرين، في عهد الشباب، في عهد الجهاد والألم! أُفتِّش في بلادي فلا أجدُ لي نصيرًا، ولا أجد من يُدركُ مبادئ نفسي وما طُبعَت عليه، إلَّا فئة قليلة هي مثلي في آلامها وبلاياها! يا أبي، لقد توالت الأيامُ العديدة وهي أشدُّ سوادًا من ظلمة قبرك، وأنا ثابتٌ في مبادئي كالأَرْزة في وجه العاصفة، أَودُّ شكاةً فلا أجدُ من يُصغي إليَّ غير روحك المرفرفة فوق رأسي! ما هذه الجراحاتُ التي أرفعُهَا إليك الآن، سوى أفواه الألم صارخةً من عمق أعماق نفسي! هذه هي «القِيثارَة» التي وقَّعتُ عليها — في طريقي الوعرة — أناشيدَ قلبي! فعلى كلِّ وترٍ من أوتارها آثارُ دماء، وعلى كلِّ قطعةٍ من أخشابها جفاف دموع! فإذا رأيتَ دمائي زكيَّةً ودموعي طاهرةً، فأبقِ قيثارتي في عالم الخلود، وإلَّا فحطِّمْهَا على رأسي وغلِّل بأوتارها نفسي! إلياس ما نُجِيبُ الأَبناءَ إِنْ سَأَلونا أَيُّهَا الظُّلْمُ وَالْخَنَا وَالْغُرُورُ يَا خِدَاعًا تَعِفُّ عَنْهُ الشُّرُورُ يَا كُنُودًا وَيَا مُحَابَاةَ قَوْمِي يَا صُدُورًا يَدُبُّ فِيهَا النُّفُورُ يَا خِصَامًا يَا مُنْكَرَاتِ بِلَادِي يَا رِيَاءً يَا حِطَّةً يَا فُجُورُ اقْرُبِي مَا اسْتَطَعْتِ مِنْ كُبْرِ نَفْسِي أَنَا صَدْرِي رَحْبٌ وَقَلْبِي كَبِيرُ لِيَ نَفْسٌ كَالْبَحْرِ ذَاتُ اتِّسَاعٍ فَلُبَابٌ يُلْقَى بِهَا وَقُشُورُ تَبْصُقُ الرِّجْسَ عَنْ عَفَافٍ وَطُهْرٍ وَاللَّآلِي تَبْقَى بِهَا فَتَغُورُ لَا يَغُرَّنْكَ أَنَّنِي مُسْتَكِنٌّ فَإِلَى ثَوْرَةٍ سُكُوتِي يُشِيرُ وَاسْتَرِيبِي إِذَا سَمِعْتِ زَفِيرِي إِنَّ فِي صَدْرِيَ الزَّفِيرَ زَئِيرُ اقْرُبِي اقْرُبِي فَآلَامُ نَفْسِي جَمْرَةٌ يَسْتَطِيرُ مِنْهَا السَّعِيرُ جَمْرَةٌ فِي بُرْكَانِهَا تَتَلَظَّى شَاخِصَاتٌ إِلَى لَظَاهَا الدُّهُورُ يَا بِلَادِي كَفَاكِ هُزْءًا بِنَفْسِي إِنَّ نَفْسِي حُسَامُكِ الْمَطْرُورُ لَا تَقُولِي قَدْ أَحْرَقَتْهَا الْبَلَايَا كُلُّ نَفْسٍ لَمْ تَحْتَرِقْ لَا تُنِيرُ اتْرُكِينِي أُنْشِدْ أَغَانِيَ حُبِّي أَنَا بِالْحُبِّ وَالْأَغَانِي فَخُورُ إِنَّ شِعْرِي أَبْقَى مِنَ التَّاجِ عُمْرًا ذَلِكَ التَّاجُ لِلزَّوَالِ يَصِيرُ كَمْ أَمِيرٍ وَكَمْ مَلِيكٍ تَوَارَى وَطَوَتْهُ دُجُنَّةٌ وَقُبُورُ يَا نُفُوسًا تَطَوَّرَ الْبَأْسُ فِيهَا أَيْنَ يَأْوِي حُسَامُكِ الْمَشْهُورُ؟ لَيْسَ يُجْدِي حِلْمٌ وَلَا اللِّينُ يُجْدِي لِنُفُوسٍ شِعَارُهَا التَّدْمِيرُ خُلِقَ الْمَجْدُ لِلْقَدِيرِ فَجِدُّوا لَا يَنَالُ الرُّقِيَّ إِلَّا الْقَدِيرُ وَرِدُوا الْعِلْمَ إِنَّ فِي الْعِلْمِ نُورًا وَانْفُضُوا الْجَهْلَ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ نُورُ هَذِهِ التُّرْبَةُ الَّتِي أَنْشَأَتْكُمْ عَاثَ فِيهَا مُسَوَّدٌ مَأْجُورُ فَانْفُضُوهَا فَفِي ثَرَاهَا نُضَارٌ وَغِنَاكُمْ نُضَارُهَا الْمَذْخُورُ مَا نُجِيبُ الْأَبْنَاءَ إِنْ سَأَلُونَا أَيَّ أَرْضٍ أَنَرْتُمُ يَا بُدُورُ؟ أَيَّ عَارٍ خَلَّفْتُمُ لِفِرَاخٍ رَغِبَ الذُّلُّ فِيهِمُ يَا نُسُورُ؟ أَنُطِيقُ الْحَيَا وَنَحْنُ شُيُوخٌ شَرَفٌ فِي صُدُورِنَا وَشُعُورُ عُجَّزٌ لَا نَصِيرَ يَدْفَعُ عَنَّا مَا نُقَاسِي، مَا لِلذُّنُوبِ نَصِيرُ أَيُّهَا الْفَجْرُ يَا سِرَاجَ الْبَرَايَا عَجَبًا مِنْكَ كُلَّ يَوْمٍ تَزُورُ! كَيْفَ لَمْ تَسْأَمِ الْوُجُودَ الْمُحَابِي أَتُرَى أَنْتَ مِثْلَهُ شِرِّيرُ؟! أَيَّ يَوْمٍ زُيُوتُ نُورِكَ تَخْبُو وَعَلَى سُنَّةِ الضِّيَاءِ تَثُورُ؟ وَتَزُجُّ الْوُجُودَ فِي ظُلُمَاتٍ مُسْتَبِدٌّ فِي بُرْدِهَا الدَّيْجُورُ؟ إِنَّ هَذَا الْوُجُودَ أَمْسَى مُسِنًّا وَشَقِيًّا أَمْسَى الْوُجُودُ الْخَطِيرُ رَثَّ فِيهِ خُلُقُ الرِّجَالِ وَرَثَّتْ نَزَوَاتُ الْعُلَى وَرَثَّ الضَّمِيرُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا خِدَاعٌ وَزُورٌ وَبَلِيَّاتُهُ خِدَاعٌ وَزُورُ خَلَفَ التَّيْسُ فِيهِ لَيْثًا هَصُورًا وَيْحَ تَيْسٍ يَنَامُ عَنْهُ الْهَصُورُ عَبَثًا نَرْتَجِي الصِّيَانَةَ مَا لَمْ تَتَمَزَّقْ عَنِ الرِّيَاءِ السُّتُورُ قَدْ أَقَمْنَا عَلَى الْجَهَالَةِ عَهْدًا وَعَلَى الْجَهْلِ لَا يُقِيمُ الْبَصِيرُ أَوَلَسْنَا وُرَّاثَ أَقْدَمِ مَجْدٍ فِي يَدَيْنَا صَلِيلُهُ وَالصَّرِيرُ؟ أَوَلَسْنَا وُرَّاثَ شَعْبٍ أُنِيرَتْ بِتَعَالِيمِهِ الْهُدَاةِ الْعُصُورُ؟! عَبَدُوا الْفَنَّ نَيِّرًا وَعَبَدْنَا تُرَّهَاتٍ شِعَارُهَا التَّبْذِيرُ مَا تَبَقَّى لَنَا مِنَ الْفَنِّ إِلَّا ذِكْرَيَاتٌ هِيَ النِّزَاعُ الْأَخِيرُ أُمَّةً كَانَتِ الْبِلَادُ فَأَمْسَتْ أُمَّةً مَا دَرَتْ بِمَنْ تَسْتَجِيرُ يَسْتَبِدُّ الْغَنِيُّ فِيهَا وَيَعْمَى عَنْهُ كُلُّ الْوَرَى وَيَشْقَى الْفَقِيرُ فِي ذُرَاهَا وَفِي السَّوَاحِلِ يَجْرِي مِنْ عُرُوقِ الْجُدُودِ مَاءٌ نَمِيرُ فَاسْجُدُوا لِلْأَثِيرِ فِيهَا وَصَلُّوا فَلُهَاثُ الْأَجْدَادِ هَذَا الْأَثِيرُ
57
604
19-qaf
19
7
5
3
Hindawi
The Lyre
Elias Abu Shabaka
Arts & Humanities
Specialized
3,010,089
BAREC_Hindawi_39606949_001.txt
(١) نواميس اجتماعية منذ أكثر من عشرين عامًا كنتُ أتولَّى تحرير مجلة «القضاء الشرعي»، فنشرتُ فيها مقالًا من رسالة لأحد أبناء المدرسة عن «اجتهاد عمر» خاصًّا بالتطليق ثلاثًا بلفظ واحد، وأغضَبَ هذا المقالُ مَن أغضبَ، حتى استُدعِيتُ من الرِّيف سريعًا لأُدْرِكَ المجلةَ وقد تعرَّضتْ لخطرٍ مُخيفٍ على حياتها، فكتبتُ في افتتاحية العدد التالي (صفر سنة ١٣٤١ه) كلمةً أُهدِّئ بها النفوس، كان ممَّا قلتُ فيها: لم تنشُرِ المجلةُ ذلك رأْيًا لها أو مذهبًا، ولم تُعلِّق عليه باستحسانٍ أو تحبيذٍ، ولم يَجِئ في سياق الكتابة نفسِها ما يُشعِر بدعوةٍ إلى جديدٍ، أو حمْلٍ عليه، أو تحسينٍ له، ولكنَّه بحثٌ نظريٌّ محضٌ، كُتِبَ للخاصة من المتفقِّهة، يُرَوِّضون فيه النظرَ، ويُمَرِّنون الفكرَ، ولهم أن يُفنِّدوه وينقُضُوه، ويردُّوا عليه بما شاءوا، والمجلة تتقبَّل ذلك بصدرٍ رحبٍ وقبولٍ حسنٍ، ولا سيَّما إذا ذكرتْ أن البحث نظريٌّ محوجٌ إلى التمْحيص، ويَحسُن فيه الأخذُ والردُّ … إلى كلامٍ آخَر في هذا المعنى وما يتصل به. وشاء الله وقضَتْ نواميسُ الكَوْن الاجتماعية بعد ذلك بأعوامٍ ليستْ كثيرةً في حياة الأمة أنْ يُصْبِحَ منعُ التطليق ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ قانونًا رسميًّا معمولًا به في المحاكم، ثمَّ قضَتْ بأن يكون الأستاذُ كاتبُ المقال السابق أحدَ أساطين المختصِّين بإصلاح تشريع الأحوال الشخصية في مسائلَ أهمَّ وأبعدَ مدًى من الطلاق الثلاث بلفظ واحد. وإنَّها لظاهرةٌ مُطَّردةٌ مكرَّرةٌ في حياة الكائنات المعنوية كلِّها، وقد عَرَفَتْها الدنيا في شواهدَ جمَّةٍ ومواطنَ متعدِّدة، مما له صلةٌ بالتديُّن والاعتقاد، أو لا صلة له به. إذ تُعَدُّ الفكرةُ حينًا ما كافرةً تُحرَّم وتُحارَب، ثمَّ تُصبح — مع الزمن — مذهبًا، بل عقيدةً وإصلاحًا، تخطو به الحياة خطوةً إلى الأمام. وعلى أساسٍ من التنبُّه لهذا الناموس الاجتماعي والثقة به، نَعْرِض لموضوعنا في «هذا النحو». (٢) النحو والفقه ولكن ما دام الناموس الاجتماعيُّ مُطَّرِدًا في حياة الكائنات المعنوية جميعًا، ففيمَ البدء بالإشارة إلى هذا الفقه وما كان من أمره؟! ونحن قومٌ إنما نشتغل بالشئون اللغوية، وقد قصدنا إلى الحديث في هذا النحو، حين استفاض القولُ بفساد ما بينَه وبين الحياة؛ إذْ أقام الصعوبات المحرِجة في أوْجُه الصِّغار حين يتعلَّمون الفُصْحى، فيَعكُفون على تعلُّمها مدةً لن تقِلَّ في حياة واحدٍ منهم عن اثنَيْ عشرَ عامًا حتى يحصُلَ على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، وقد تَزِيد ... ثمَّ لا يظفرون منها بطائلٍ، بل يتقدَّمون إلى الحياة كِبارًا لا يُحسِنون استعمالَ هذه الفُصْحى والانتفاعَ بها، وهي أزمةٌ، إنْ شكاها الأفرادُ فإنَّ هذه الأمة لتشكو مِن أنَّها تعيش بلغةٍ، وتبذُلُ ما تبذُلُ في تعلُّم لغةٍ تكادُ تظَلُّ غريبةً عنها، فلا تَجِدُ فيها ما لا بدَّ منه للأمة، وهو الأداة الطيِّعة المرنة المواتية للتفاهُم والتعامُل والتعلُّم والتفنُّن، تلك الأداة التي تُحقِّق رغبات الجماعة في ميادين النهضة على اختلافِها، وتكون عامِلًا من أهمِّ العوامل في وحدة الأمة وتماسُكها، وإعانتها على مُسايَرة الحياة والاستجابة لكلِّ تدرُّج وتطوُّر فيها، والحياة بطبيعتها تدرُّجٌ ونَماءٌ. ومِن أجل ذلك صار الواجب الاجتماعي الأول، على المشتغلين بالشئون اللغوية أن يفكِّروا تفكيرًا نفَّاذًا، في تدبير الوسائل الفعَّالة لتذْليل هذه الصعوبات كلِّها، وهو ما حاوَلْتُ بجُهْدي المتواضِع أن أعرِضَ فيه شيئًا عن هذا النحو. وإنما بدأتُ بالإشارة إلى الفقه لأَدُلَّ بذلك على خُطَّةٍ من الخُطَط في بحث مسألة النحو؛ إذ إنَّ للبحث فيه أكثرَ من خطةٍ؛ فقد يأخذُ متناوِلُه بالحرية المسرِفة فيقول لكم: إنَّ اللغة — في نظر الاجتماع — أشدُّ التقاليد الاجتماعية لِينًا، وأقلُّها صَلابةً وتحجُّرًا، وأطْوَعُها للتطوُّر، وأكثرُها تأثُّرًا بالعوامل المختلفة، وانقيادًا لسائر ظواهر الاجتماع وأنظمة المجتمع؛ ومِن هنا تعدَّدتِ اللغاتُ بتعدُّد الجماعات، ثمَّ تفرَّعت اللهجات باختلاف البيئات، في وطن الجماعة الواحدة الجنس والإقليم؛ ومِن هنا أصابت اللغات الحية ألوانًا من التطوُّر حفِظَتْ بها حيويتَها واستجابتْ لطلبات الجماعة منها، فكذلك ينبغي أن نتناول لغتَنا بإصلاح حرٍّ طليقٍ، إذا ما أردْنا لها أن تكون في حياتنا، كما يجب أن تكون اللغات في حياة الأمم. ولا تَحسِبوا أنَّ هذا الذي أصِفُه هو احتمالٌ فرضي، أو رأيٌ نظري، فقد كان قولًا يُقال ويُنشَر في الجيل الماضي، مع أنَّه حديثُ عهدٍ بتجدُّد، فكان مِن رجالِه مَن أشار بالتخلُّص من هذا النحو وإعرابِه بالوقْفِ مثلًا، كما كان مِن رجاله — وإن لم أُثْبِت اسمَه — مَن قال ما معناه: «إنْ كانتْ هذه اللغة التي تريدون أن نعيش بها، ميراثًا آلَ إلينا، فلنا فيه ما للمالِكِ في ملكه مِن تصرُّفٍ، فدَعُونا نتصرَّف فيها بما يُصْلِحها، وإنْ كانتْ عاريةً لا غيرُ، فخُذُوها ودَعُونا نبحث عن لغةٍ غيرِها، نستطيع التصرُّف فيها بما يدفَعُ حاجةَ الحياة.» وسواء أكان هذا قولًا لشخصيٍّ بعينه «هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا»، فيما نُقِل إليَّ، أم كان صرخةَ كلِّ فردٍ مكظومٍ حين يُعاني هذه الصعوبات، فإنَّ واقعَ الحياة لا يُغفِل تقديرَه. ولكنَّا — رغم هذا كلِّه — لن نأخُذَ هنا بشيء من تلك الحرية التي تبدو مُسرِفةً، بل نَدَعُ الآن هذه الخطةَ التي لا تتمسَّك إلَّا بحقِّها في التصرُّف، دون أن تُقِيم هذا التصرُّفَ على أساسٍ تُعيِّنه، نَدَعُها هنا لنأخذَ بخطةٍ مُسرفةٍ في عكس ما أسرَفَتْ فيه الأولى من حريةٍ، مُسرفةٍ في الرجوع إلى القديم، والتعمُّق في البحث عنه، فهي خطةٌ معتدلةٌ محافِظةٌ، تُقِيم نظرَها في مسألة النحو، على ما يتكشَّف لها من تقديرٍ لأصولِه البعيدة التي أقام النُّحاةُ عليها بناءَ قواعدِه، وللنحوِ أصولٌ كأصولِ الفقه وأصول القانون، صَنَعَها أصحابُ النحو على وجهٍ يُبيَّن في تاريخه، والفحص لمناهج درسه، وما دام للنحو أصولٌ فإنَّ الرجوعَ إليها أمرٌ لا بدَّ منه في فهْم كيانِه فهمًا يُعِين على التحدُّث فيه عن بصيرة، ويدلُّ على تقدير أصحاب هذه القواعد لها، ومَدَى ما يُجِيزونه من التصرُّف فيها بنفْيٍ أو إثبات. والناظر في هذه الأصول يَرَى النُّحاةَ منذُ أولِ الدهرِ، قد رَبَطوا أصولَهم بأصولِ الفقه، بل حَمَلوها عليها؛
38
980
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
This Syntax
Amin Al-Khouli
Arts & Humanities
Specialized
3,010,090
BAREC_Hindawi_40524903_001.txt
أصل الحياة من أعماق كوكب الأرض خلف الليلُ النهارَ في تعاقب سلس. كان النهار يدوم في ذلك الوقت على كوكب الأرض قرابة خمس ساعات أو ست. كان الكوكب يدور في جنون حول محوره، وكان القمر يلوح في السماء ثقيلًا مخيفًا، أقرب بكثير مما هو عليه اليوم؛ ومن ثم بدا أكبر حجمًا. نادرًا ما بدَتِ النجوم ساطعة؛ لأن الغلاف الجوي كان مليئًا بالدخان والضباب والغبار، لكن كثيرًا ما شقَّتْ سماءَ الليل شهبٌ خلابةٌ. أما الشمس، حين كانت تُرى من بين كل هذا الضباب والدخان الثقيل أحمر اللون، فكانت شاحبة وضعيفة وتنقصها القوة التي تتمتع بها الآن وهي في ريعانها. لم يكن بمقدور البشر العيش وقتها، لا لأن أعيننا كانت ستجحظ وتنفجر كما قد يحدث على كوكب المريخ، وإنما لأن رئاتنا لم تكن لتجد أي أكسجين. كنا سنصارع لدقيقة في يأس، ثم نموت اختناقًا. لم يكن اسم «الأرض» ملائمًا، بل كان من الأفضل أن يُسمَّى الكوكب باسم كوكب «البِحَار». وحتى في يومنا هذا، تُغطِّي المحيطاتُ ثلثَيْ كوكبنا، وتهيمن على المنظر من الفضاء. في الماضي البعيد، كانت الأرض تتكوَّن بالكامل تقريبًا من الماء، خلا بضع جزر بركانية صغيرة الحجم تبرز من بين الأمواج الهائجة. وتحت أسر ذلك القمر القريب، كانت قوى المد جبارة، تصل على الأرجح إلى مئات الأقدام. كان تأثير الكويكبات والمذنبات أقل مما كان عليه الحال في وقت سابق، حين تسبب أكبر الكويكبات في انفصال القمر عن الأرض، لكن حتى في هذه الفترة من الهدوء النسبي كثيرًا ما كانت المحيطات تغلي وتضطرب. كما كانت تغلي من الأسفل أيضًا؛ إذ كانت القشرة الأرضية تمتلئ بالشقوق، وكانت الصخور المنصهرة تتفجر وتلتوي، وجعلت البراكين للعالم السفلي وجودًا دائمًا على السطح. كان عالمًا يخلو من التوازن، عالمًا من النشاط الذي لا يهدأ، كوكبًا وليدًا محمومًا. كان هذا هو العالم الذي ظهرت عليه الحياة منذ ٣٨٠٠ مليون عام خلَتْ، ربما بفعل الاضطراب المتواصل للكوكب ذاته. نحن نعلم هذا بفضل قليل من الصخور الدقيقة التي أتتنا من ذلك العهد الغابر واجتازت دهورًا طويلةً من الاضطراب حتى وقتنا هذا. داخل هذه الصخور تقبع أصغر آثار الكربون، التي تحمل في تركيبها الذري طابع الحياة الذي لا يمكن لأحد أن يخطئه. قد يُعَدُّ ذلك دليلًا واهيًا على زعم هائل، ولا يُوجَد إجماع بين الخبراء على هذا الأمر. لكن إذا اجتزنا بضع حِقَبٍ زمنية فسنَجِد أنه بحلول ٣٤٠٠ مليون عام مضَتْ، تصير علامات الحياة جلية أيما جلاء. كان العالم يجيش بالبكتيريا وقتها؛ بكتيريا خلفت علاماتها ليس فقط على صورة آثار من الكربون، بل أيضًا داخل الحفريات الدقيقة ذات الأشكال المتنوعة وداخل صروح الحياة البكتيرية؛ ونقصد بهذا الرقائق الكلسية الطحلبية التي قد يصل ارتفاعها إلى المتر. هيمنت البكتيريا على كوكبنا لنحو ٢٥٠٠ مليون عام أخرى إلى أن ظهرت أولى الكائنات المعقدة في سجل الحفريات. يقول البعض إن البكتيريا لا تزال المهيمنة؛ إذ إن بريق النباتات والحيوانات لا يضاهي البكتيريا في حجم الكتلة الحيوية. ما السمات التي وُجِدَتْ في الأرض المبكرة وبثت الحياة للمرة الأولى في العناصر غير العضوية؟ أنحن متفردون، أم نادرون للغاية، أم أن كوكبنا ليس أكثر من أحد مليارات الكواكب الحاضنة للحياة والمتناثرة في أرجاء الكون؟ وفق المبدأ الإنساني لا يهم هذا الأمر؛ فإذا كانت احتمالية وجود الحياة في الكون تبلغ واحدًا من مليون مليار، فثمة فرصة إذن أن تظهر الحياة على كوكب واحد في مكان ما من كل مليون مليار كوكب. ولأننا وجدنا أنفسنا على كوكب يستضيف الحياة، فمن البديهي أننا نعيش على كوكب من الكواكب الصالحة للحياة. وبغض النظر عن الندرة الشديدة لفرص وجود الحياة، ففي الكون غير المحدود تُوجَد دومًا احتمالية ظهور الحياة على أحد الكواكب، ومن المؤكد أننا نعيش على أحد هذه الكواكب التي ظهرت عليها الحياة. إذا كنت ممن لا يقنعون كثيرًا بالإحصائيات — شأني — فإليك إجابة أخرى غير مُرْضِيةٍ طَرَحَها عددٌ من كبار العلماء؛ على غرار فريد هويل وبعده فرانسيس كريك. تقضي هذه الإجابة بأن الحياة بدأت في مكان آخر ثم انتقلت إلى كوكبنا، إما بمحض الصدفة أو بتدبير من كائنات فضائية ذكية. ربما هذا ما حدث بالفعل — فمَنْ ذا الذي سيخاطر بالقول إن هذا لم يحدث؟! — بيد أن العلماء غير مستعدين للخوض في مثل هذا النوع من التفكير، وهم مُحِقُّون في ذلك. الأمر أشبه بالزعم بأن العلم لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال قبل حتى أن ننظر في إمكانية ما إذا كان بمقدور العلم الإجابة عنه أم لا.
39
747
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Rise of Life
Nick Lynn
STEM
Specialized
3,010,091
BAREC_Hindawi_40696038_001.txt
شعر الديوان تحت الوسادة خَبَأَتْ أَغَانِي الْحُبِّ تَحْتَ وِسَادَةٍ بِسَرِيرِهَا فَكَأَنَّمَا خَبَأَتْ بِهَا رُوحًا تَحِنُّ لِنُورِهَا وَاسْتَنْشَقَتْ مِنْهَا الْعَبِيرَ وَقَبَّلَتْ مَعْنَاهَا فَرَأَتْ بِهَا نُورَ الْحَيَاةِ وَحَظَّهَا وَغِنَاهَا وَمَضَتْ تُدَاعِبُ رُوحَ هَذَا الشِّعْرِ فِي تَحْنَانِهِ وَكَأَنَّمَا هُوَ مُلْهَمٌ مِنْهَا بِسِحْرِ بَيَانِهِ وَأَطَالَتِ الْإِحْسَانَ وَالْإِلْهَامَ مِنْ [...يْهَا]١ وَكَأَنَّمَا قَلْبِي الَّذِي حَمَلَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَأَحَسَّتِ اللَّهَبَ الْحَنُونَ يَفِيضُ بَيْنَ سُطُورِهِ فَإِذَا لَهِيبُ شُعُورِهَا يَلْقَى لَهِيبَ شُعُورِهِ تَتَعَارَفَ الْأَرْوَاحُ وَهْيَ عَلَى نَوًى بِجُسُومِهَا وَتَذُوقُ مِلْءَ الشِّعْرِ طَعْمَ غَرَامِهَا وَهُمُومِهَا تِلْكَ السُّطُورُ عَوَاطِفِي وَمَشَاعِرِي وَجَنَانِي فَتَرَفَّقِي بِعَزِيزِ مَا تَحْوِيهِ مِنْ خَفَقَانِ شاطئ الأحلام (خليج استانلي – رمل الإسكندرية) خليج استانلي: هذه الكابينات الأنيقة كأنها حفلة الأولمبياد والبحر ملعبها، وهذه هي عرائس البحر وجِنِّيَّات البحر – الصاوي. رُدُّوا شُعَاعَ الشَّمْسِ حَيْثُ تُطِلُّ وَدَعُوا الْحِسَانَ مَكَانَهَا تَحْتَلُّ الْخَالِعَاتِ مِنَ الثِّيَابِ أَجَلَّهَا وَاللَّابِسَاتِ الْحُسْنَ وَهْوَ أَجَلُّ كُلُّ لَوْنٍ لِلْأَزَاهِرِ صِبْغَةٌ فِيهِ وَإِنْ مَلَكَ الْبَيَانَ الْفُلُّ مَسْرَحُ الْبَحْرِ وَثَّابٌ بِهِ مِثْلَ الْعَوَاطِفِ يَعْتَلِي وَيَزِلُّ وَيَظَلُّ يَعْبَثُ بِالصُّخُورِ كَأَنَّهَا مُهَجٌ يُحَارِبُهَا الْهَوَى فَتَذِلُّ «فينوسُ»٢ تَمْرَحُ فِيهِ بَيْنَ مَفَاتِنٍ وَيَلِي «كِيُوبِيدَ»٣ الْعَزِيزَ «أَبُولُّو»٤ وَطَنُ الْأُلُوهَةِ فِي الْحَيَاةِ بِمَا وَعَتْ فَلِكُلِّ رَمْزٍ لِلنَّعِيمِ مَحَلُّ لَا تَسْقِنِي الْخَمْرَ الْمُعَتَّقَةَ الْمُنَى حِينَ الْعُيُونُ تَشُوقُنَا وَتَدِلُّ حِينَ السَّوَاعِدُ فِي الشَّهِيِّ لِسُمْرَةٍ أَشْهَى الْكُئُوسِ نَذُوقُهَا وَنَعِلُّ الْحُسْنُ لَمْ يُعْبَدْ طَهُورًا عَارِيًا بِأَحَبَّ مِنْ هَذَا الَّذِي يَبْتَلُّ وَاللَّهْوُ لَمْ يُغْنَمْ بَرِيئًا حَالِيًا بِأَرَقَّ مِنْ صَفْوٍ عَلَيْهِ نُطِلُّ فَرِحَتْ بِهِ الْأُمُّ الطَّبِيعَةُ مِثْلَمَا لَاقَى الْوِصَالَ الْعَاشِقُ الْمُعْتَلُّ مَرْأَى حَيَاةِ الشِّعْرِ مِنْ أَوْزَانِهِ وَيَعُودُ لِلْإِكْثَارِ فِيهِ مُقِلُّ وَمُنًى مِنَ الْأَحْلَامِ تَرْقُصُ حَوْلَنَا وَمِنَ الْحَقِيقَةِ مَا حَكَاهُ الظِّلُّ كَرُمَتْ فَكُلٌّ نَاهِلٌ مِنْ طِيبِهَا وَقَسَتْ فَأَيُّ صَدًى هُنَاكَ يُبَلُّ في المعبد وَقَفَتْ تُنَاجِي «الشَّمْسَ» حِينَ تَجَاهَلَتْ أَنَّ الشُّمُوسَ بِحُبِّهَا تَتَلَالَا نَطَقَتْ بِرُوحِ الشَّمْسِ وَاسْتَوْحَتْ بِهَا مَعْنًى يَبُوحُ بِهِ الْإِلَهُ تَعَالَى وَمِنَ الرُّمُوزِ حَقَائِقٌ وَدَقَائِقٌ حَتَّى نَكَادُ نَرَى الْأَصِيلَ مِثَالَا وَقَفَتْ تَحِنُّ لَهَا الضَّحَايَا مِثْلَمَا حَنَّ الْبَخُورُ تِجَاهَهَا إِقْبَالَا فِي الْهَيْكَلِ الْمُصْغِي إِلَيْهَا رَهْبَةً حَتَّى الظِّلَالُ بِهِ وَقَفْنَ ظِلَالَا وَتَرَى النُّقُوشَ تَقَمَّصَتْ أَشْكَالَهَا أُمَمٌ تُطِلُّ وَلَا تُرِيدُ زَوَالَا وَكَأَنَّمَا الْعُمُدُ الَّتِي رَفَعَتْ مَدَى هَذِي الْفُنُونِ بِزَهْوِهَا تَتَعَالَى وَإِذِ الْقُدُورُ تَضَمَّخَتْ أَنْفَاسُهَا بِالْحُبِّ مِنْ أَنْفَاسِهَا٥ يَتَوَالَى وَالشَّمْسُ تَبْسِمُ رَوْعَةً وَتَأَلُّهًا لِمَ لَا وَقَدْ عَشِقَ الْجَمَالُ جَمَالَا هَذِي حَيَاةُ النِّيلِ رَبَّةُ عَرْشِهِ وَمُنَى «أَتُونَ» رَشَاقَةً وَجَلَالَا وَقَفَتْ تُصَلِّي وَالصُّفُوفُ وَرَاءَهَا كَالدَّهْرِ يَجْمَعُ نَحْوَهَا الْآمَالَا رَفَعَتْ يَدًا بِالزَّهْرِ وَهْوَ شَفِيعُهَا وَتَمُدُّ أُخْرَى فِي ابْتِهَالٍ طَالَا وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ مِنْ أَتْبَاعِهَا حَتَّى الْخَيَالُ لَهُنَّ لَيْسَ خَيَالَا وَإِذَا بِأَخْنَاتُونَ يُنْصِتُ غَارِقًا فِي الْحُلْمِ يَرْقُبُ حَوْلَهُ الْأَجْيَالَا وَهَبَ السَّلَامَ إِلَى الْقُلُوبِ مُؤَاسِيًا وَرَأَى الْحُرُوبَ سَفَاهَةً وَضَلَالَا وَتَحَالَفَا٦ وَالشَّمْسُ فِيمَا أَشْرَقَتْ بِهِمَا ضِيَاءً خَالِدًا وَكَمَالَا وَكَأَنَّمَا هَذِي الْأَشِعَّةُ لَمْ تَزَلْ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْسِ الْعَظِيمِ مَقَالَا نَطَقَتْ بِهَا الذَّرَّاتُ لَوْ يُصْغَى إِلَى مَا حُمِّلَتْهُ تَفَاؤُلًا وَسُؤَالَا وَالْفَنُّ يَنْتَظِمُ الْقُرُونَ فَإِنَّهُ رُوحُ الزَّمَانِ فَمَا يَهَابُ مُحَالَا زيوس ويوروبا (كبير الآلهة ونموذج الجمال) شَاقَهُ الْحُسْنُ وَكَمْ شَاقَ الْجَمَالْ كُلَّ مَا فِي الْكَوْنِ بَلْ مَا فِي الْخَيَالْ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ إِلَهٍ قَادِرٍ أَنْ يَنَالَ الْحُسْنُ مِنْهُ الِابْتِهَالْ أَوْ مُحَالًا مِنْ جَمَالٍ مُعْجِزٍ أَنْ تَرَى الْمَأْلُوفَ مِنْهُ كَالْمُحَالْ خَطَرَتْ بِنْتُ الْمَلِيكِ السَّافِرَهْ فِي رُبَى الشَّاطِئِ تَلْهُو سَاحِرَهْ وَالْمُرُوجُ الْخُضْرُ تَزْهُو حَوْلَهَا بَيْنَ نُورٍ وَمَعَانٍ نَاضِرَهْ وَبَدَا الشَّاطِئُ فِي رُوحِ الصِّبَا وَأَمَانِي الْحُبِّ فِيهِ طَائِرَهْ وَرَآهَا دُمْيَةَ الْفَنِّ «زِيُوسْ» وَغِنَى الدُّنْيَا وَأَحْلَامَ الْكُئُوسْ فَاشْتَهَاهَا وَهْوَ أَسْمَى مَنْزِلًا وَهْيَ أَسْمَى مِنْهُ فِي حُسْنٍ يَسُوسْ وَأَبَى اسْتِهْوَاءَهَا إِلَّا عَلَى صُورَةٍ لِلْفَنِّ تَسْتَهْوِي النُّفُوسْ فَتَرَاءَى فِي خَيَالِ الْحَيَوَانْ الْأَلِيفِ الطَّبْعِ وَالْجَمِّ الْحَنَانْ صُورَةَ النُّورِ الْبَهِيِّ الْمَنْظَرِ الْخَفِيفِ الظِّلِّ تَرْضَاهُ الْحِسَانْ وَاكْتَسَى مِنْ لَوْنِهِ الصَّافِي حُلًى فَإِذَا الْمَرْجُ بِمَرْآهُ يُزَانْ وَدَنَا مِنْ رَبَّةِ الْحُسْنِ الَّتِي قَدْ تَجَلَّتْ فِي مَصَفِّ الْآلِهَهْ فِي دُعَابَاتٍ يُحَيِّيهَا بِهَا كَتَحِيَّاتِ الْقُلُوبِ الْوَالِهَهْ أَلْقَتِ الْخَوْفَ وَنَاجَتْهُ كَمَا دَاعَبَ الطِّفْلُ الدُّمَى الْمُسْتَأْلِهَهْ وَأَتَتْ بِالزَّهْرِ إِكْلِيلًا لَهُ ثُمَّ عِقْدًا شَاقَهُ فِي جِيدِهِ فَازْدَهَى فِي نَشْوَةِ الْحُبِّ كَمَا يَزْدَهِي الْمُعْتَزُّ مِنْ تَأْيِيدِهِ وَانْثَنَتْ تَرْكَبُهُ فِي خِفَّةٍ فَأَتَمَّتْ حَظَّهُ فِي عِيدِهِ وَمَضَى فِي الْيَمِّ يَجْرِي سَابِحًا غَانِمًا مُلْكًا فَرِيدًا رَاجِحَا وَجَمَالًا عَبْقَرِيًّا بَيْنَمَا كَانَ هَذَا الْكَوْنُ يَرْنُو صَادِحَا وَتَوَلَّى يَحْمِلُ الْحُسْنَ إِلَى حَيْثُ يَلْقَى الْحُسْنُ عَرْشًا صَالِحَا وَتَجَلَّى بَعْدَ ذَا فِي صُورَتِهْ حِينَ «يُورُوبَّا» بَدَتْ فِي رُتْبَتِهْ وَارْتَضَتْهُ بَعْدَ لَأْيٍ زَوْجَهَا حِينَ عَدَّ الْكَوْنَ مَرْأَى زَوْجَتِهْ كَمْ كَبِيرٍ بِصَغِيرٍ يَعْتَلِي وَصَغِيرٍ بِكَبِيرٍ لَمْ يَتِهْ
78
676
19-qaf
19
7
5
3
Hindawi
The Specters of Spring
Ahmed Zaki Abu Shadi
Arts & Humanities
Specialized
3,010,092
BAREC_Hindawi_40703586_001.txt
العرب والترجمة أزمة، أم موقف ثقافي؟ حق وحرية الانفتاح في تسامحٍ على فكر الآخر، والتفاعل مع أُطر المعاني والدلالات فيما بين الثقافات؛ أي الترجمة. قضية خلافية، وإشكالية صعبة في ظِل ثقافة الكلمة التي تُعبِّر عن ذلك بمقولة تتكرَّر على مستوى التقديس في عبارة «ثوابت الثقافة العربية»؛ إذ حَسْب هذه النظرة: الكلمة هي الوجود الذهني المثالي الحقيقي، وليس الوجود بمعنى فضاء الفعل والتغيير المولِّد للفكر في تفاعل جدلي مُطَّرد ومتطور. والكلمة/الوجود امتداد وتجَلٍّ لمشيئة قدسية خالدة، ومن ثم أضحى الخلود قِسمةً مميزة، ومن هنا يأتي الحديث عن الثوابت ورفض التفاعل الذي يؤدي إلى صدع إطار المعنى والرؤية مع كل جديد. ونجد في التاريخ العربي والإسلامي، أو لنقل: تاريخ الشرق الأوسط بعامة؛ خطَّين متوازيَين متضادَّين فيما يتعلق بهذه المسألة التي تُمثِّل فضاء الترجمة من حيث الموقفُ منها وحدودها واستثمارها مجتمعيًّا، ومن ثم مُنتَجها الثقافي. هناك تاريخيًّا من يرفضون بحجة الحفاظ على «ثوابت الثقافة العربية»، على الرغم من عدم توافق الآراء بشأن تاريخية نشوء وتطور ومدلول هذه الثقافة وثوابتها، وكذلك بحجة الحفاظ على الهُوية الاجتماعية على الرغم أيضًا من أن هذا موضوع مستحدث جديد، وليس لدينا رؤية علمية لمدلول الهُوية عربيةً كانت أم إسلامية، من حيث النشوء التكويني والتطور التاريخي الاجتماعي sociogenesis، وهل هي هُوية متخيَّلة أم هُوية حية دينامية رهن الزمان والمكان. وإذا عدنا إلى التاريخ العربي والإسلامي التماسًا لفهم الترجمة ودَورها في المجتمع، نرى بوضوح مظاهر هذا الصراع ونتائجه، ثم هزيمة طرف لحساب طرف آخر ظلَّ له الفوز والولاية على الفكر العام حتى الآن، وله تجلياته المادية المؤثرة ومسئوليته عمَّا آلَ إليه حالنا. البداية هنا — بحكم الخطاب العربي المنحاز عقديًّا — مع فترة اتساع الرقعة الجغرافية الحضارية الموصوفة بالحضارة العربية حينًا، والإسلامية حينًا آخر؛ إذ إنه مع خروج موجة جديدة من موجات الهجرة لسكان شبه الجزيرة العربية على امتداد الحقبة التاريخية الأركيولوجية الحديثة من نطاق أو حصار صحراء شبه الجزيرة، انطلق المهاجرون العرب هذه المرة يحملون عقيدةً بمسمًّى جديد هو الإسلام. وتحققت لهم الهيمنة في مناطق ذات تواريخ حضارية عريقة أوشكت شعلة الحضارة — أي الإبداع والتجديد — على الانطفاء فيها، أو لنقل: ذَوَت جَذوة الفعل الإبداعي الحضاري لأسباب عديدة؛ ثقافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وعسكرية … إلخ. أنهكتها الصراعات فيما بينها، وفي داخلها، ولكنها تملك تراثًا غنيًّا من الإنجازات وقضايا الفكر والعقيدة ذات الخصوصيات المميزة. وعرف التاريخ مدارس أو مناراتٍ للفكر في هذه البلدان، مثلما شهد صراعات وغزوات متبادلة. ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أكاديمية جُنديسابور في خوزستان في فارس، وجهود علمائها في مجالات الفكر والفلك والترجمة وغيرها. ونذكر مدرسة الإسكندرية لتنوع الاتجاهات العقدية والفكرية فيها، سواء في العصر الهيليني أو ما قبله؛ حيث كانت مدرسة أو معبد «برعنخ» راقودة المصري الفرعوني، الذي أُنشئت مدرسة الإسكندرية البطلمية على غراره، ناهِيَك عن معابد مصر الفرعونية. ونذكر بلاد الإغريق ومدارس الفكر الفلسفي والرياضيات والإلهيات فيها. وكانت للإغريق تعاملاتهم وغزواتهم مع المنطقة حتى حدود الهند. ونذكر كذلك شرق المتوسط وآسيا الوسطى التي توهَّجت فيها مدارس فكرية وصراعات عقدية حول المسيحية في تنوع خصب، حيث مدارس النساطرة. ونذكر تاريخ بابل وآشور والسُّريان ومراكز الفكر في أنطاكيا وحَرَّان والرُّها ونصيبين وأوغاريت. وكانت جميعها قلاعًا فكريةً وعقائدية أثَّرت بإشعاعاتها في الإقليم على اتساعه، مثلما كانت لها جميعها تفاعلاتها خارج حدود هذه الأقاليم. وكان لبعضها حضور ثقافي، بل ومادي، مثل الفرس والرومان داخل شبه الجزيرة. ضمَّ العرب قطاعاتٍ واسعةً من هذه البلدان المنهكة حضاريًّا، والشديدة التنوع فكريًّا وعقديًّا تحت راية سلطة سياسية واحدة تحمل اسم عقيدة الإسلام. وخلق الواقع الجديد فرصةً جديدة لتفاعل جديد على نطاق إقليمي واسع بين هذه الإنجازات الحضارية السابقة. تفاعل في سياق جديد مغاير؛ سياق يمتد مكانيًّا من حدود الصين عبر الهند وفارس، إلى شرق المتوسط ومصر والإغريق. وكان الوضع الجديد أشبه بحقنة أدرينالين مُنشِّطة لجسد واهٍ ضعيف، فبثَّت الروح والحَمِية فيه من جديد، وأفاق الجسد إلى حين. وتجلَّت ثمار التفاعل في ظل السياق الجديد وقضاياه الجديدة، وكانت مرحلةً لاستيعاب فكر وافد، وإيقاظ فكر موروث، وتفاعل من منطلق خصوصيات سابقة متنوعة مع رؤًى وفكر إسلامي جديد، وليس بالغريب، وإنما يُمثِّل نقلةً على امتداد متصل الأديان في تطورها الإقليمي. وحقَّق المأمون حلمه الذي استهلَّ به فترةً لم تَدُم طويلًا، هي فترة أو عصر تأكيد سلطان العقل على الفكر والفعل الدنيويَّين. وهذا هو الإنجاز الذي أثمر إبداعات في الفكر الفلسفي وفي العلوم والرياضيات وفي الفلك، واستحقَّ المأمون من أجله أن يُطلق علماء الفلك المعاصرين لنا اسمه على إحدى فُوَّهات القمر. وحُلْم المأمون وصياغته، الذي جاء تجليًّا لنشأته وبيئته، له دلالة ذات مغزًى، سواء أكان تعبيرًا عن وعي باطن، أم روايةً عن وعي ظاهر. ويُروى أنه رأى في منامه أرسطو، المعلم الأول، وسأله: «أيها الحكيم، ما الحسن؟» أجابه الحكيم: «ما حَسُنَ في العقل.» وهذه هي العبارة ذاتها التي ظلَّت مقولةً فلسفية موضوع جدال وسِجال بين المعتزلة وخصومهم، والتي قالها الفيلسوف العربي الكندي، إلى أن بلغت ذِروتها في فكر فيلسوف العقل ابن رشد، الذي حرَّر الحُسْن والعقل والحق من أي انحيازات عقدية أو مرجعيات دينية. وكان نموذج المأمون إقامة مركز يُعنى بتعلم المذهب العقلي على غرار الأكاديمية الفارسية في جُنديسابور التي عُنيت بترجمة المعارف الإغريقية والرومانية والبيزنطية وعلوم الشرق الأقصى إلى اللغة الفارسية. وانفتحت الأكاديمية على مذاهب المفكرين والفلاسفة في تنوعهم، بمن في ذلك من كانوا يسمَّون الهراطقة. وأنشأ المأمون نموذجًا محاكيًا في بغداد هو بيت الحكمة. ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن المأمون أمه فارسية، وعاش حينًا واليًا على بلدة مَرو الخاضعة للسلطان الفارسي. وأصبح بيت الحكمة في بغداد مؤسسةً علمانية لمجتمعٍ قائم على العقل والإبداع. وأقام المأمون مرصدَين ومكتبة. واشتمل بيت الحكمة على برامج بحثية في علوم اللغة والطبيعة وما وراءها والرياضيات والطب والفلك.
47
978
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Translation in the Arab World: Reality and Challenge
Shawki Jalal
Arts & Humanities
Specialized
3,010,093
BAREC_Hindawi_40716317_001.txt
المروق في البرق تذاوبي في لحظةٍ، لا تصطلى في العمر إلا مرَّةً، وعانقيها حلوةً ومُرةً، مَحَا سواهُ من دروب الذاكرة. وفي تضاريسِ الشعور خَطَّ وشْمَهُ الجميل، وحَطَّ لَحْن طيرِه في اللاشعورِ، طائرٌ ولا يطير! شلالُ نهرك ابتدأ في لحظة، ثم انتهى، وأرضك البِكر انْتشَت واخضَوْضرت؛ لما الرَّذَاذُ مسَّها. وغزوةُ الفتح انتهت بفارسٍ يفتح أبوابَ المدينة، ويعتلي قلاعَك الحَصينة، لتُصبحي في لحظة منتصرة. فلتكتبي منابتَ الحروف، ولترشفي الرحيق من حريقه، وسَهْمهُ احضنيه في الكنانةِ، اغمري جموحَه في صدرك الرقيقِ، هَدْهِدي جنونه في بَحرك العميقِ، تذوقي شهد العذاب المشْتَهَى؛ فهذه تذكرةُ الولوجِ في عوالم الخصوبة، ورحلةُ الغريقِ في السعادة العجيبة، وثروةُ العمرِ التي قد آنَ أن تُباعَ دونما ثمن. وحاجزٌ ما بَعْدَه يسير، السيول برهة وتنتهي! فكيف للدماءِ بعدما تخثَّرتْ؟! فلتصرخي صادقة، ولترقصي في موجةٍ تجتاحُ عامدة، ولتنتمي إلى حُمَيَّا اللحظة الآسرة. حُرِّيَّةٌ: قيْدُ الثواني العابرة، ورحمةٌ: سوط الهوى، فلا تمرَّ منكِ لحظةُ النجاةِ والمغامرة، كلاعبٍ يحملُ فوق كفِّه حياتَهُ؛ للحظة المبهرة! تشبَّثي بنَصلِها؛ لتعبري المسافةَ الضئيلةَ المخيفة، بين الدماءِ والقطيفة، بين الجليدِ والمياه، وتمرقي في شعرةِ المستحيل، بين الجناحِ والهواء، بين السماء والأفُق، تشبثي بحلمكِ الجميل، واعتصري خمرَه؛ كي لا تكون لحظة مبتسرة؛ فربَّما نعيش ألف مرة! وربما ... لكنها بارقةٌ نادرة! ونشوةٌ حتميةٌ مطبوعةٌ على دُفوف الذَّاكِرة! القطة المسحورة يا قطةَ الأرقِ المراوغِ والزهورِ القائلة، تأتين بالنيران طائرةً؛ لتنطفئي بأعماقِ الشعورِ المستكينِ، وتستبيني من دمائي القاحلة. عيناكِ ملهمتانِ بالجنَّاتِ تكسُوني، وبالحرفِ المقدسِ تفتحُ الأمصارَ، تجتاحُ البحارَ، ويبدأُ الغزوُ المحبَّبُ؛ فالجيوش تدكُّني، والملحُ في أمواجِها يَغتالني، وتظلُّ من أهدابها تترقرق الأنهارُ والرياضَ الذابلة! كُرتان من ألقٍ ومن لهبٍ — هُلاميٍّ أثيرٍ — تسبحان على ظلالِ الحُلْمِ، تختفيان في لُجَجِ الضمير، وفي خلايا اللاشعورِ، وتحتويني باليَراعِ، وتمطرُ القلبَ المُعَنَّى بالنجومِ، وتنبشُ الشعرَ الذي قد أقبرتْه نيوبُها يومًا. فهل تحيي يدُ الجاني الرمادَ؟! وتبعثُ الحبَّ الرميمَ؟! تُلملم الأشلاءَ؟! تدعوها لكي تأتي، وتسعى من غيابات الجبال النائية؟! وتحومُ في غيبوبتي جنِّيَّةً تأتي مماتنة، إذا اختلطت بأشباح الضياءِ؟! وتنجلي في عتمة المشكاة أكثر فتنةً، وتراود الحلم المؤجَّج في دمي عن نفسِها؟! ثم تدخلني؛ لكي تتلبس الروحَ التي انصهرت، وذابت في أثيرِ خطوطِها؛ فأُرَوِّضُ الحلمَ العصيَّ، وألجم الحرف الأبيَّ، تحيلني شبقًا شقيًّا عبقريًّا، أو بقايا هيكل من سنبلة. وإذا رأيت مُواءَها وَسْط الدُّجُنَّةِ؛ فزَّعت فيَّ القوافي، واستبدَّ حنينُها بين الحنايا زهرًا، وأشواكًا، وأشواقًا، وترياقًا. يخلخلني انعدامُ الوزنِ، ألمسُ طيفها مذبذبًا، وأربِّتُ الآهات في صدري، ورعشة ظَهرِها؛ فتهدهد الأشواق تحدو في سحائي القافلة! أين الصواعق والمدى والكهرباء؟ فيا لهولي، قطةٌ مسحورةٌ ذابت، وتاهت في ظلام الضوءِ! أطيافًا، ونرجسةً، وشلَّالًا يبعثرُنا، يباعدني؛ فتدنو من شراييني وتلدغني، وتحفرُ بينها والقلبِ جُرحًا مستطيلًا جامعًا فوق الدماءِ، وموغلًا في قنبلة. يا قطةَ الوجعِ المعربدِ والشظايا الخاتلة، مثل النيازكِ تقفزين من الغياهبِ في دَمي! كم ذا اشتهيتُك، إنما للنار ذائقة مدمِّرةٌ! ومن إدمانِ أجيالِ السُّمومِ عصارتي وتغلغلِ الحبِّ الكظيمِ. مناعتي انهارت، وغاصت في عذاباتي؛ فلا تتجشَّمي! قد صارَ سهلًا أن يُذابَ إلى حُميَّاكِ الحديدُ، وأن يفرَّ الحُبُّ في ذيلِ الخيول المجفلة. يا لَيْتهُ قد ظلَّ أطلالًا تعشش في الفلول الآفلة، لكنه أجزاء أطيار توزَّعَهَا الخليلُ؛ فهل لديكِ المعجزاتُ في سعيرِ الأسئلة؟
124
605
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Liberation from Shackles
Mohammed Mohsen
Arts & Humanities
Specialized
3,010,094
BAREC_Hindawi_40837420_001.txt
العراق في القرن السابع للهجرة اضطربت الحالة العامة في العراق اضطرابًا شديدًا منذ فجر القرن السابق، واستمر هذا الاضطراب إلى هذا القرن، ففي القرن الماضي كان الأمر كله بيد الأعاجم من الفرس والأتابكة والترك، ولكنهم كانوا على شيء من معرفة الإدارة والاطلاع على السياسة وخشية الجانب العربي، أما في هذا القرن فقد ساءت حالة أولي الأمر، وبخاصة الخلفاء، إلى درجة أصبح معها من المستحيل بقاء الحكم في أيديهم ولو اسميًّا؛ لأنهم استسلموا للمماليك والخصيان والجواري الذين سيطروا على قصورهم، وتحكَّموا فيهم كل تحكُّم، حتى أصبح الخليفة ووزيره ورجال قصره كالدمى يتلاعب بها المستبدون من الأعاجم. وإن من البديهي أن يكون الخلفاء العباسيون قد أحسوا بالخطر الذي سيجلبه عليهم تسلط الفرس على أمور الدولة؛ ولذلك حاولوا التخلص منهم فجاءوا بالترك وسلطوهم عليهم، وكان هذا بلاءً جديدًا ومرضًا أفتك من المرض الأول دخل جسم الأمة العربية؛ لأن الفرس كانوا قومًا ذوي حضارة قديمة وعلم موروث، فلما توطَّدت أركانهم في الدولة العربية نشروا علمهم، وبعثوا حضارتهم، أما الترك فقوم لم يُعرفوا بحضارة، ولا روي عنهم علم موروث، فلما استولوا على زمام أمر الدولة العربية سيطر عليها الجهل، وعمَّت الفوضى، وفشا الفساد، وأصبح من الطبيعي أن تصل الدولة العربية إلى حالة مزعجة من الفساد. لقد كان لهولاكو عيون يراقبون وضع الدولة العربية في البلاد ويقدِّمون إليه الرسائل والتقارير، فيحيط علمًا بكل دقيقة وجليلة، كما أنه كان من المعقول جدًّا أن يكون بعض الأمراء والحكام يأتمرون بأمره، وينفِّذون خططه، كما كان نفر منهم يأتمر بأمره وهو في الظاهر يعمل باسم الخليفة أو وزيره، ولعل أكبر دواعي تمكُّن المغول في البلاد العراقية بهذه السرعة العجيبة أن الترك المنبثِّين في كافة الأقطار كانوا يعملون للقضاء على السلطان العباسي، وتوطيد ملك المغول. ذكر جمهور المؤرخين أن المغول قد ظهر أمرهم في أوائل القرن السابع للهجرة حينما استولوا بقيادة زعيمهم «جنكيز خان» على بخارى، وسمرقند، وبلخ، وفتكوا بأهلها المسلمين شرَّ فتك، وكان ذلك في سنة ٦١٦-٦١٧ه، وقد فعلوا بالأهلين أفاعيل فظيعة من حرق مدنهم، وبقر بطونهم، وهتك أعراض نسائهم، والتمثيل بأطفالهم وشيوخهم، ثم انساحوا إلى إيران فتملكوها بعد أن خرَّبوا العواصم والمدن الكبرى كمدينة «الري» و«أصفهان»، وكثير من مدن إقليمَيْ أذربيجان وخراسان، ثم أخذوا يعدُّون العدَّة لغزو العراق، ففي سنة ٦٣٣ه/١٢٣٦م هاجموا مدينة «إربل»، وساروا إلى «نينوى»، ولكنهم رُدُّوا على أعقابهم، ثم عادوا في السنة التي بعدها فهاجموا مدينة «إربل» ثانيةً وحاصَروها مدةً حتى افتدى أهلُها أنفسَهم بالمال، ثم عادوا إليها ثالثةً في سنة ٦٣٥ه، ففتكوا بالسكان واحتلوا المدينة ثم ساروا حتى بلغوا تخوم بغداد، فخرج إليهم الجند العباسي وعلى رأسه الأميران شرف الدين إقبال الشرابي ومجاهد الدين الدوبدار فهزماهم، ولكنهما خافا من عودتهم؛ فنصبا المنجنيقات على سور بغداد، وفي أواخر هذه السنة عادت جيوش المغول إلى العراق فوصلت «خانقين»، فلقيها الجيش العباسي وحمي الوطيس، ثم دارت الدائرة على الجيش العباسي، ورجعت فلوله إلى العاصمة بعد أن قُتِل منه مقتلة عظيمة، وغنم المغول غنائمَ جمَّة في كل هذه المعارك، وبخاصة معركة «خانقين»، فقد روى المؤرِّخان «ابن الغوطي» و«ابن العبري» أنهم قد رجعوا بغنائمَ كبيرةٍ وأسلابٍ وفيرة، وأن الأهلين لاقوا منهم بلاء عظيمًا. وقد استمر المغول في هجماتهم هذه نحوَ خمس عشرة سنة كاملة يُغِيرون على البلاد في كل سنة فيفتكون بالأهلين، ويبثون العيون، ويثيرون الذعر، ويعملون على الفت في عضد الدولة، وتخويف أهلها، وإيجاد الشغب بين الناس، ويرجعون بالغنائم والأسلاب، إلى أن تولى أمرهم «مفكوقان» أخو «هولاكوقان» في سنة ٦٤٨ه/١٢٥١م وكان ذا آمال كبيرة، وطموح عظيم، فعزم على القضاء على الخلافة العباسية، والاستيلاء على ممتلكاتها، وأخذ يرتِّب أموره ترتيبًا قويًّا، وينظِّم جنده تنظيمًا عسكريًّا، ويعمل على تأسيس دولة كبرى بالمعنى الصحيح بعد أن كان الأمراء المغول قبله يسيرون سيرةَ رؤساءِ العشائر، وقد تفرَّس في أخيه «هولاكوقان» أنه يستطيع مساعدته في تدويل قبائله، ونشر سلطانها على العالم، وهكذا كان؛
27
694
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Era of Decline
Mohammed As'ad Talas
Social Sciences
Specialized
3,010,095
BAREC_Hindawi_40914027_001.txt
مذهب المَلامتيَّة نشأتُه التاريخية والصِّلة بين تعاليم المَلامتيَّة وتعاليم الصُّوفيَّة وأهل الفُتوَّة (١) مَعاني المَلامَة والفُتوَّة والتَّصوُّف والصِّلة بينها مضى نحو قرْنٍ من الزَّمان على ما كتَبه العلَّامة «فون هامر» في المجلَّة الآسيوية في مَوضوع الفُتوَّة الإسلامية وصِلتها بالفُروسيَّة الغربية، وأهميَّة دِراسة الفُتوَّة الإسلامية والحضارة الإسلامية عامَّةً في فَهْم الفُروسيَّة المَسيحيَّة. وكان هذا أول ما كُتِبَ في الموضوع بطريقةٍ علميَّة دقيقة. وكذلك ألقى العلَّامة «كاترمير» بعض الضوء على هذا الموضوع الغامِض المُتشعِّب الأنحاء في بعض تَعليقاته على كِتاب السُّلوك للمَقريزي. ولكن لم يَظهر في الفُتوَّة الإسلاميَّة كِتاب أو مقال ذو بال حتَّى نشَر الدكتور «ثورننج»٣ سنة ١٩١٣ كِتابه الجَامِع الذي ألمَّ فيه بأطرافٍ لم يُعالِجها مَن قَبلَه واستَنَد فيه إلى وثائق تاريخيَّةٍ هامَّة. وقد ظهرت مقالات أخرى قَيِّمة في المَجالات العِلمية الألمانية لأمثال الأساتذة تِشْنَر وفون هارتمان وشاخت؛ إلَّا أنَّ هذا المَوضوع الحيَوي العظيم لم يلقَ بعدُ — لسوء الحظِّ — من العِناية بِدارسته دراسةً مُستَفيضة ما هو جدير به. والحقُّ أنه موضوع شاقٌّ عسير، أصعَب ما فيه جمْع مادَّته من بُطون الكُتب التاريخية والأدبيَّة والصُّوفية وكُتب الرَّحلات وغيرها، ولكن قيمتَه لا تُقدَّر في تفسير كثيرٍ من النَّواحي الغامِضة في التاريخ والأدَب والتصوُّف والحياة الاجتماعية الإسلامية، وفي إيضاح العلاقات بين الجماعات التي خضَعَت لنظام الفُتوَّة والتصوُّف وجماعات الفروسيَّة المَسيحيَّة في القُرون الوُسطى. ولستُ أقصِد في هذا القِسم إلى مُعالَجة هذا المَوضوع الواسِع مُعالجةً تفصيليةً، ولا أن أعرِضَ لمَسألة نشأة نِظام الفُتوَّة في الإسلام أو في الأُمَم ذات الحضارة القديمة التي فتَحها المُسلمون، ولكنِّي آمُلُ أن أوَضِّح — بقدر ما تَسمَح به النُّصوص التي بين يدي — نواحي الشَّبَه وجِهات الفَرْق بين المَعاني الأساسيَّة للتصوُّف والفُتوَّة والمَلامَة، وأُحدِّد الصِّلة بينها منذ نشأة المَلامتيَّة الأوائل في القرن الثالث الهجري؛ وهي مسألة لم يَمَسسْها — إلا من طريقٍ عَرَضي — أحدٌ ممَّن كتَبوا في الفُتوَّة أو في التصوُّف؛ فإنهم دَرَسوا نُظُم الفتوَّة الإسلامية إمَّا من ناحِية صِلتِها بالفروسيَّة المَسيحيَّة كما فعل فون هامر، أو من ناحِية ما تمتاز به الفُتوَّة من صِفاتٍ عامَّة ثُمَّ ظهورها في صورة الفتوَّة الأرستوقراطية في عهد الخُلَفاء العباسيِّين، ثمَّ انتشارها بين طبَقات الشعوب الإسلامية الوسطى في ندَوات أهل الحِرَف والصِّناعات كما فعل فون هامر وثورننج، أو من ناحِية صِلة الفُتوَّة بالتصوُّف في كلِماتٍ عابِرة قد تَخْلو أحيانًا من دِقَّةٍ في التحليل كما فعل «هورتن». ولم يَطرُق أحد موضوع الصِّلة بين الفتوَّة والمَلامَة إلا ريتشارد هارتمان في مَقالٍ خاصٍّ تحت عنوان «الفتوَّة والمَلامة»؛ ولكنَّه لم يعرِض للمَوضوع الأساسي لمَقالته إلَّا في الصَّفحتين الأخيرتَين منها مُعتمدًا على بعض فقرات وردَتْ في رسالة المَلامتيَّة للسُّلَمي ورسالة التَّصوُّف للقُشيري. ونحن لا نزال نَشعُر بالحاجة إلى مَراجِع أغزَرَ مادَّةً في هذا الموضوع، وإن كانت رسالة السُّلَمي في الملامتيَّة قد تُلقي كثيرًا من الضوء على الجزء الأخير من هذا البحث لو حُلِّلَت بعضُ نُصوصها وقُورِنَت بِنصوصٍ أخرى كالتي وردَت في رسالة القُشيري، وفي فُتوحات ابن عربي، وكشف المحجوب للهجويري، وعوارِف المَعارف للسَّهْروَرْدي؛ وهذا ما حاولتُ القيام به في هذا القِسم من الكِتاب. أما المَلاميَّة — أو المَلامتيَّة على غير قِياس — فيكاد يَنحصِر عِلمُنا بهم فيما أورَدَه السُّلَمي في رسالته وما أورَدَه كُتَّابُ الطبَقات عن مَشايخهم مما أخَذوه عن السُّلَمي. ولا نكاد نَتبيَّن في وضوحٍ شخصيَّة المَلامتيَّة ولا الفكرة الأساسية في مَذهبهم خلال ما ورَد من تعاليمهم في رسالة السُّلَمي لأنَّها في جُملتها مَصبوغة بصِبغةٍ سلبيَّة. فالصِّفات التي يجِب ألَّا يَتَّصِف بها المَلامَتي أكثرُ من الصِّفات التي يَنبغي أن يكون عليها، والأفعال التي يُطالَبُ بتركِها أهمُّ من تلك التي يُطالَب بالقِيام بها. والتعاليم التي يَفرِضُها المَلامتيَّة على مُريديهم لا تكاد تعدُو سلسلةً من النَّواهي في تحريم كذا أو كراهِيَة كذا أو إنكار كذا. ولكنَّنا بالرَّغم من هذا نَستطيع أن نتبيَّن إلى حدٍّ كبيرٍ بعضَ الفوارِق التي يتميَّز بها المَلامَتي من غيره من الناس، صُوفيِّين كانوا أم غير صُوفيِّين أكثر مما نتبيَّن نَوع الحياة الرُّوحيَّة التي يَحياها. فالمَلامَتي مثلًا مُطالَبٌ بألَّا يُظهِر عِبادَته أو وَرَعه وزُهدَه أو عِلمَه أو حالَه، وهو لا يتكلَّم في الإخلاص بقدْر ما يتكلَّم في الرِّياء الذي هو نَقيض الإخلاص، ولا يتكلَّم في فضائل النفس وكمالاتها بقدْر ما يتكلَّم في عيوب النفس وآفاتها ورُعوناتها. ولا يُطالِب نفسه بما يُقوِّم النفس ويُهذِّبها بقدْر ما يفرِض على نفسِه اتِّهام النفس وتَحقيرِها ومُصادَرَتها في جميع رَغَباتها ومَطامِعها. وهو يُفضِّل الكلام عن نقائص الأعمال ومَساوِيها على الكلام في مَناقِب الأعمال ومَحاسِنِها. وإنك لتَجِد هذه الصِّفة السلبيَّة مُنعكِسة حتى في الاسم الذي اختارَتْه هذه الطائفة لنفسها، فاسمُ المَلامتية مُشتقٌّ من المَلامَة التي هي بَخْعٌ وتأنيب للنفس. وربما كان لهذا الأسلوب من التعليم ما يُبرِّره — كما سيتَّضِح لك فيما بعد — لأن المَلامتيَّة قوم ثائرون على الكثير ممَّا كان مُقرَّرًا ومُعترفًا به عند الصُّوفيَّة وغيرهم من رجال الدين. فمِن الطبيعي أن يَضعوا ذلك النظامَ السلبيَّ ليُقاوِموا به نظامًا لم يَرضَوا عنه؛ ومن أجل ذلك أطلَقوا هذا الاسم على أنفُسهم في مُقابِل اسم الصُّوفية الذي كان يُسمَّى به أهلُ العِراق أوَّلًا. وقد اختُصَّ بهذا الاسم «المَلامتيَّة» أهل خُراسان. يقول السَّهْروَرْدي صاحِب عوارِف المَعارِف: «ولم يزل في خُراسان منهم طائفة ومَشايخ يُمهِّدون أساسهم ويُعرِّفونهم شُروط حالِهم. وقد رأينا في العِراق من يَسلُك هذا المَسلَك ولكن لم يُشتَهر بهذا الاسم. وقلَّما تتداوَل ألسِنة أهلِ العراق هذا الاسم.» وليس ببعيدٍ أن يكون اسم المَلامتيَّة مُتَّصِلًا ببعض الآيات القرآنية التي ورَد فيها ذِكر اللَّوم، كقوله تعالى: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وقوله: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ فإن الآية الأولى تُعْلِي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المُؤنِّبة المُحاسبة له على كلِّ ما يصدُر منه، وهي النفس الكامِلة في الاصطلاح المَلامَتي. وتذكُر الآية الثانية من صِفاتِ عباد الله الذين يُحبُّهم ويُحبُّونه أنهم أذلَّة على المؤمنين أعِزَّة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومَةَ لائمٍ ولا يَكترِثون بمدح الناس وذَمِّهم. فإذا فهِمنا الجهاد بالمعنى الصُّوفي أو المَلامَتي — أعني جهاد النفس — أدرَكْنا أنَّ الآية تُشير إلى أخصِّ صِفات الملامتيَّة، وأنَّها تصلُح لأن تُتَّخَذ أساسًا لمَذهبهم وتكون مَصدرًا لاسمهم. ومما يُعزِّز هذا الفرض قول حمدون القصَّار — وهو من أكابر مَشايخهم وأوائل مُؤسِّسي فِرقتِهم — وقد سُئل عن طريق المَلامَة فقال: «تركُ التَّزيُّن للخلْق بحالٍ وتركُ طلبِ رِضاهم في نَوعٍ من الأخلاق والأحوال، وألَّا يأخُذَك في الله لومَةَ لائم.» ولكن ما المُراد بالملامة التي ينتَسِب إليها الملامتيَّة؟ أهيَ لومُ الملامَتِيِّ نفسه، أو لَوم الناس إياه، أم لومُ المَلامَتيِّ الدُّنيا وأهلها؟ أما لومُ الدنيا فليس من نِظام الملامتيَّة في شيءٍ لأنَّ في تعاليمِهم الصَّريحة النَّهْي عن ذَمِّ الدنيا. رأى أبو حَفص النَّيسابوري بعض أصحابه وهو يَذمُّ الدنيا وأهلها فقال: «أظهرتَ ما كان سبيلك أن تُخفِيَه. لا تُجالِسنا بعد هذه ولا تُصاحِبنا.» وأما المَعنَيان الآخَران فيدْخُلان في جَوهر الفكرة الملامتيَّة وإليهما يُشير كثير من تَعريفاتها.
47
1,127
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Malamatiyya, Sufism, and the People of Futuwa
Abu Al-Ala Afifi
Arts & Humanities
Specialized
3,010,096
BAREC_Hindawi_41395309_001.txt
إهداء الكتاب سيدي هذا باكورة أعمالي وبِكر أفكاري، دفعني إلى تأليفه نزوعٌ إلى التشبُّه برجال الأدب وأصحاب الأقلام؛ تطفلًا على موائدهم، مع علمي الأكيد بفتور القريحة وقلة البضاعة، لكن لي في حسن القصد والغاية ما يضمن لي العذر في تقصيري عن بلوغهما. وقد لاقيت من تنشيطك إياي أثناء الاشتغال به ما شدد عزيمتي الواهنة وأثار همتي الوانية، فرأيت من الواجب عليَّ أن أقابل الفضل بالشكر، فأهديت هذه الباكورة إليك، مصدَّرة برسمك الكريم عوذةً لها، فاقبلها غير مأمور؛ إن في قبولها تنشيطًا لهذا العاجز، لا زلت له زخرًا. ابن أختك ميشيل أغيا خريطة الترنسفال مقدمة لما نشبت الحرب الأخيرة بين الترنسفال وبريطانيا العظمى، اتجهت أنظار العالم المتمدن وجهة الأولى منهما، وتشوَّق قراء الجرائد ومحبُّو الأخبار إلى الوقوف على أحوالها، وودُّوا لو يكون لديهم من الكتب ما يستعيضون به على معرفة البلاد وسكانها، وشيءٍ من تاريخها وجغرافيتها، ويرجعون إليه في تعيين مواقع مدنها المشهورة ومضايقها وحصونها، التي كثُر ورود أسمائها في الرسائل البرقية التي نقلت أخبار الحرب. وشعرت بهذه الحاجة في مَن شعر بها، فرأيت أن أقدِّم لجمهور القرَّاء كتابًا جمعت فيه زبدة أخبار تلك البلاد بمشتملاتها، مبينًا فيه عادات أهلها وعقائدهم، وأحوالهم الاجتماعية، وما هم عليه من الحضارة والمدنية، وأتيت على طرفٍ من تاريخها وكيفية استعمارها، وما فيها من مصادر الثروة، إلى آخر ما يهمُّ الوقوف على معرفته، ملتزمًا في جميعه الإيجاز مبتعدًا عن التطويل الممل. وجُلُّ ما أتمناه أن يقع هذا الكتاب موقع القبول والاستحسان من المطلعين عليه، وأن يتجاوزوا ما فيه من الخطأ والهفوات؛ ففوق كل ذي علمٍ عليم. الجزء الأول الترنسفال موقعها الجغرافي، حدودها ومساحتها الترنسفال بلاد واقعة في جنوب القارة الأفريقية ما بين درجة ٢٨ من العرض الجنوبي ودرجة ٣٨ من الطول الشرقي، يحدها جنوبًا نهر الفال وبلاد أورنج وبلاد الناتال وجريكالان الغربية، وشمالًا نهر ليمبوبواي (نهر التمساح)، وشرقًا جبال ليمبوبو وصحراء كالأري وبلاد الزولس، وغربًا مستعمرة الرأس والباشوانالند، ويبلغ محيطها ألفًا وستمائة ميل، ومساحتها ثلاثمائة وخمسة عشر ألفًا وخمسمائة وتسعون كيلومترًا مربعًا. جبالها فيها سلسلة جبال عظيمة تخترقها من الشرق إلى الغرب، وتتألف هذه السلسلة من جبال دراكنستين، وجبال ليمبوبو، وجبال دراكنسبرج، وجبال بلوبرج، وجبال زوتنسبرج، وجبال ليدنبرج، وفيها أيضًا جملة جبال صغيرة وتلال لا موضع لذكرها هنا. أنهارها وبحيراتها أما أنهارها فهي: «نهر ليمبوبو»: ومنبعه من جبال بالقرب من برتوريا ومصبه في المحيط الهندي، ويبلغ عرضه عند مصبه ثلاثمائة متر تقريبًا، وماؤه يهدأ في فصل الشتاء ويهيج في فصل الصيف، وبعد أن يصب في نهر الأفيال يأخذ ماؤه بالنضوب لكثرة التبخر ويغور في أرضه الرملية. ويروي هذا النهر أراضي واتربرج ويمر بجبال مورال وزوتنسبرج، وفيه اثنا عشر شلالًا؛ ولذلك لا يصلح للملاحة، وكانت التماسيح تكثر فيه، وعلى ضفتَيه كثير من جاموس البحر، والسباع، والقردة، والزرافات، والأفيال. «نهر الأفيال»: ومنبعه من جبال كليستابيل وتافلكوب، ويروي أراضي ميدلبرج، ويمر ببلاد تكثر فيها المعادن، وضفافه خصبة بأنواع المزروعات والمراعي، وكانت الفيلة تكثر فيها، على أنها آخذة بالانقراض. وهو لا يصلح للملاحة أيضًا. ويقطن في الجهات التي يمر فيها هذا النهر كثير من الزنوج غير مبالين برداءة الإقليم، وكثرة الأمراض التي تُردِي بكثير منهم في زمن الصيف. «نهر الفال»: ومنبعه من جبال هوج فيلد، ويجري في أراضي أزملو، ويروي القسم الجنوبي من الترنسفال، وبه كثير من الجزر، وتُزرع على جوانبه الذرة، ويصب في نهر أورنج، عند جريكلان، وهو كالذي تقدم ذكره من الأنهار لا يصلح للملاحة. «نهر أم كوماس»: يجري في أراضي الترنسفال، ويصب في خليج دلاجوي البرتغالي، وفيه كثير من التماسيح، وثعابين البحر، والسمك الأصفر، وتكثر على ضفتَيه الغزلان، والتيوس البرية، والأرانب، والبط، والإوَزِّ البري، وغير ذلك؛ مما يجعلها مطمحًا لأبصار الصيادين الذين يأتونها طلبًا للصيد والارتزاق. «نهر الكاب»: ومنبعه من الجهة الجنوبية من الجبال القريبة من باربرتون، وله فروع كثيرة، أشهرها نهر الملكة، والبلاد التي يمر بها رديئة الإقليم، أما الزراعة على ضفتَيه فقليلة في فصل الشتاء؛ لقلة مياهه، وتكثر في فصل الصيف حين فيضانه.
55
712
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The History of Transvaal
Michel Aghia
Social Sciences
Specialized
3,010,098
BAREC_Hindawi_41496247_001.txt
من ذكريات الصبا غادرتُ المدينة — أستغفر الله — بل هي التي أقصتني عنها، وأبعدتني عن ملاهيها ونواديها، عن حدائقها ورِياضها، عن فاتناتها وساحراتها، عن مشاهد حسنها ومعابد جمالها، عن الصراع فيها بين الحياة وأبنائها، عن الشعور فيها بمعنى «الحياة» شعورًا يتغلغل في أجزائها وأرباضها، عن مدارسها ومعاهد العلم وكعبة الثقافة فيها، ومناط آمال الشباب المصري الطامح في عهد جديد، ونور جديد، يقوده إلى «العالم الجديد»، ويُنزِله منزلة «الإنسان الجديد»! نعم! فارقت القاهرة، وحيل بيني وبين الجامعة، مهبط آمالي ومعقد رجائي وحقل جهودي ووادي أحلامي، وقالوا: عطلة! أنَّى أذهب إذن لأقضي شهور تلك العطلة الطويلة المملة، لأعطي بدني حقَّه من الراحة وعقلي حقَّه من الرياضة؟ ... إلى الريف! إلى ذلك الحِمى الهادئ، وهذا المعبد الساجي الخاشع! إلى مهبط النفوس الثائرة، ومسكن القلوب المُعَنَّاة، ومجمع الآمال الشاردة، ومسرح الأحلام الهائمة! أُقصيت إذن عن المدن لأستعيض عن صخبها وحضارتها، بهدوء القرية وبداوتها، ولأستبدل بابن القاهرة المتحضر المتعلم، ابن القرية الساذج الجاهل، فكثيرًا ما نجنح إلى البساطة والبداوة والجهل، نطلب فيها قناعة الرضا وهدوء الاطمئنان وجلال البداوة، ونستجم فيها من جهاد العلم ومن اضطرابه وتذبذبه، وشكوكه وحيرته، ومن صلف الحضارة وتكاليفها، وهل حياتنا يا صاح إلا مزيج مضطرب من الحضارة والبداوة، والعلم والجهل، والنور والظلام، والحق والباطل، وما شئت من هذه الظاهرات المتناقضة المتعاكسة التي هي سر نظام الوجود، والنغم أو الاتساق الذي ينظِّم اضطراب موسيقى الحياة؟ هل حياتنا إلا تفاعل الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والقوة والضعف، والإيمان والشك، وفي هذا التفاعل وهذا الازدواج قوة الحياة، وجمال الوجود، ووحدة العالم، وكمال الإنسانية جميعًا؟ ذهبت إذن أقضي فروض الذكرى والوفاء لقريتي التي غذتني رضيعًا، وتعهدتني صبيًّا، وشاهدتني أحبو على أرضها، وأعبث بمائها، وأجري في حقولها، وأتعلم مبادئ القراءة والكتابة فيها، وأحفظ القرآن الكريم في كتابها أمام كثير من فقهائها، ذهبتُ أستعيدها ذكريات الصبا، وأقسم لديها يمين البِر والحب والولاء، وأتَّخِذ من دُورها وقنواتها وحقولها «وكتَّابها» وحاراتها وأجرانها وأشجارها وربواتها وحدائقها ومقابرها، عوني على الذكرى، ووحيي عند التفكير، وإلهامي حين الكتابة، وأَصِلُ حلقةً من حلقات حياتي بالفلاح الساذَج الجاهل الطيب المسكين البريء الذي أحبه وأجِلُّه وأشفق عليه! وإذا ما ذكرت «الكتَّاب» عادت بي ذاكرتي إلى عهود الطفولة والصبا، إلى تلك العهود الخالدة من العمر، بما فيها من حريةٍ تكاد تكون مطلقة، إلى عبث بالغ أقصاه، إلى خوف ورهبة من الفقيه الأعمى، يلطفه الحنين والشوق إلى اللهو مع أطفال الكتَّاب تارةً بفقيهنا، وتارةً أخرى بعَرِيفنا! لا زلت أذكر «الكتَّاب»، ويومَ كنتُ أساق إليه سوقًا بالعصا، وعيني تذرف بالدموع، ولا أسكت عن بكائي ولا أجفف دمعي، حتى يرضيني أبي بقطعة الحلوى أو بالقرش، تشفعه قُبلة أبوية طاهرة، وكلمة رضية كريمة، ولا زلتُ أذكر «سيدنا» الضرير وهو «أستاذي» الأول — إنْ صحَّ هذا اللقب — وكيف كان يرهبني بأسه ويخيفني شكله ويزعجني صوته، ولا زلتُ أذكر «لوح القرآن» الخشبي تارةً، والصفيحي تارةً أخرى، وكيف كنت أنا السابق الفائز في حفظه واستظهاره بين أولاد الكتَّاب وحضرات الزملاء! ولا زلتُ أذكر أيام المواسم والأعياد، لا يصرفنا «سيدنا» حتى أسلِّمه في يده «البريزة»، وحتى يسلِّمه الآخرون الفطيرة أو قطعة السكر. ولا زلتُ أذكر ذلك العريف الضرير أيضًا وصوته الأجش الخشن، ونبراته الجافة الغليظة المنكرة، حتى كاد أن يكرِّه لديَّ وأنا في طفولتي استماعَ القرآن! ثم لا زلتُ أذكر ولا يمكنني أن أنسى يومَ كان هذا ال «سيدنا» ينيب كل واحد منَّا في أن يقرأ في البيوت «ربعًا»، حتى يستريح هو من عناء القراءة، ويأخذ مرتبه من الفلاحين المساكين زورًا وبهتانًا وغشًّا، ولا زلت أذكر ذلك اليوم العصيب، يومَ أعَدَّ «سيدنا» آخَر «الفلكة» الخفيفة، ويومَ أعَدَّ معها «الكرباج» لا العصا، وغسله بالماء والملح ليتفنن في الإيذاء والإيلام، وجادت رحمته وتديُّنه الصادق بأن أمر أمرَه بإلقاء ثلاثٍ من رفاقي أمامه في الفلكة، اتُّهِموا بأنهم سرقوا نقودًا من آبائهم وشروا بها سُكرًا وشايًا من الدكان، أذكر ذلك اليوم كأنه الآن، وأذكر يومَ وقَفَ هذا ال «سيدنا» الثاني «على حيله»، وربط كل واحد بدوره في الفلكة، وأعطاه نصيبه من الضرب والعذاب إلى أن أدمت أقدامهم، والعريف الجبار الضرير هو الممسك بالفلكة آلة التعذيب، إمساكةً لا تخلو من تفنُّن وإبداع، وهو بذلك فَرِح مغتبط، ونحن جميعًا جالسون على «الحصيرة» حول هؤلاء الفرسان الثلاثة، نشهد هذا المنظر المؤثِّر الجميل، منَّا مَن يضحك شامتًا فَرِحًا، ومنَّا مَن يبكي شفقةً وتألمًا، ومنَّا مَن اصفرَّ وجهه ومَن ذهب رشده من الوجل والخوف خشاة أن تدور عليه الدائرة يومًا، فيُمثَّل به هذا التمثيل المفجع.
28
823
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
In the Egyptian Countryside
Mustafa Ali Al-Helbawi
Social Sciences
Specialized
3,010,099
BAREC_Hindawi_41507040_001.txt
السُّهرَورْدي ... حياته وآثاره تمهيد إن شهاب الدين السُّهرَورْدي؛ هذه الشعلة الإشراقية العرفانية التي أخمدت بسرعة، بفعل الدس والتآمر والتعصب البغيض، لم يَنضب زيتها ويجفَّ بجفاف جسده، بل لا يزال وميضه الروحي، وذوقه العرفاني، يتردد صداه في قلوب عارفيه حتى هذا اليوم، وسيدوم خالدًا أبديًّا يجمع بين النظر والشعور إلى ما لا نهاية، كظلٍّ نوراني يمتد بفيئه ليرسم صورة حقيقية رائعة لأسمى معاني العرفان في ثوب الفلسفة والتأمل الفلسفي. علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن أن يتجاهل الكثير من الباحثين والمفكرين أن السُّهرَورْدي قد قدم لنا مذهبًا فلسفيًّا إنسانيًّا كاملًا؛ حيث ناقش فيه قضايا الفلسفة من خلال المنظومة الرئيسية لها: الله-الكون-الإنسان، وهو في ذلك يقف على قدم المساواة مع أمثال أرسطو وأفلاطون. ومذهب السُّهرَورْدي الفلسفي — شأن أي مذهب فلسفي آخر — فيه جانب التأثر بما سبقه، وفيه جانب النقد ومحاولة تقديم الجديد. ومن هذا المنطلق نُحاول في هذا الفصل أن نكشف النقاب عن حياة السُّهرَورْدي وآثاره، وذلك على النحو التالي: أولًا: اسمه ولقبه يرى معظم المؤرخين والمترجمين أن شهاب الدين السُّهرَورْدي هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، غير أنَّ «ابن أبي أصيبعة» ذكر أن اسم السُّهرَورْدي هو «عمر» دون أن يذكر اسم أبيه. وقد لاحظ «نللينو» Nallino هذا الخطأ الذي وقع فيه «ابن أبي أصيبعة»، ووصفه بالسهو الشنيع والغلط الفظيع. أما ياقوت الحموي فيقول إنَّ «اسم السُّهرَورْدي هو أحمد»، وإنَّ كنيته هي «أبو الفتوح». ولكن ابن خلكان يُشير إلى أن الاسم الصحيح هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، ثم يَضبط هذا الاسم ضبطًا لغويًّا لما عسى أن يَلتبس في هذا الاسم من ألفاظ غريبة أو عجيبة قد يصعب نطقها أو فهمها؛ فيذكر أن لفظ «حَبَشَ» بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة. وقال عن لفظ «أَمِيرَك» إنه بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة، ثم ياء مُثنَّاة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة، ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه «أمير» وهو تصغير «أمير»؛ لأنَّ الكاف التي تلحق بآخر الاسم هي للتصغير. ويُلقَّب السُّهرَورْدي بالمؤيد بالملكوت؛ وذلك لما عرف عنه من العلوم الإلهية والأسرار الربانية التي رمَز الحُكَماء إليها، وأشار الأنبياء إليها، ولما أُيِّد به مِن قوة التعبير عن هذه الأسرار وتلك العلوم في كتابه العظيم «حكمة الإشراق». ويُلقب أيضًا ب «خالق البرايا»؛ وذلك لما كان يُظهره في الحال من العجائب. ويرى الشَّهرَزُوري أن واحدًا رأى السُّهرَورْدي في المنام، فقال له الأخير: «لا تُسمُّوني بخالق البرايا.» ولما كان السُّهرَورْدي قد قُتل بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٦ه/ ١١٩٣م، فلهذا السبب أطلق عليه المؤرخون لقب «الشيخ المقتول»؛ وذلك تمييزًا له عن غيره ممَّن يشتركون معه في النسبة إلى سُهرَورْد؛ فثمة علماء ثلاثة يُعرفون باسم السُّهرَورْدي وهم: (١) ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السُّهرَورْدي، المتوفَّى سنة ٦٣٠ه الموافق ١١٦٧م أو سنة ١١٦٨م. (٢) شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عمويه، مؤلف عوارف المعارف، سنة ٦٣٢ه، الموافق سنة ١٢٣٤ أو ١٢٣٥م. (٣) محمد بن عمر، ابن الشيخ شهاب الدين — المتقدم مباشرة — صاحب زاد المسافر في التصوُّف. غير أنَّ «أحمد أمين» يرى أنه ربما لقب ب «الشيخ المقتول»؛ إيماءً بأنه قتل استحقاقًا لهذا القتل، وإلا كان لُقِّب بالشهيد، وأنه أشاع في «حلب» تعاليمه الفلسفية ورأيَه في الحلول، وأن الله والعالم شيء واحد، وتصريحه بذلك ألَّب الفقهاء والشَّعب عليه، فاضطرَّ الملك الظاهر بن صلاح الدين حاكم حلب أن يتخلى عن حمايته، فقُتل عام «٥٨٦ه»، وهو في السادسة والثلاثين من عمره. ويرجع «الأب جومس نولجانس» أن علَّة لقب السُّهرَورْدي بالشيخ المقتول يرجع إلى أنه الاسم الذي تعوَّد عليه الناس فسمَّوه به، ولأنه لم يمت موتًا عاديًّا، وإنما مات مقتولًا، ولهذا يكون اللقب الذي تعود الناس تسميته به (المقتول) يشير إلى أن موته لم يُعتبر دليلًا على الإيمان الحقيقي الذي يتَّسم به الشهداء، وإنما مات كافرًا، مُدانًا من السلطات الدينية. وهنا يتَّضح أن السُّهرَورْدي إذا كان قد لُقِّب بالشيخ المقتول، فذلك لما تواتر عليه جمهور المؤرخين، أما تلاميذه وأتباعه فإنهم يُطلقون عليه لقب «الشهيد»؛ حيث اعتبروه شهيد الفكر والعقيدة الإشراقية.
29
751
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Eastern Logic of Suhrawardi the Martyr
Mahmoud Mohammed Ali
Arts & Humanities
Specialized
3,010,100
BAREC_Hindawi_41583092_001.txt
الموسيقى إن سألنا العلماء عن الموسيقى أجابونا بأنها فن تركيب الأصوات بطريقة تُشنِّف الأسماع، أو قالوا لنا: إنها فن الأصوات وارتباطها باللحن والوزن والانسجام. وإن سألنا الشعراء قالوا لنا: إن الموسيقيَّ لينظم بالأصوات كما ينظم الشاعر بالحروف، وإن سألنا علماء النفس البسيكولوجيين أجابونا بأنها: قوة فتَّانة ساحرة، وفنٌّ يُعبِّر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق، وأبلغ من البيان، وأقرب منهما تناولًا للأذهان. وقد اتفق علماء النفس على أن الكلام غير كافٍ للتعبير عن الشعور تعبيرًا تامًّا، وأن الموسيقى وحدها هي القادرة على سد هذا النقص. وإني أُورد مثالًا سهلًا يُبين لنا كيف تُعبر الموسيقى الإلقائية بلفظ واحد عن عدة عواطف. يُشنِّف المعنى أسماعنا فنريد أن نُعبر له عن إعجابنا فنقول له: الله! ونلفظها بنغمة مخصوصة، ونطيل المد الواقع قبل الهاء. وإذا فاجأت طفلك وهو متربع فوق التراب بثوبه الجديد الذي اشتريته بدينارين؛ فإنك تستنكر فعلته وتقول له: الله الله! بنغمة أخرى، وفتح هاء الأولى لوصلها بالثانية مع مد متوسط، وإن فاجأك أحد بخبر مُكدِّر قلتَ: الله! بنغمة مغايرة، ناطقًا اللام المشددة بقوة عظيمة وحاذفًا المد. الموسيقى نعمة من أجلِّ النعم، لا ينكر فضلها أحد؛ إذ هي غذاء الأفئدة، ومُهذِّبة النفوس، ومُفرِّجة الكروب، ومسكنة الآلام. يصفها الأطباء للعصبيين الذين يفتك بهم الأرق، فإذا سمعوها عند نومهم هدأت أعصابهم الثائرة، وجلبت لهم نعاسًا هنيئًا. وتُستعمل في بيماراستانات أوروبا، فيهرع إليها المجانين، ويَسْكُن اضطرابهم وهياجهم وقت التوقيع. لم يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل هيمن على الحيوان؛ إذ نشاهد أن الخيل والحمير وغيرها كثيرًا ما تجفل وقت شربها، فيُصفِّر لها راعيها فتطمئن وتشرب. ونرى الإبل حينما يتملكها النَّصَب، من وعثاء السفر وهجير البادية، فتتثاقل خطاها، وتميل أعناقها، فيَحدوها سائقها بشجي الحداء، فتنشط وتسرع السير وهي مُشْرئبَّة الأعناق متهللةً مستبشرةً. وللموسيقى تأثير عظيم في الثعابين والأفاعي، تلك الهوام الخبيثة التي جُبلت على الشرِّ والأذى؛ إذ يُشاهد في الهند أناسٌ يُعرفون بحواة الثعابين Charmeurs de serpents يعزفون بمزمار يعرف عندهم باسم «تومريل»، وهو خاص بالثعابين، ويُوقِّعون عليه ألحانًا خاصةً، فتهرع إليهم الثعابين من جُحُورها، وتقف بين أيديهم ذليلةً صاغرةً وديعةً متجردةً من ميولها الخبيثة، فيأخذها الطرب فتلعب وترقص على تلك النغمات. إنني أسرد لكم بعض ما قاله كبار علماء الموسيقى مصداقًا لقولي، وإظهارًا لشرفها الجم، وقال «بيتهوڤن» نابغة الموسيقيين: «الموسيقى وحيٌ أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة. إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى؛ عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان، ولا يستطيع وُلُوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.» وقال «ڤاجنر» المُوسيقِيُّ الطائرُ الصيت: «القلب هو الصوت، وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.» وقال غيره: «الموسيقى لغة غزيرة المعاني، خفية الأسرار، توقظ التقوى، وتخاطب الشعور مباشرةً بغير واسطة.» إن أنعمنا النظر في الفنون الجميلة؛ كالشعر والموسيقى والتصوير والحفر والتمثيل والرقص، لوجدنا أن الموسيقى أكثر تداولًا وانتشارًا حتى بين الأمم الوحشية، فأصبحت كأنها من لوازم الحياة. وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصًا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب» وُجدت في بلاد الكلدانيين، وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تللو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات. وقد قرر تاريخها أفاضل العلماء مثل «پواتييه» بثلاثين قرنًا قبل الميلاد، ولا مشاحَّة في أن الموسيقى أقدم من الشعر، وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها. ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم، ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها، وكشفا لنا فيها عالمًا مُفعمًا بالعجائب. وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يُبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات، وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات، ودورها في حركات المدنية،
33
696
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Eastern Music
Mohammed Kamel Hajjaj
Arts & Humanities
Specialized
3,010,101
BAREC_Hindawi_41624957_001.txt
قيمة من التراث تستحق البقاء هي حقيقة توشك أن تكون واضحةً بذاتها، ليست بحاجةٍ إلى برهانٍ يُقام على صوابها؛ لأنها حقيقة يُدركها الإنسان بفطرته إدراكًا مباشرًا أو تكاد؛ وأعني بها أن الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يُطالَبُ أن تجيء المُحاكاة قولًا بقولٍ وفعلًا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المُحال؛ فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتْها، لكنها لا تجيء مطابقةً لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها. وإن أصحاب المعرفة بدنيا النبات ليزعمون لنا بأنك لن تجد في ملايين الملايين من وحدات النبات، ورقتَين تطابق إحداهما الأخرى في كل أجزائها، وذلك هو سِر الحياة في شتى كائناتها: أن يكون لكلِّ كائنٍ على حدة فردية لا يُشاركه فيها كائن آخر، وحتى التوائم، فمهما بلغ التشابه بينهم، فيكفي لاختلافهم اختلاف البصمات. وإذا كان ذلك هو مبدأ الحياة في تصويرها للأحياء من أدناها إلى أعلاها، فكيف بالإنسان الذي جعله الله مسئولًا عما يفعل، لا يشفع له أن يكون قد جرى في فعله مجرى السالفين، وإذن فهي — كما قلتُ — حقيقة توشك أن تكون من البدائه الأولية؛ ألَّا يكون المقصود بمُحاكاة الأواخر للأوائل، مُحاكاة لا تدع مجالًا للإبداع وللإرادة الحُرة تختار لتقع عليها تبِعة اختيارها. فماذا نعني حين نوصي المُعاصرين بأن يترسَّموا في سيرهم خطو السالفين؟ ماذا نعني حين ندعو إلى إحياء تراث الآباء ليسري في حياتنا الحاضرة سريان الزيت في الزيتونة؟ ماذا نعني حين نلتمِس لأنفسنا طريقًا نجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟ ولقد يسهُل على بعضنا — أحيانًا — أن يُطالبوا الشاعر في يومنا بأن ينظِم على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون، أو أن يحكُم القاضي في الناس بما كان يحكُم به قضاة الأمس البعيد، ولكن ماذا عساهم أن يقولوا في علماء اليوم وبين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلُم به أحد من السابقين — ولست أريد بالسابقين أولئك الذين عاشوا منذ كذا قرنًا من الزمان، بل أريد من عاش منهم في القرن الماضي أو الذي سبقه؟ إن حياة الناس اليوم، ليست كلها مُركبات لفظية، صِيغت شعرًا أو نثرًا، حتى يسهل علينا أن نُطالب المعاصرين بأن يحركوا أقلامهم أو ألسنتهم بمثل ما تحركت عند القدماء ألسنة وأقلام، بل الحياة أبحاث علمية تجري في المعامل، والحياة مكنات تدور تروسُها وعجلاتها في المصانع، والحياة نظم في التعليم، ونظم في الإدارة، ونظم في إنتاج السلع وتوزيعها، والحياة استزراع للصحراء، بل هي استزراع للهواء وسطح الماء. وإن طريق القول ليطول بنا، لو أخذنا نسرد الأمثلة بالمئات، لنقول ماذا هي حياة اليوم، فكيف يجوز للوهم أن يتوهَّم بأن حياة العصر يمكن أن تُصَبَّ بحذافيرها في قوالب السالفين؟ ومع ذلك، فهنالك معنًى مفهوم — نبحث عنه لنبسُطه فيصير واضحًا بعد إبهام — إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياءً يسري به في جسم الحياة الحاضرة. وإن ذلك المعنى المُبهم ليأخُذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحوٍ يجعلها محاكاةً في «الاتجاه» لا في خطوات السير، مُحاكاة في «الموقف» لا مادة المشكلات وأساليب حلِّها، محاكاة في «النظرة» لا في تفصيلات ما يقع عليه البصر، محاكاة في أن يكون العربي الجديد مبدعًا لما هو أصيل، كما كان أسلافه يبدعون، دون أن تكون الثمرة المُستحدثة على يدي العربي الجديد هي نفسها الثمرة التي استحدثها العربي القديم، محاكاة في «القيم» التي يُقاس عليها ما يصح وما لا يصح، كما يأخُذ زيد من خالد مسطرته ليقيس عليها قطعة من قماش، بعد أن كان خالد لا يقيس عليها إلا خطوطًا على ورق؛ المسطرة واحدة، وأما المواد المقيسة فمُختلفات. وهكذا تكون حالنا إذا ما استعَرْنا من الأقدمين «قيمة» عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي نُدير عليه تلك القيمة المُستعارة. والقيم كثيرة، تلك التي كانت تنتظم حياة أسلافنا فكرًا وسلوكًا، والتي يمكن أن نستعيرها لحياتنا المُعاصرة، لتكون هي الحلقة الرابطة بين ماضٍ وحاضر، لكني سأقصر الحديث في هذا المقال على إحداها، فأتعقَّبها تحليلًا وتوضيحًا؛ لأُبيِّن كيف كانت منزلتها في فكر السلف، وكيف يمكن امتدادها إلى حياتنا الفكرية الراهنة، فتُصبح إحدى همزات الوصل التي تجعل من الحلقات سلسلةً متصلة أولًا بآخِر. والقيمة التي اخترتها لتكون مدار النظر، هي الطريقة الإدراكية التي أزعُم أنها كانت نهجًا مأثورًا عند آبائنا العرب والمُسلمين، فطريقتهم في التفكير — فيما أزعم — لم تكن تصعد من الشواهد الجزئية، والأحداث الجارية، إلى المبدأ العام الذي يَستقطبها، بل كانت تهبط من مبدأ يفرِض نفسه عليهم فرضًا؛ ليستخرجوا منه ما يستخرجونه من قواعد للفكر والسلوك. على أن مصادر ذلك الإلزام قد تتعدَّد، فإما أن يكون المبدأ المفروض مُلزِمًا لكونه وحيًا من السماء، أو إلهامًا بفكرة، أو حدسًا لها (بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حدس، وهو أن يكون الإدراك عيانًا عقليًّا مباشرًا) أو أن يكون مُلزِمًا؛ لأنه تقليد راسخ، أو عُرف بين الناس تواترت به الأعوام. وسنضرب للقارئ أمثلةً من مجالات التفكير على اختلافها؛ ليرى كيف كانت الحركة هابطةً من العام إلى الخاص، لا صاعدةً من الخاص إلى العام، لا فرق بين أن يكون المجال مجال علم رياضي أو طبيعي، أو أن يكون مجال أدبٍ أو فن، أو مجال لغة أو تشريع، ففي جميع الحالات كان العقل العربي يلمع أولًا بالمبدأ العام، ثم يتدرَّج منه نزولًا إلى تفصيلات التطبيق.
31
902
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Values from Heritage
Zaki Naguib Mahmoud
Arts & Humanities
Specialized
3,010,102
BAREC_Hindawi_41724208_001.txt
مقدمة من الطبيعي أن تكون الصحة الشغل الشاغل لنا جميعًا، وأن تكون الموضوع المسيطر على وسائل الإعلام طوال الوقت. تتصدر الصفحات الأولى للصحف الأخبار الخاصة بحالات تفشي الأوبئة مثل وباء الأنفلونزا الأخير، الذي يصيب بلدانًا عديدة في آن واحد. وبجانب الأوبئة، تتواتر بصورة دورية أنباء عن الاكتشافات الجديدة للملوثات الخطيرة في البيئة، والمواد الواقية من السرطان التي تحتوي عليها الأطعمة المختلفة، والجينات التي تزيد من استعداد الشخص للإصابة بالأمراض أو العقاقير التي تعد بالقضاء عليها. وتعتمد أهميتها الفعلية لصحة الإنسان بشكل جوهري على تراكم الأدلة الواردة من الدراسات، والموجهة من خلال مبادئ علم الأوبئة، الذي يراقب عن كثب ويقيم ما يقع في الجماعات والمجتمعات السكانية الإنسانية. وتجمع تلك الدراسات بين سمتين؛ فهي تستكشف أغوار الصحة والمرض مستعينةً بأدوات الأبحاث الطبية، التي تبدأ من سجلات التاريخ المرضي لقياسات الطول والوزن وضغط الدم وحتى الإجراءات والاختبارات التشخيصية بمختلف أنواعها. وهي تتعرض في الوقت ذاته لأشخاص يعيشون في مجتمع مُعرَّض لكمٍّ كبير من المؤثرات، ولا يمكن إجراؤها وفق اشتراطات التجارب المعملية المنعزلة والمضبوطة. بدلًا من ذلك، يتطلب تصميمها وإجراؤها وتحليلها استخدام الطرق الخاصة بعلم الإحصاء والعلوم الاجتماعية مثل الديموغرافيا، وهو المعني بالدراسة الكمية للمجتمعات السكانية الإنسانية. وبدون فهم واضح لتلك الطبيعة المركبة لعلم الأوبئة ومنطقه من زاوية الاحتمالات والإحصائيات، يكون من العسير تقدير نقاط القوة والضعف للأدلة العلمية المتعلقة بالطب والصحة العامة التي يقوم علم الأوبئة على التوصل إليها. ولا يقتصر التقييم الضبابي الذي يصل أحيانًا إلى حد القراءة الخاطئة الصريحة لعلم الأوبئة على العامة وحسب؛ على سبيل المثال، في المناقشات التي تدور حول المخاطر أو المزايا، سواء أكانت واقعية أم خيالية، لإحدى طرق علاج مرض ما. حسب خبرتي، فإن الشيء نفسه ينطبق على الصحفيين، وأعضاء لجان الأخلاقيات، ومسئولي الرعاية الصحية، وواضعي السياسات الصحية، بل وحتى الخبراء في المجالات الأخرى غير الأوبئة والمسئولين عن تقييم المشاريع البحثية وتمويلها. إن الهدف من هذا الكتاب الذي يأتي ضمن سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا» هو تعريف القارئ بالفارق بين حكاية وبائية — سواء أكانت تحكي عن حبَّة سحرية أم عن فيروس مرعب — وبين الأدلة الوبائية الصحيحة من الناحية العلمية. لا يقوم هذا الفارق على مقدار الأهمية العملية أو الإثارة التي ربما تتمتع بها قصة الحبة أو الفيروس، وإنما يعتمد فحسب على مدى جودة تطبيق الأساليب الوبائية التي اعتمدت عليها. جدير بالذكر أن أساليب علم الأوبئة وأسسه ذات طبيعة جامدة قليلًا، لكنني حاولت هنا أن أعطي لمحة عن طبيعة المجال دون عرض للصيغ والرموز الرياضية، فقط بعض المعادلات البسيطة. وحتى أضع علم الأوبئة في نصابه الصحيح، عرضت الخطوط العريضة لأساليبه وأسسه واستخداماته في الطب والصحة العامة على خلفية اهتماماتنا اليوم بالمسائل الأخلاقية والعدالة الاجتماعية في موضوع الصحة. أتوجه بالشكر للعديد من زملائي وطلابي — مصادر المعرفة التي لا أفتأ أستقي منها — الذين جعلوا خروج مؤلَّفي هذا للنور أمرًا ممكنًا. لقد كان للتعاون والكفاءة اللذين أبداهما القائمون على مطبعة جامعة أكسفورد دور كبير في تسهيل مهمتي. وإني لمدين بشكر شخصي أوجهه إلى لاثا مينون لمؤازرتها القوية ونصائحها المستنيرة طيلة مراحل إعداد هذا الكتاب، وكذا لشارون ويلان، المُراجِعة اللغوية الصبورة التي راجعت الكتاب. الفصل الأول التعريف بعلم الأوبئة في الثامن والعشرين من شهر فبراير عام ٢٠٠٣، طلب المستشفى الفرنسي بهانوي في فيتنام — وهو مستشفى خاص يحوي أقل من ٦٠ سريرًا — مشورة مكتب منظمة الصحة العالمية في هانوي. ففي السادس والعشرين من فبراير، دخل أحد المسافرين على درجة رجال الأعمال — وكان قادمًا من هونج كونج — المستشفى لمعاناته من أعراض تنفسية تشبه أعراض الأنفلونزا التي كانت قد بدأت قبل ذلك بثلاثة أيام. وأجاب دكتور كارلو أورباني — المسئول الطبي بمنظمة الصحة العالمية، وعالِم الأوبئة المتخصص في الأمراض المعدية، والعضو السابق بمنظمة «أطباء بلا حدود» — على المكالمة الهاتفية. وفي خلال أيام، مرض ثلاثة أشخاص آخرون وكانوا يعانون من الأعراض نفسها؛ مما جعل أورباني يدرك مدى شراسة المرض وقدرته العالية على نقل عدواه. لقد بدا أشبه بالأنفلونزا، غير أنه لم يكن كذلك. وفي أوائل شهر مارس تُوفِّي المريض الأول، وبدأت حالات مشابهة تظهر في هونج كونج وفيما عداها من المناطق. وأصر دكتور أورباني في شجاعة على العمل وسط بيئة كان يعلم أنها شديدة الخطورة. وبعد إطلاق تحذير عالمي عبر شبكة المراقبة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، سقط أورباني مريضًا أثناء رحلة سفر إلى بانكوك وتوفي يوم ٢٩ مارس. وفي تلك الفترة كانت أعداد من الحالات الجديدة قد بدأت تظهر تباعًا، وكان بعضها مسببًا للوفاة، ولم تعد مقتصرة على العاملين بالمستشفى الفرنسي، وإنما عمت أنحاء هونج كونج وتايوان وسنغافورة والصين وكندا. وقع على عاتق إدارة الصحة العامة مهمتان مترابطتان، هما: بناء شبكة عالمية للطوارئ لاحتواء المرض، وفي الوقت نفسه بحث السبل التي تنتشر العدوى بواسطتها بهدف التحديد الدقيق لمنشئها واكتشاف الكيفية التي انتشر بها العامل المسبب للمرض، الذي كان في أغلب الظن ميكروبًا. واستغرق الأمر أربعة أشهر حتى تم تحديد العامل المسبب للمرض الجديد، الذي كان واحدًا من فيروسات عائلة كورونا الفيروسية الذي انتقل ليصيب الإنسان آتيًا من الحيوانات البرية الصغيرة التي يجري تداولها وتناولها كطعام في مقاطعة جوانجدونج الصينية. بحلول يوليو عام ٢٠٠٣، تم وقف الانتشار العالمي للفيروس، الذي كان يحدث في الأساس عبر المسافرين بالطائرات المصابين بالعدوى. وتوقف تفشي المرض الجديد، الذي أُطلِق عليه اسم «سارس» (وهو اختصار لعبارة بالإنجليزية تعني المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) عند رقم يقترب من ٨٠٠٠ حالة مرضية و٨٠٠ حالة وفاة. كان من الممكن أن تكون الخسارة أكثر فداحة بمراحل لولا حدوث تعاون دولي جدير بالإعجاب للسيطرة على انتشار الفيروس عن طريق عزل الحالات والسيطرة على أسواق الحيوانات البرية.
39
934
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Epidemiology
Rodolfo Saracci
STEM
Specialized
3,010,104
BAREC_Hindawi_42047964_001.txt
مقدمة المأساة الكبرى وضعْتُ هذه الرواية في الحرب الحاضرة، وجعلتها على أسلوب الروايات التشخيصية؛ لكي أجعل لأشخاصها في كلامهم وأفعالهم صُوَرًا خاصةً تدل عليهم، وتنطق عنهم بلسانهم؛ لتكون العبرة من ذلك في معرض الفكاهة أوقعَ في النفس. وقسَّمت الكلام فيها قسمين: قسم حقيقي واقع؛ وصفت فيه مقدِّمات الحرب والأعمال التي جرت فيها، وقسم تخيلي منتظر؛ جعلته توطئةً «للمحاكمة» المقصودة من كل هذه الرواية، والتي تظل صحيحةً مهما تكن النتيجة، لمثيريها أو عليهم، عسى أن تنجلي هذه الأمور الاجتماعية البسيطة للجمهور، فيصون نفسه ومصالحه من عبث العابثين، وينزِّه مداركه عن أن يكون كالآلة العمياء في أيدي السفاحين المخرِّبين؛ لقضاء أغراض لهم سافلة في غالب الأحيان، كما هي الحال في هذه الحرب الشنيعة التي تضحِّي الناس فيها بالملايين لأحلام ومطامع لا يجوز أن تصدر في هذا العصر خاصة إلا من مُصدَّعين مجانين، ولا يقبلها إلا المغفَّلون. ولا غرو؛ فجنون العظمة والغرور كلاهما جنون، كما هو شأن إمبراطور الألمان اليوم متعاظمًا بعراقة محتِدِه، وبسطة مُلْكه، وقوة أُمَّته، وهذا أقل عيوب الأُسَر المالكة، وكما هو شأن أُمَّته مغترةً بما وصلت إليه من النجاح الباهر في العلم والصناعة والتجارة في هذا الوقت القصير، فأصابها من ذلك خُمار كخُمار مُحدَثي شاربي الخمرة، وللمُحدَثين في كل شيء — حتى في العلم — خُمار أيضًا؛ فانقادت بحُكم التربية المصنوعة إلى مطامع إمبراطورها الجنونية، وصبَّت الويلات على العالم غير حاسبة للأضرار التي تلحق بها من ذلك حسابًا، كأنها فعلت كل ذلك عن غير رَوِيَّة، أو عن روية غير ناضجة، أو هي مختمرة اختمارًا فاسدًا، فأتت أعمالًا تُحاسَب عليها حتى الأُمم الجاهلة، ولا تليق بأُمَّة مثلها سَمَت سُموَّها في العلم والحضارة، ولما فعلت ذلك لو أنها شاءَت أن تدرك مبادئ علم الاجتماع الطبيعي كما ينبغي أن يكون. فأنا توخيت من هذه الرواية أغراضًا أربعة: (١) أن أصفَ وصفًا بسيكولوجيًّا (أخلاقيًّا) الأشخاص الذين ذُكروا فيها ينطبق على أخلاقهم ومطامعهم وأحلامهم ومراميهم على ما فيها من الغرابة والحمق اليوم؛ للتنفير منها. (٢) أن أصفَ الوقائع — بالإشارة إليها — وصفًا تقريريًّا في الجانب الحاصل منها، ويكاد يكون نتيجةً لازمةً في الباقي غير الحاصل، بناءً على أنه في حالة الاجتماع الحاضرة لا يجوز أن تصح نتيجة أخرى، مهما تقلَّبت أحوال الحرب، ومهما طال أجلها. (٣) أن أشيرَ إلى بعض انتقادات في أمور اجتماعية كائنة؛ لأنها كانت لا تهضمها مَعِدة الاجتماع الراقي. (٤) أن أبحث بحثًا سوسيولوجيًّا (اجتماعيًّا) فيما يجب أن تكون نسبة الأُمم بعضها إلى بعض، ولا سيَّما الراقية بناءً على ما هي صائرة إليه، طبقًا لمرامي العلم الطبيعي الصحيح المفهوم كما هو، لا كما يؤوِّله أصحاب الغرض، وأصحاب النظر القصير. فإذا كنت لم أبلغ غاية الإجادة في الوضع كرواية تُمثَّل على المراسح؛ فأنا لم أنظر فيها إلى ذلك بقَدْر ما نظرت إلى الغاية التي قصدتُها منها، وهي القضاء على ما في العقول من السخائم، وتأييد مصلحة الاجتماع بمقاومة ما فيه من النظامات الفاسدة التي لا تتفق مطلقًا مع هذه المصلحة، ولا سيَّما في هذا العصر الذي ينبغي فيه على الأُمم الراقية أن تكون متضامنةً؛ للبلوغ بالاجتماع إلى الغاية القصوى من العمران، فلقد نظرت إلى جسم الاجتماع كما ينظر الطبيب إلى الجسم الحيِّ؛ ليتعهد — كما يتعهد هذا الجسم في صحته، وفي مرضه — بتوفير الأعضاء الصحيحة، ومداواة الأعضاء المريضة بما يصلحها — إن أمكن — وإلَّا فبالقطع أو البتر إذا كانت لا تُرجى؛ لئلا يمتدَّ فسادها إلى المجموع، لا أن تُعكَس الآية ويُقوَّض الصحيح النافع من الأُمم، ويُوالى الفاسد الضار من الدول التي لا تُرجى.
20
610
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Great Tragedy
Shibli Shmeil
Arts & Humanities
Specialized
3,010,105
BAREC_Hindawi_42580475_001.txt
مقدمة يُحكِم معظم الناس لصق الأظرف قبل إرسال خطاباتهم، وإذا سُئِلوا عن سبب ذلك، فستأتي بعض الإجابات الفورية من قبيل: «لا أعرف حقيقةً» و«مجرد عادة» و«لِمَ لا؟» و«لأن الجميع يفعلون ذلك.» قد تشمل الإجابات الأخرى الأكثر تعقُّلًا إجاباتٍ من قبيل: «لمنع الخطاب من السقوط»، أو «لمنع الآخرين من قراءة الخطاب». حتى في حال لم تحتوِ الخطابات على معلومات حساسة أو شخصية جدًّا، يرى الكثيرون منا أن هناك خصوصية في محتويات مراسلاتنا الشخصية، وأن إحكام لصق الأظرف يمنع اطِّلاع الآخرين عليها باستثناء متلقي الرسائل المقصود. إذا أرسلنا خطاباتنا في أظرفٍ غير مغلقة فسيستطيع أي شخص يحصل على الظرف أن يقرأ محتويات الرسالة. ومسألة ما إذا كانوا سيَقرءُون الرسائل بالفعل أم لا قضية أخرى. المهم أنه ما من شكٍّ في أنهم سيتمكَّنون من قراءتها إنْ هم أرادوا ذلك. بالإضافة إلى ذلك، إذا استبدلوا الرسالة الموجودة داخل الظرف، فلن نعرف أنهم فعلوا ذلك. يعتبر استخدام البريد الإلكتروني بالنسبة إلى الكثيرين حاليًّا بديلًا لإرسال الخطابات من خلال البريد العادي. والبريد الإلكتروني وسيلة سريعة للتواصل لكِنْ بطبيعة الحال لا توجد أظرفٌ لحماية الرسائل، بل يُقال عادةً إن إرسال الرسائل عبر البريد الإلكتروني يشبه إرسال الخطابات عبر البريد العادي دون أظرف. بداهةً، من يُرِد إرسال رسائل سرية أو مجرد رسائل شخصية عبر البريد الإلكتروني، فسيحتاج إلى وسيلة أخرى لحمايتها. تتمثل إحدى هذه الوسائل في استخدام التشفير وتشفير الرسائل. إذا وقعت رسالة مُشفَّرة في أيدي أشخاص غير المتلقين المعنيِّين، يجب أن تبدو هذه الرسالة غير مفهومة. لم ينتشر استخدام التشفير لحماية رسائل البريد الإلكتروني على نطاق واسع بعدُ، بَيْدَ أنَّ ذلك يحدث حاليًّا، وعلى الأرجح سيزداد انتشارُه اتساعًا. في الواقع، تقدَّمت مجموعة من أعضاء البرلمان الأوروبي بتوصيةٍ في مايو ٢٠٠١ بضرورة تشفير جميع مستخدمي أجهزة الكمبيوتر في أوروبا لرسائلهم الإلكترونية بغرض «تفادي تجسُّس شبكة التنصُّت البريطانية-الأمريكية». التشفير علم راسخ كان له أثرٌ تاريخيٌّ كبيرٌ لأكثر من ألفَيْ عام. جرت العادة أن الحكومات والمؤسسات العسكرية كانت بمنزلة المستخدمين الرئيسيين له، على الرغم من ضرورة الأخذ في الاعتبار أن كتاب فاتسيايانا «كاما سُترا» يحتوي على توصية للنساء بدراسة «فن فهم الكتابة المشفَّرة» (توجد جميع البيانات الكاملة للأعمال المُستشهَد بها في هذا الكتاب في قسمَيِ المراجع والقراءة الإضافية). وتأثير علم التشفير على التاريخ موثَّقٌ توثيقًا جيدًا. ولا شكَّ في أن المرجع الأساسي حول التشفير هو كتاب «فاكُّو الشفرات» لديفيد كان. يقع هذا الكتاب في أكثر من ألف صفحة ونُشِر للمرة الأولى في عام ١٩٦٧. وُصِف الكتاب بأنه «أول كتاب شامل يروي تاريخ الاتصالات السرية»، وبأنه كتاب ممتع للغاية. في وقت قريب، ألَّف سايمون سينج كتابًا أكثر إيجازًا بعنوان «كتاب الشفرة»، وهو كتاب مبسَّط يعرض بعضًا من أهم الأحداث التاريخية. وفي حين أن هذا الكتاب لا يعتبر كتابًا شاملًا ككتابِ كان، فإنه يهدف إلى إثارة اهتمام القارئ العادي بالموضوع. كلا الكتابين رائع ونوصي بشدة بقراءتهما. لا يقتصر الفضل في نشر وزيادة الوعي العام بالأهمية التاريخية لعلم التشفير على المؤلفات، بل يمتد إلى عدد من المتاحف والأماكن التاريخية حيث تُعرض ماكينات التشفير القديمة. يأتي على رأس قائمة هذه الأماكن حديقة بلتشلي في إنجلترا التي يعتبرها كثيرون موطنَ علم التشفير والحوسبة الحديثة. في هذا المكان تمكَّن آلان تورينج وفريقه من فكِّ شفرة إنيجما، وحُفِظت بيئة عملهم كأثرٍ تاريخيٍّ لإنجازات تورينج وفريقه المدهشة. أظهر الكثير من الأفلام الحديثة عن الحرب العالمية الثانية أهميةَ فكِّ الشفرة. تتمثل المحطات التاريخية التي تلقَّت اهتمامًا خاصًّا في أثر فكِّ شفرة إنيجما وفكِّ شفرة الرسائل المشفَّرة قبل الهجوم على ميناء بيرل هاربور مباشرةً. خُصِّص أيضًا عددٌ من المسلسلات التليفزيونية لتناول الموضوع.
34
626
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Cryptography
Fred Piper and Sean Murphy
STEM
Specialized
3,010,106
BAREC_Hindawi_46035041_001.txt
الكفاح من أجل البقاء تمهيد: الموقف بعد المناداة بالولاية أزاح إقلاع القبطان باشا من الإسكندرية في أكتوبر ١٨٠٥ حملًا ثقيلًا عن صدر محمد علي، عندما كان وجوده يهدد بتألب أعداء الباشا عليه في اتحاد عام، يسبغ عليه تزعم القبطان باشا — وهو ممثل السلطان العثماني صاحب السيادة على هذه البلاد — الصبغة الشرعية التي تزيده قوة وتوثقًا، فآذن استبعاد هذا العامل من الميدان، وتثبيت محمد علي في ولايته بانحصار التنازع على السلطة في الفترة التالية مباشرة بين باشا القاهرة وبين البكوات المماليك، وكان نزاعًا مريرًا؛ لأن محمد علي كان قد صح عزمه منذ أن دان له الحكم في مايو على الاستقرار في ولايته وعدم مبارحة البلاد، فبعث في طلب ولديه إبراهيم وطوسون، ووصل هذان إلى بولاق في ٢٧ أغسطس ١٨٠٥، وأصعد الباشا ابنه الأكبر إبراهيم إلى القلعة في اليوم التالي، وأجلسه بها، ثم لم يلبث أن توافد عليه مواطنوه يطلبون خدمته والعمل معه وتحت لوائه، وعهد إليهم الباشا بشتى الأعمال. وكان المماليك من ناحيتهم لا يقلون إصرارًا عنه على المضي في جهودهم من أجل انتزاع حكومة القاهرة منه، واسترجاع سلطانهم المفقود في بلادٍ عدُّوها ملكًا خالصًا لهم يقتسمون أرزاقها فيما بينهم، ولا يسمحون لطوائف الأجناد من أرنئود ودلاتية وغيرهم ممن اعتبروهم غرباء عنها بأن يشاركوهم في استغلالها. ولقد استمر المماليك مصدر أشد الأخطار التي تعرضت لها حكومة محمد علي لا في هذه الفترة فحسب، بل وطوال المدة التي احتفظوا فيما بمظاهر شوكتهم قبل أن يقضي عليهم القضاء المبرم في مذبحة القلعة المعروفة. لقد تضافرت عوامل عدة على إضعاف البكوات المماليك، كان أهمها نقص قوة فرسانهم عدتهم الكبرى في الحروب، ووهن العلاقة التي ربطت بين «الأساتذة» و«الأتباع»، والأولون هم البكوات، منهم الحكام الصناجق (أو السناجق، جمع سنجق وهو البيرق شارة الإمارة والبكوية)، والآخرون هم المماليك الذين اختص كل واحد من الأساتذة، أو السادة الأمراء بعدد معين منهم، وقد عمد هؤلاء البكوات، أو الأمراء إلى الاستكثار من مماليكهم؛ بشرائهم الرقيق من أسوان في جورجيا والقفقاز خصوصًا، ولا يلبثون أن يرفعوا من شاءوا منهم عند اكتمال رجولتهم إلى رتبة البكوية والإمارة، ثم وهن العلاقة بين هؤلاء المماليك الذين أمرهم أساتذتهم وأسيادهم فصاروا «خشداشين» متساوين في الحقوق والتبعات، يربط بينهم الولاء لأستاذهم الأكبر سيد البيت الذي ينتمون إليه، ويسود وجوبًا الوئام والاتحاد بينهم بحكم هذه الصلة، حتى إذا خرج أحدهم على ما جرى به العرف عُدَّ ذلك إثمًا عظيمًا. وكان بيت السيد أو الأستاذ بمثابة المدرسة التي يتعلم فيها مماليكه الفروسية وفنون القتال، ويتدربون على الشجاعة والبسالة، ويلقنون المبادئ الأخلاقية التي أقرها النظام المملوكي، وأهمها طاعة التابع لأستاذه، والولاء له حتى يسترشدوا بها في حياتهم الخاصة والعامة على سنن يحفظ لطبقتهم المنعزلة في نظامها عن سائر طوائف وطبقات المجتمع تكتلها وكيانها. وكان عدد البكوات أو الصناجق في العهد العثماني الأول أربعًا وعشرين، ثم أخذ ينخفض تارة ويرتفع أخرى ليصل إلى هذا الرقم، حتى إذا كان عهد الحملة الفرنسية نقص عدد البكوات، فلم يزيدوا عند خروج الفرنسيين من مصر على الاثني عشر «بك»، ثم نقص عدد مماليكهم، من الثمانية آلاف أو الاثني عشر ألفًا على أقصى تقدير إلى حوالي الألف أو الألف والخمسمائة فارس أو مملوك وبخاصة عندما أفقدهم النضال والتطاحن المستمر من أجل الاستحواذ على السلطة في القاهرة بعد الحملة الفرنسية الكثير من أعدادهم، وتعذَّر على البكوات أن يسدوا هذه الثغرة التي حدثت في صفوف مماليكهم؛ لأن الباب العالي لم يلبث أن بادر — عقب دخول البلاد مرة أخرى في حوزته — بإصدار الأوامر المشددة بوضع العراقيل في أسواق الرقيق التي يجلب منها البكوات مماليكهم وإيصادها دونهم، حتى صار هؤلاء يشْكون من هذا الإجراء شكوى مُرة، ويحاولون الاستعاضة عن المماليك الرقيق بمن صار ينضم إلى صفوفهم من العرب البدو واليونانيين والأتراك، ولم يكن الدافع لالتحاق هؤلاء بخدمة البكوات سوى استمرائهم لحياة السلب والنهب التي صار يعيشها البكوات أنفسهم في تنقلهم من إقليم إلى آخر منذ أن حُرموا نعمة الاستقرار في الحكم التي تمتعوا بها قبل مجيء الفرنسيين من ناحية والتي فقدوها نهائيًّا منذ أن طُردت حكومتهم من القاهرة على يد محمد علي، فلم يُفِدهم انضمام العرب واليونانيين والأتراك إليهم سوى رفع قوَّتهم العددية، بل أضعف من ناحية أخرى قوَّتهم المعنوية، أو بالأحرى زاد من إضعافها ووهنها، وذلك أن الانحلال الذي أخذ يدب في صفوف المماليك كان انحلالًا عامًّا شاملًا.
20
721
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Egypt in the Early 19th Century 1801–1811 (Part Two)
Mohammed Fouad Shukri
Social Sciences
Specialized
3,010,107
BAREC_Hindawi_46069628_001.txt
في الجزيرة القديمة قبل الإسلام أحوال المدالث الفراتية الجغرافية ومقابلتها بمدالث١ مصر وبنجاب (١) الجزيرة القديمة المراد بالجزيرة عند العرب: الأرض التي تحيط بها المياه من كل جانب أو تكاد، فهي تنطبق على ما يُسمَّى بالجزيرة حقيقة، وعلى ما يُسمى بشبه الجزيرة أيضًا. ولم ينظر العرب إلى نوعية هذا الماء المحدق بتلك الأرض، فسواء كان عندهم ذلك الماء ماء بحرٍ أو ماء نهرٍ؛ ولهذا قد أطلقوا منذ القديم اسم الجزيرة على ما يسميه الإفرنج «ميسو بوتاميا»؛ أي بين النهرين. وهذا الذي نريده هنا بلفظ الجزيرة، فهي الديار الممتدة، من هضاب أرمينية إلى مصب شط العرب. (٢) أحوال المدالث الفراتية الجغرافية تعالَ نركب طيارة تُحلق بنا في الجو، ونذهب بها إلى المحل الذي ينبع منه الفراتان: دجلة، والفرات، وفي بعض المواضع منه يبقى الثلج على مدار السنة. أما ماء الفرات فيتجمع من واديَي مراد وقرمصو، فإذا جمع بينهما هرب بمياههما إلى الشرق، ثم يفرُّ بها إلى الغرب دافعًا إيَّاها في مختنقات جبال وعرة وأودية ضيقة، فإذا جاوز ملطية قفز قفزة فُجائية كأنه يحاول الفرار إلى الجنوب الغربي، فيخدِّس لنفسه معبرًا في الطورس، طالبًا بحر الروم الذي يميل إليه كل الميل، ثم كمن يرعوي عن غيه يعود إلى الجنوب الشرقي في جهة خليج فارس. أما دجلة فإن مخرج رأسه من «جوار مراد»، لكنه يجري في الغرب إلى الشرق في جهة مخالفة لجهة شقيقه، فإذا خرج من الجبال يميل إلى الجنوب، ويحاول أن يدنو من أخيه الفرات رويدًا رويدًا، فإذا صار في جوار بغداد أخذ كل واحد منهما يحاول مصافحة أخيه كأن الواحد يقول لشقيقه: تعالَ نجتمع في هذه المدينة القديمة ونتعاهد على ألا نتفارق، فيكاد كل واحد منهما يتفق مع الآخر؛ إذ لا يفصل الواحد عن الآخر إلا مسافة بضع ساعات في سهلٍ مطمئن، وكأن عدوًّا سمع ما ينجم من اتفاقهما إذا ما اجتمعا في بغداد، جاء فوشى بالواحد بعد الآخر إلى صاحبه وفرَّق بينهما، فأخذ كل منهما يسير على موازاة شقيقه وهو ينظر إليه شزرًا مسافة ٢٠ إلى ٣٠ ميلًا، ثم يعودان فيفترقان ولا يتفقان إلا بعد أن ينحدرا نحو ثمانين ساعة؛ إذ يتحققان أن الفراق لا يُفضي إلا إلى هلاك كل منهما في الفلوات المحرقة، فيتصافحان عند القرنة، ومن هناك ينحدران مشتركي القوى ليصُبَّا في خليج فارس. والفرات يرحب من جهة يساره عند وسط مجراه بزائرين، وهما: البليخ، والخابور، ومنذ اتصل به الخابور إلى أن اجتمع بأخيه لا يزوره أحد، أما دجلة فإن زوَّاره أكثر من ذلك، فإن الزابين الأعلى والأسفل يأتيان فيرويانه بمياههما، ثم يجاريهما في هداياهما عظيم وديالي، وكل من الفراتين تجري فيهما السفن في أغلب قسم من منحدرهما، فالسفن تجري في الفرات من سميساط، وفي دجلة من الموصل، وعند ذوبان الثلوج — ويكون ذلك في أوائل نيسان أو أواسطه — يغتاظ الفراتان، فيرغوان ويزبدان ويحبلان غصبًا من الربيع؛ فيطفحان بمياههما ويطغيان على ما جاورهما من الأرضين، فاعلين ما يفعل النيل في ديار مصر، ولا يعودان إلى مألوف مجراهما إلا في أواخر أيَّار أو أوائل حزيران، عندما يبتدئ الحر بكسر شوكة هذين الشقيقين المستبدَّين.
28
530
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Summary of the History of Iraq
Anastas Mary Al-Karmali
Social Sciences
Specialized
3,010,108
BAREC_Hindawi_46319638_001.txt
الصوت في تولّد الصوت الصوت هو ما يصدر عن كل حركة اهتزازية لجسم رنان تحدث في الهواء ارتجاجًا يسير فيه إلى بعد ما — فمثلا إذا طرق بجسم صلب على كوبة من البللور لأجل حدوث صوت ومست حافة هذه الكوبة بالإصبع مسًا خفيفًا، حصل فيه رجات سريعة جدًا تدل على اهتزاز الكوبة — وإذا ضغط بالإصبع على الحافة الملموسة لإيقاف حركتها الاهتزازية شوهد انقطاع الصوت في الحال — ولبيان طبيعة الحركات الاهتزازية التي تحصل في الأجسام الرنانة عندما تولد صوتًا تثبت صفيحة من الصلب أ ب في منجلة حـ (شكل ١-١) ثم تبعد عن وضعها الذي تكون فيه في حالة موازنة بأن تجعل في الموضع أ د مثلاً وتترك فيشاهد عند ذلك أنها تعود إلى وضعها الأصلي، إلا أنها لا تثبت فيه، بل تتعداه إلى أن تصير في وضع أ هـ مماثل للوضع أ د ثم تعود بالثاني إلى أ د وهكذا — وكل حركة تامة من هذه الحركات مكونة من ذهاب وإياب يقال لها: ذبذبة، وإذا أعيدت التجربة السابقة جملة مرات بعد تقصير الجزء المتذبذب في كل منها، شوهد أن سرعة التذبذب تزداد بتقصير الجزء المتذبذب إلى أن تصير حركة الذهاب والإياب سريعة جدًا، حتى إنه لا يمكن مشاهدتها وعند ذلك يرى أن الطرف الخالص من الصفيحة مفرطح؛ وذلك لكون العين تراه وهو شاغل أوضاعه المختلفة في آن واحد، وأخيرًا فعندما تصير سرعة التذبذب عظيمة يرى أن الصفيحة تولد صوتًا ما دام حاصلاً فيها التذبذب. شكل ١-١ ويمكن بيان ذلك أيضًا بواسطة وتر مشدود، فإذا أبعد عن وضعه الذي يكون في حالة موازنة وترك شوهد فيه تفرطح، خصوصًا في جزئه المتوسط، وإذا كان مشدودًا شدًا قويًّا فيسمع منه صوت عندما يذبذب؛ وذلك لأن سرعة تذبذبه عند ذلك تكون عظيمة. والأجسام الصلبة المجوفة إذا نفر عليها يحدث بذلك صوت عظيم، ذو رنين ويستمر زمنًا لتردد الهواء في جوفها وتموجه فيها؛ وكذلك البوقات الطوال يخرج منها صوت عظيم؛ بسبب تموج الهواء في مسافة طولها. وكذلك صوت الإنسان والحيوان يحدث عند تصادم الهواء الخارج من الرئتين في الحنجرة. الفرق بين الشدة والارتفاع والنغمة إذا عدنا إلى التجربة السالفة وأعطينا إلى الصفيحة طولاً بحيث تولد صوتًا عند تذبذب، وأبعدناها عن وضعها الأصلي قليلاً أو كثيرًا لتذبذب شوهد أن الصوت الذي تولده يكون أقوى، أي: أشد كلما كان اتساع الذبذبة المقابلة له أعظم ولو أن طبيعة الصوت المتولد تكون واحدة، ومن هنا يرى أنه يمكن أن يقال إن شدة الصوت تتغير بتغير اتساع الذبذبة المقابلة له. وزيادة على ذلك، فقد ظهر لنا فيما سبق أنه بقصر الجزء المتذبذب تزداد سرعة التذبذب، وتزداد أيضًا تبعًا لها حدة الصوت، وبذلك يرى أنه يمكن أن يقال إن حدة الصوت أي ارتفاعه تزداد بازدياد عدد الذبذبات التي تحمل في زمن واحد، وأخيرًا فتوجد أصوات شدتها واحدة وارتفاعها واحد وتختلف عن بعضها بصفة ثالثة تسمى بالنغمة، وهي التي تسمح لنا بتمييز أصوات أنواع الآلات الموسيقية عن بعضها، كذا هي التي تسمح لنا بتمييز أصوات الأشخاص المختلفة — والنغمة ناتجة من كون كل صوت تولده آلة مخصوصة يكون دائمًا مصحوبًا بجملة أصوات أخرى خاصة بتلك الآلة دون غيرها.
23
516
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Book of Eastern Music
Musician Mohammed Kamel Al-Khalai
Arts & Humanities
Specialized
3,010,109
BAREC_Hindawi_46426308_001.txt
الفصل الأول في عصر الانحلال الأول، وعرض شئون الخلافة يُعتبر عهد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (٢٣٢–٢٤٧ه/٨٤٧–٨٦١م) بداية دور الانحلال في الدولة العباسية؛ فقد كان ضعيف الإرادة، محدود الفكر، يكره البحث والمناظرة، ويميل إلى التقليد والتسييب، وحب اللعب واللهو، والحياة اللينة والمضاحك، هذا إلى ما كان عليه من سذاجةٍ وتسييب لأمور الدولة، والاعتماد في إدارتها على كبار القادة الأتراك، الذين قوي سلطانهم في عهده، وامتد نفوذهم إلى كل مرافق الدولة، حتى بلغ بهم أن تآمروا عليه مع ولي عهده محمد المنتصر، فقتلوه شر قتلة، وقد تولى كِبَر ذلك بغا الصغير المعروف بالشرابي ووصيف وباغر ففتكوا به، وولوا ابنه محمدًا المنتصر صبيحة مقتل أبيه، وقد أراد الخليفة الجديد أن يحافظ على عرشه، ولكن جهوده ذهبت سدًى، ولم يَطُل عهده أكثر من ستة أشهر، سمَّه المتغلبون الأتراك بعدها، ثم أجمع أمر قادتهم على ألا يولوا أحدًا من أولاد المتوكل لئلا يطالبهم بدم أبيه، فولوا المستعين أحمد بن المعتصم (سنة ٢٤٨)، ثم لم يلبث الأتراك أن استولوا على أمر المستعين كله وتولى وزارته أتامش أحد القواد، فكان هو صاحب الحل والعقد، حتى إذا حكم أربع سنوات، ملَّ القواد حكمه، واضطروه على أن يخلع نفسه ثم قتلوه سنة ٢٥٢، وولوا بعده المعتز بالله محمد بن المتوكل، وكان عاقلًا حازمًا، أراد أن يستعيد للسلطان أبَّهته، فلم يمكِّنه القادة الأتراك، ومن أطرف ما يُروى في هذا المقام ما حكاه ابن طباطبا في الفخري قال: «لم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس، إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قُتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء؛ فكان الخليفة في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقَوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه. ولما جلس المعتز على سرير الخلافة، قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرَف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته. فقالوا له: فكم تقول إنه يعيش وكم يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبقَ في المجلس إلا مَن ضحك.» وقد حاول المعتز بالله أن يتخذ حرسًا من عنصرٍ جديد غير الأتراك، لعلهم يقفون في وجههم، فاتخذ حرسًا من المغاربة، وأمر بإسقاط اسمي وصيف وبُغا من قوائم القادة، وكتب بذلك إلى الأقاليم، ولكنهم استطاعوا أن يتغلبوا عليه وتآمروا مع الجنود المغاربة على خلعه، فدخلوا عليه باب حجرته وهو مريض، قد أخذ الدواء، ثم ولَّوا بعده المهتدي بالله محمد بن الواثق، وكان متدينًا ناهجًا على منهج الخلفاء الراشدين، ورووا عنه أنه قال (كما في تاريخَي النبراس، والفخري): إني أستحيي من الله ألا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية، وقد أراد أن يسير بالناس سيرةً حسنة، ويعيد للخلافة مجدها، ويقضي على نفوذ الأتراك، فأمر بقتل زعيمهم «بايكباك» التركي فلما قُتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، وقُتل من الفريقين عدد كبير، واشتدت الفتنة حتى خرج المهتدي فيها والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته والقضاء على الأتراك المتغلبين، ولكن القائد «طببغا» أخا «بايكباك» استطاع أن يتغلب عليهم، وانهزم الخليفة والسيف في يده وجراحه تسيل دمًا، فلحق به بعض الأتراك وقتلوه شرَّ قتلة وولوا مكانه المعتمد بن المتوكل سنة ٢٥٦ وكان ضعيفًا. وفي تلك الأيام طمع أصحاب المطامع بالاستقلال بالأقاليم لمَّا رأوا ما في العاصمة من الفوضى والاضطراب، فقويت في نفوسهم فكرة القيام بالثورات؛ ففي سنة ٢٤٩ ثار عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي في الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية ودعا إلى «الرضا من آل محمد». وفي سنة ٢٥٠ ثار الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي في طبرستان، فتملَّكها، كما تملَّك جرجان إلى سنة ٢٧٠، ثم قام أخوه محمد بن زيد من بعده فضم إليه مملكة الديلم أيضًا، وبقي يحكمها إلى أن قضى عليه السامانيون سنة ٢٨٧. وفي سنة ٢٥٥ كانت ثورة صاحب الزنج التي أقلقت بال الخليفة، وقلقلت أركان الدولة وكاد الثوار أن يفوزوا على جيش الخليفة، ولكن أخا الخليفة الموفق طلحة استطاع سنة ٢٧٠ه/٨٨٣م أن يقضي على تلك الثورة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة، وتركت وراءها ويلات وآثارًا مخيفة من التدمير والفساد. ولما مات المعتمد بالله سنة ٢٧٩ه تولَّى الأمر المعتضد أحمد بن الموفق بن المتوكل، وكان فتًى شجاعًا نبيلًا عاقلًا حازمًا، ولكنه ولي الأمر والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قيامًا مرْضيًا، حتى عمرت مملكته، وكثُرت الأموال وضُبِطت الثغور، وكان قوي السياسة، شديدًا على أهل الفساد، حاسمًا لمراد أطماع عساكره عن أذى الرعية ... وكانت أيامه أيام فتوق وخوارج كثيرين، منهم: عمرو بن الليث الصفار الذي كان قد عظُم شأنه واستولى على أكثر بلاد العجم كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
42
829
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Era of Decay
Mohammed As'ad Talas
Social Sciences
Specialized
3,010,110
BAREC_Hindawi_46490282_001.txt
كلمة عن حالة العميان في الزمنين الغابر والحاضر ونظرة في حالة عميان أوروبا ومصر كانت آراء الشعوب مُتَّفقة في العصور الخالية حتى أواخر القرن الثامن عشر على اعتبار العميان عالة على الهيئة الاجتماعية لا يمكن تثقيف عقولهم والانتفاع بمواهبهم العقلية وقواهم الجسدية. ولم يقتصر الأمرُ على ذلك بل قد حملت تلك العقيدة بعض الشعوب إِمَّا على إهلاكهم منذ إصابتهم بالعمى، وإما على جعلهم أضحوكة في المنتديات والأسواق. وكان الفقراء منهم يلجئون إلى التكفُّف للقيام بأَوَد معاشهم فيقضون عمرهم في ظلام البصيرة والبصر، ويموتون وبعضهم متشوِّق إلى العلم دون أن يجدوا إليه سبيلًا. وجُلُّ ما أتاه بعض الأمم الراقية في مدنية القرون الوسطى أنها آوت العميان إلى ملاجئ مخصصة بجميع الفقراء، فكان فيها بضع عشرات يسيرة بالنسبة للمجموع لا يجدون فيها غير الغذاء والكساء. ولقد أتيح لشرف الإنسانية وحظ العميان أن ظهر في القرن الثامن عشر نابغة إفرنسي يُدعى فالنتين هواي Valentin Haüy تحرَّكت في قلبه عواطف الشفقة نحو أولئك البؤساء عندما لاحظ حالتهم المنكرة، وتحقق الانتفاع بقواهم العقلية وباقي حواسهم على الرغم من فَقْد بصرهم، فآلى على نفسه أن يعلِّم قليلين منهم بواسطة حروف بارزة استنبطها. ولما رأى نتائج سعيه كُلِّلَت بالنجاح شاد في باريس أول مدرسة للعميان ظهرت في العالم، فأَمَّها في البداءة عدد قليل منهم، ثم ازداد طلابها شيئًا فشيئًا حتى وصل عددهم إلى ١٢٠ تلميذًا تكوَّن منهم المعهد الوطني لعميان فرنسا Institution Nationale des Jeunes Aveugles. وكان ذلك سنة ١٧٨٤ وهو تاريخ رُقي العميان الأدبي والمادي. ولما ظهرت الفوائد الجزيلة التي تُجنى من تعليم العميان أدبيًّا واقتصاديًّا دعا إمبراطور روسيا وملك بروسيا إلى بلادهما فالانتين هواي، فأسَّس في البلادين سنة ١٨٠٦ مدارس للعميان على نمط مدرسة باريس. ومنذ ذلك العهد أخذ الاهتمام بتحسين حال العميان ينتشر في أوروبا وأميركا شيئًا فشيئًا حتى رأيناهم اليوم في الغرب بفضل العلم والإحسان فئة راقية في الهيئة الاجتماعية يمكنها أن تتثقف وتتعلم وتجتني ثمرات جِدها ونشاطها. وقد أُنشئت لهذا الغرض مدارس وملاجئ ومصانع لعميان الجنسين النشيط واللطيف وفيها آلاف منهم، وأُسست جمعيات خصوصية لحمايتهم ومساعدتهم اشترك فيها الملوك والأغنياء والفقراء، وانعقدت وتنعقد المؤتمرات في كل سنة من وطنية ودولية لمزيد تحسين أمورهم، فأصبح الأعمى اليوم في أوروبا كالمبصر قادرًا على أن يقف على أسرار الحياة الدنيا وأن يدرس العلوم والآداب، ويُتقن فنَّ الموسيقى إتقانًا يباري فيه المبصر، ويتدرَّب على بعض الصنائع والأشغال، فتمكَّن بهذه الوسائط من القيام بشئون نفسه وسدِّ عوزه، وتيسَّر لبعضهم أن يُعيل غيره من أفراد أسرته ويؤسس من ماله الخاص المكتسب محلات تجارية يزاول فيها حرفته. أما القُطر المصري الذي يربو عدد عميانه على عميان أيِّ قُطْر بالنسبة إلى سكانه كما سيأتي ذكره، فلا يزال متأخرًا من قبيل مساعدة العميان على عكس ما يُرتجى من ثروته وكرم أبنائه الحاتمي في كل مشروع خيري. على أن تحسين حال العميان ليس أمرًا خيريًّا فقط بل اقتصاديًّا أيضًا ولا مجال للتوسع فيه هنا، فعمياننا يزيدون على ١٤٨٠٠٠ بموجب إحصائية مجلس الصحة المصرية لسنة ١٩٠٧، بينهم ثلاثون ألف أعمى يتراوح سنهم من الخامسة إلى الثلاثين، ولا مدارس وطنية تعلِّمهم، ولا ملاجئ تأويهم، ولا مصانع تشغلهم، ولا جمعية واحدة تهتم بأمرهم وتقيهم طوارق الحدثان. ولا يوجد في هذا القطر مع سَعته ورَحْبه غير معهدين من هذا القبيل أسستهما سيدتان أجنبيتان: أحد المعهدين في الزيتون (قرب القاهرة) يأوي إليه ٤٠ تلميذًا، وثانيهما في الإسكندرية يحوي ١٢ تلميذًا فقط، وزاوية مجاورة للأزهر فيها نحو ١٠٠ من العميان يستظهرون ما يدرسونه. وعدا ذلك فنرى أغلب عمياننا غارقين الآن كما كانوا في العصور الغابرة في بحار الظلام المادي والأدبي، لا مورد رزق حقيقيًّا لمعظمهم إلا التسوُّل بأبواب المساجد والمعابد أو تلاوة القرآن الشريف أمام الجنائز وفي المآتم، ويرتزق بعض أفراد قليلين منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع بمزيد العناء من فن الموسيقى أو من صناعة تعلَّموها.
26
621
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
A Journey to the Blind Institutes in Europe
Najib Kahil
Social Sciences
Specialized
3,010,111
BAREC_Hindawi_46813707_001.txt
أدوار تاريخ اللغة باعتبار ما طرأ من التغيير على ألفاظها وتراكيبها بعد تكوُّنها وارتقائها إذا تدبرنا ما مرَّ على اللغة العربية من المؤثرات الخارجية بعد تكونها وارتقائها حتى اكتسبت ما اكتسبته من الألفاظ وضروب التعبير؛ رأيناها قد مرَّت في ثمانية أدوار أو عصور، هي: (١) العصر الجاهلي: وفيه ما لحق اللغة من التنوع والتغير في ألفاظها وتراكيبها قبل الإسلام. (٢) العصر الإسلامي: أي أثر الإسلام في ألفاظ اللغة وتراكيبها. (٣) الألفاظ الإدارية في الدولة العربية. (٤) الألفاظ العلمية في الدولة العربية. (٥) الألفاظ الاجتماعية ونحوها. (٦) الألفاظ النصرانية. (٧) الألفاظ الأعجمية في دول الأعاجم. (٨) النهضة الحديثة. العصر الجاهلي ويراد به الزمن الذي مرَّ على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرت قبل زمن التاريخ. ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونَمَت، أي تميَّزت فيها الأسماء والأفعال والحروف، وتكوَّنت فيها معظم الاشتقاقات والمَزِيدات؛ وهي لا تزال في حجر أُمِّها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية والعبرانية والفينيقية، وغيرها من اللغات السامية. وبعبارة أخرى إن أم هذه اللغات، ويسمُّونها اللغة السامية أو الآرامية، تمَّ نموُّها فتكوَّنت أفعالها وأسماؤها وحروفها واشتقاقاتها ومَزِيداتها، قبل أن تشتَّتَ أهلها أو نزحوا إلى فينيقية وجزيرة العرب وما بين النهرين، حيث اختلفت لغة كل قوم منهم بعد ذلك النزوح باختلاف أحوالهم، فتولَّدت منها اللغات السامية المعروفة. فالساميون الذين نزلوا جزيرة العرب تنوَّعت لغتهم تنوُّعًا يناسب ما يحيط بهم من الأحوال أو يجاورهم من الأمم، فتميَّزت عن أخواتها بأمور خاصة هي خصائص اللغة العربية. وتشعَّبت هذه اللغة في أثناء ذلك إلى فروع يختلف بعضها عن بعض باختلاف الأصقاع، وهي لغات الحجاز واليمن والحبشة، وتفرَّعت لغة كلٍّ من تلك البقاع إلى فروع باعتبار القبائل والبطون مما لا يمكن حصره، كلُّ ذلك حدث قبل زمن التاريخ. ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت إلينا. لقد كانت قبل تدوينها — أي قبل الإسلام — لغات عديدة تُعرَف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم وربيعة ومُضَر وقَيْس وهُذَيْل وقُضاعة وغيرها كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبهًا باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالًا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبًا إلى بلاد اليمن، وشرقًا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربًا إلى بلاد الحبشة. فضلًا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود والفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى. فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولَّد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى. وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز، على أثر استبداد ذي نواس مَلِك اليمن وكان يهوديًّا فاضطَهَد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخاصة أهل نجران، فطلب إليهم اعتناق اليهودية فلما أَبَوْا قتلهم حرقًا وذبحًا، فاستنجد بعضهم بالحبشة فحَمَل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينًا وأذلُّوا ملوكها أعوامًا، ثم أَنِف أحدُ ملوكها ذو يَزَن فاستنجَد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان فأنجَدَه طمعًا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملَكوها ٧٢ عامًا. وكانوا في أثناء ذلك يترددون إلى الحجاز وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتمَّ أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرَّخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطَّنوا، وكانوا يَقدَمون إلى الحجاز وأهل الحجاز يترددون إليهم. الألفاظ الأعجمية فكان لهذه النهضة تأثير كبير في اللغة العربية فتكاثرت ألفاظها ومشتقاتها، فلما جمعوا اللغة بلغت صِيَغ أبنية الأسماء فقط بضع مئات، ثم صارت بعد ذلك ببضعة قرون ألفًا ومائتين وعشرة أمثلة، ناهيك بما دخلها من الألفاظ الغريبة وما اقتبسه من التراكيب الأجنبية، ولكن أكثره ضاع فيها وتنوع شكله ولم يَعُدْ يتميَّز أصله. على أننا نستدل على تكاثر الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية بخلو أخواتها من أمثال تلك الألفاظ، فإذا رأينا لفظًا في العربية لم نرَ له شبيهًا في العبرانية أو الكلدانية أو الحبشية ترجَّح عندنا أنه دخيل فيها. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن أو نحوها، مما يُحمَل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها ولم يكن للعرب معرفة به من قبل، أو في أسماء بعض المصطلحات الدينية أو الأدبية، وأكثر ذلك منقول عن العبرانية أو الحبشية لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب. ويقال بالإجمال إن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، ولذلك رأينا أئمة اللغة إذا أشكل عليهم أصل بعض الألفاظ الأعجمية عدُّوها فارسية. ومن أمثلة ما ذكره صاحب «المُزهِر» من الألفاظ الفارسية: «الكوز، الجرة، الإبريق، الطشت، الخوان، الطبق، القصعة، السُّكُرُّجة، السَّمُّور، السنجاب، القَاقُم، الفَنَك، الدَّلَق، الخز، الديباج، التَّاخُتْج، السندس، الياقوت، الفيروزج، البِلَّوْر، الكعك، الدَّرْمَك، الجَرْدق، السَّمِيذ، السِّكْباج، الزيرباج، الإسفِيذاج، الطَّبَاهِج، الفالُوذَج، اللَّوْزِينَجُ، الجَوْزِينَج، النَّفْرِينَج، الجُلَّاب، السَّكَنْجُبِين، الجَلَنْجُبِين، الدَّارَصِيني، الفلفل، الكراويا، الزنجبيل، الخُولِنْجان، القرفة، النرجس، البنفسج، النسرين، الخِيرِي، السوسن، المَرْزَنجوش، الياسمين، الجُلَّنار، المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل.» ا. ه. وعندنا أن بعض هذه الألفاظ غير فارسي كما سترى. ومما اقتبسوه من اليونانية واللاتينية: الفردوس، والقسطاس، والبطاقة، والقَرَسْطون، والقبان، والأصطرلاب، والقسطل، والقنطار، والبطريق، والترياق، والقنطرة، وغيرها كثير. وأما ما نقلوه عن الحبشية فأكثره لا يدل على أصله لتغير شكله ولأن الحبشية والعربية أختان تتشابه الألفاظ فيهما، والمشهور عند علماء العربية من الألفاظ المقتبسة من الحبشية ثلاثة: كفلين، والمشكاة، والهرج. لكننا لا نشك في أنهم اقتبسوا كثيرًا غيرها وخاصة ما يتعلَّق منها بالاصطلاحات الدينية، من ذلك قولهم «المنبر» وهو عند العرب «مكان مرتفع في الجامع أو الكنيسة يقف فيه الخطيب أو الواعظ»، وقد شقَّه صاحب «القاموس» من «نبر» أي ارتفع وفي ذلك الاشتقاق تكلُّف، وعندنا أنه مُعرَّب «ومبر» في الحبشية أي كرسي أو مجلس أو عرش. ومن هذا القبيل لفظ «النفاق» وهو عند العرب «ستر الكفر في القلب وإظهار الإيمان»، وقد شقُّوه من «نفق» راج أو رغب فيه، وليس بين المعنيَين تناسب، واضطُرُّوا لتعليله إلى استعارة خروج اليربوع من نافقائه فقالوا: «ومنه اشتقاق المنافق في الدِّين.» وهو تكلُّف نحن في غنًى عنه إذا عرفنا أن «نفاق» في الحبشية معناها الهرطقة أو البدعة أو الضلال في الدين، وهي من التعبيرات النصرانية التي شاعت في الحبشية بدخول النصرانية فيها.
48
1,178
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Arabic Language as a Living Organism
George Zidan
Arts & Humanities
Specialized
3,010,113
BAREC_Hindawi_47206490_001.txt
عن الأسواق والدول العولمة في مرآة التاريخ في ١٧ نوفمبر عام ١٦٧١، كان في استقبال الزبائن الدائمين لمقهى «جاراواي» — وهو منتدًى شهيرٌ كان يحظى بإقبال مالكي السفن وسماسرة البورصة والتجار بلندن — إعلان استثنائي: في الخامس من ديسمبر القادم سيُعقد مزاد لبيع ٣٠٠٠ حمولة من جلود القندس، مقسمة إلى ٣٠ حصة مملوكة لشركة «جافرنر آند كمباني أوف ميرشانتس-أدفينتشرارز تريدينج إنتو هدسونز باي»، وذلك في القاعة الكبرى للمقهى. لم يكن اهتمام زبائن «جاراواي» بعملية بيع جلود القندس هذه اهتمامًا عابرًا؛ فقد كان جلد القندس يعد مصدرًا لأعلى أنواع الفراء جودة؛ ومن ثَمَّ كان الطلب عليه هائلًا إبان القرن السابع عشر. وكان محل تقدير كبير إلى حدٍّ جعل الملك تشارلز الأول يُصدر قرارًا عام ١٦٣٨ بحظر استخدام أي خامة أخرى بخلاف فراء القندس في صناعة القبعات. ما كان يثير تخوفًا هائلًا لدى تجار المدينة ونبلائها ورجال المال العاملين فيها أن لندن لم تكن منطقة نشطة في مجال تجارة الفراء؛ فقد كان القدْر الأكبر من فراء القندس يُنتَج في روسيا ويباع على امتداد موانئ بحر البلطيق والبحر الأسود إلى التجار في كُبريات المدن الأوروبية مثل باريس وفيينا وأمستردام. علاوةً على أن الصيد الجائر كان قد أسفر عن تناقص شديد في أعداد القنادس وعن ارتفاع أسعار فرائها؛ فكان على أثرياء لندن أن يقنعوا بالفراء الأقل جودة الذي كان يتقاطر من أنحاء القارة، أو أن يحصلوا على ما يحتاجون من فراء من تلك المدن مباشرةً وبتكلفة كبيرة. كان المزاد العلني في «جاراواي» إيذانًا ببداية عهد جديد من وفرة الفراء العالي الجودة. كيف شق فراء القندس طريقه إلى «جاراواي»؟ ومَن، أو، ما هي «جافرنر آند كمباني أوف ميرشانتس-أدفينتشرارز تريدينج إنتو هدسونز باي»؟ تكمن هنا قصة مشوقة عن العولمة من زمن آخر. لكن لا شك أنه كان شكلًا مختلفًا تمامًا للعولمة. ومع ذلك إذا نظرنا إليه عن كثب، فسنعلم الكثير عما من شأنه أن يشجع العولمة، وما من شأنه أن يقيدها. (١) عصر شركات التجارة المعتمدة ثَمَّةَ ثلاثة أبطال لم يكونوا في الحسبان هم من حرَّكوا تسلسل الأحداث الذي أدَّى بفراء القندس إلى مقهى «جاراواي». كان اثنان منهم صهرَين من أصل فرنسي، ولكِّل منهما اسم لامع؛ الأول بيير إسبري راديسون، والثاني ميدار شوار دي جروسيلييرز. كان راديسون ودي جروسيلييرز صيادَين ومغامرَين، يعملان في تجارة الفراء دون الحصول على ترخيص في الأطراف الشمالية لإقليم كيبيك الواقع فيما باتت تُعرف اليوم بدولة كندا. وكان النظام الاستعماري الفرنسي لكندا التي كانت تُعرف حينئذٍ باسم «فرنسا الجديدة» قد أسس تجارة رابحة من خلال شراء فراء القندس من الأمريكيين الأصليين؛ إذ كان السكان الأصليون يجلبون بضاعتهم إلى محطات تجارية أقامها المستعمرون ثم يبيعون حيوانات القندس مقابل أسلحة نارية وخمور. وتماشيًا مع الفلسفة الاقتصادية السائدة آنذاك — المذهب المركنتلي (التجاري) — كانت هذه التجارة برمتها تُدار في شكل احتكار كي تعود بأعلى الأرباح على المملكة الفرنسية ومن ينوبون عنها. فكَّر راديسون ودي جروسيلييرز، من وحي رحلاتهما في الغابات الشمالية في المنطقة، بالقرب من شواطئ خليج هدسون، في إمكانية زيادة ما يحصلون عليه من الفراء زيادة هائلة بالتوغل أكثر في المناطق التي يقطنها الأمريكيون الأصليون، والتي لم يُستكشف أغلبها بعد. لكن حكومة الاستعمار الفرنسي الشديدة التمسك بتقاليدها الراسخة لم تكن لتدع ذلك يمر بسلام أبدًا. فحُكم على المغامرَين بغرامةٍ عقابًا على الاتِّجار دون ترخيص، وأُودع دي جروسيلييرز السجن فترة وجيزة. قرر الصهران أن يغيِّرا من يعملان لحسابه بعد أن تعثرت جهودهما على أيدي بني وطنهم. وفي رحلة البحث عن رعاة جدد، ارتحلا إلى لندن حيث جرى تقديمهما للملك تشارلز الثاني. الأهم من ذلك أنهما نجحا في جذب انتباه الأمير روبرت، ثالث أبطال قصتنا. وُلد الأمير روبرت في بوهيميا، وهو ابن أخت الملك تشارلز الثاني ومغامر من نوع مختلف. وقد حارب في إنجلترا وفي القارة الأوروبية وفي البحر الكاريبي، وكان فنانًا ومخترعًا هاويًا أيضًا. كانت خطة راديسون ودي جروسيلييرز تتمثل في تأسيس طريق بحري من إنجلترا يعبر شمالي المحيط الأطلنطي إلى خليج هدسون عبر مضيق هدسون؛ وبذلك يتمكَّنان من تحاشي السلطات الفرنسية والوصول إلى القبائل الهندية من جهة الشمال مباشرةً؛ حيث كانت توجد منطقة لم تعلن أيٌّ من الحكومات الأوروبية السيطرة عليها بعد. كانت الخطة مكلِّفة ومحفوفة بالمخاطر؛ ولهذا كانا في حاجة إلى الحماية الملكية والدعم المالي. وكان الأمير روبرت في موقع يسمح له بتوفير كلٍّ منهما. في صبيحة الثالث من يونيو عام ١٦٦٨، أبحر دي جروسيلييرز من لندن على متن «نانساتش»، وهو مركب صغير اختير خصوصًا لصغر حجمه الذي يمكِّنه من الإبحار عكس مجرى النهر، ثم نقله عبر اليابسة إلى خليج هدسون، في رحلة موَّلها الأمير روبرت وحاشيته. وبعد مرور أربعة أشهر، رسا المركب قبالة شواطئ خليج هدسون.
35
795
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Dilemma of Globalization
Dani Rodrik
Social Sciences
Specialized
3,010,114
BAREC_Hindawi_47908694_001.txt
كَتَبَة العرب وجغرافية سورية ذكرنا في مقالتنا السابقة بطيب الثناء أحد جغرافيِّي الإسلام «شمس الدين المقدسي»، وليس هو الكاتب الوحيد من العرب الذي ضمَّن تأليفه الفوائد المتعددة في وصف سورية، وفي نيتنا أن نعود مرارًا إلى ذكر هؤلاء الكَتَبَة في أثناء مقالاتنا الآتية عن هذه البلاد، وعليه أردنا أن نفرد لهم فصلًا كاملًا ليكون القراء على بصيرة من شهاداتهم، ويقدروا كتاباتهم قدرها. الجغرافيون العرب الأقدمون كان أول فتح سورية على يد القائد الكبير خالد بن الوليد، الذي دخل دمشق بعد أواسط السنة ٦٣٥ للميلاد، ثم أتم فتح بقية بلاد الشام في السنين التالية، فلما انتشرت العلوم بين العرب في القرن التاسع أخذ كَتبتهم في ذكر الشام ووصف محاسنها، وواصلوا هذه المصنفات إلى أواخر القرن الخامس عشر، فمنهم من اتَّسع في وصفه، ومنهم من اقتصر على بعض الفوائد، فلو جُمعت كل هذه المآثر المدونة في زمن لا يقل عن ستة قرون لانْذهل الأدباء من وفرتها، والحق يُقال: إن كَتَبَة العرب في الأبحاث الجغرافية — كما في غيرها من الفنون — قد خلَّفوا لنا من الآثار ما لا يجاريهم في كثرته غيرهم من الشعوب. فيتحتم علينا أن نبين شأن هذه التآليف، ونعرف قدرها وما يمكن العلماء أن يستخلصوا من فوائدها. لو تتبعنا تاريخ العرب في الأزمنة العريقة في القدم، لوجدناهم مزدانين بخلالٍ فريدة للضرب في البوادي وللسياحة في البلدان، تصفَّحْ سفر التكوين لموسى كليم الله، فإنه قد ذكر غير مرة عرب البادية في أيام الآباء بعد الطوفان منذ إبراهيم الخليل إلى يوسف الحسن، وغاية ما يُستنتج من أوصافه أن العرب كانوا في ذلك الوقت ما عهدهم التاريخ في الأجيال التابعة، فإنهم يظهرون لنا كقوم رُحَّل يقودون القوافل ويتجشمون الأسفار للمتاجرة، وقد جعل الله في يدهم زمام حيوان صبور يزيد نفعه على منافع الخيل المطهَّمة، نريد الإبل المعروفة بسفن البر، وهذا الوصف لا يختلف ذرَّة عن أحوال العرب في كرور الدهور حتى القرن السابع بعد الميلاد؛ حيث ترى قريشًا تتولى قيادة الأقفال وتَمْتَار المِيَرَ، وتنقل السلع إلى أسواق العراق والشام واليمن والحبشة ومصر. وليس بين التاجر الرحالة والجغرافي المخطِّط للبلدان مدًى واسع؛ فإن المِسْفَار يحتاج كالجغرافي إلى التنقيب عن أحوال الأمم والأمكنة التي يتردد إليها، فيتبصر في مرافقها ويدرس طباعها، ويبحث عن ثروة تربتها وغلَّاتها وطرقها وطوارئ هوائها من حر وقرٍّ، وكل ذلك يباشره الرحالة لمنفعته الخاصة، كما يتولاه الجغرافي لنفع العلوم، ومن هنا تعرف أن درس الجغرافية من أنجع الوسائل، وأكفلها بالربح في التجارة الواسعة. ومما زاد العرب نشاطًا في درس البلدان وأعانهم على الرصود الجغرافية التي خُصَّت بمراقبتها طباعهم، ما أتاحهم الله من الفتوحات العظيمة في القرنين السابع والثامن؛ فإن سلطتهم بلغت ما وراء البلاد التي اتصلت إليها يد الإسكندر ذي القرنين، فلا غرو أنهم حاولوا معرفة الأقطار التي جعلها الله في حوزتهم، فأسرعوا إلى تقويمها وتحديد ثغورها، واستطلاع خواصها، وقد ساعدهم على ذلك ما وقفوا عليه من المصنفات الجغرافية السابقة لعهدهم من أوضاع الهنود والفرس واليونان والرومان، مما نُقل الكثير منه إلى العربية، وكان العرب من أجدر الناس بأن يبنوا لعلم الجغرافية صرحًا شاهقًا منيفًا بما توفر لديهم من الوسائل الضامنة لبلوغ هذه الغاية الشريفة، وذلك بأن يضيفوا معلوماتهم إلى معلومات أسلافهم، وسوف نذكر سبب قصورهم عن هذه البُغْيَة الجُلَّى، وإن نال البعض منهم من ذوي المدارك العالية أسهما رابحة من المجد، فكادوا يفوزون بقصبة السبق في هذا الميدان الجليل. ومما يجب الإقرار به فضل كَتَبَة العرب في وصف البلدان وتعريف خواصِّها، وذلك مدخل العلوم الجغرافية ومقدمتها يكفي للقيام به أن يكون الكاتب باصرًا متروِّيًا، يُحسِن مراقبة المرئيات دون أن يحتاج إلى شيء من الآلات الرصدية، أو من العلوم الإعدادية. فمن ذلك أنهم أحكموا معرفة أواسط آسية، فأصلحوا أمورًا عديدة مما رواه قبلهم اليونان والرومان رامين كلامهم على عواهنه، مثال ذلك: ما أفادنا الرومان عن الصين حدسًا وسمعًا. أما العرب فإنهم تفقدوا مملكة ابن السماء، بل بلغوا بلاد كورية، ولعلهم أدركوا حدود اليابان. وقِس على ذلك قارة أفريقية، فإن الرومان جعلوا الصحراء حدودها، فلم يعرفوا ما وراء تلك المفاوز المجهولة.
30
675
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Geographical Memoirs in Syrian Countries
Henry Lamens
Social Sciences
Specialized
3,010,115
BAREC_Hindawi_49706148_001.txt
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد دعاني حبُّ الاستطلاع إلى زيارة أهم ممالك أوروبا لمشاهدة ما فيها من المحاسن، وبعد عودتي إلى الوطن العزيز وصفت كلَّ ما شاهدت من آداب وأخلاق وعادات ومتاحف وآثار ومعارض، وكل ما ينبغي لسائح أن يطَّلع عليه، ونشرت تلك المشاهدات في صحيفة الأهرام الغراء تباعًا، فحازت لدى الجمهور رضاءً وإقبالًا، وألحَّ عليَّ كثير من القراء راجين جمعها في كتاب ليعم نفعها وتكثر فائدتها، فلم يسعني إلا إجابة ملتمسِهم وتحقيق رجائهم. وقد بدأتها بإرشادات هامة رأيت الحاجة إليها داعية لكلِّ من يريد الرحيل إلى تلك الديار حتى تخف عنه مصاعب السفر. هذا، ولا يفوتني أن أذكر بالثناء الجم والشكر العاطر ما لقيته من حضرة صديقي وزميلي الأستاذ علي أفندي فهمي الرشيدي من جميل المرافقة وعظيم المساعدة أثناء هذه الرحلة. والله أسأل أن يعمَّ النفع بهذه المشاهدات، ويفيض عليها من القبول ما يحقق غرضي منها! وهو حسبنا ونعم الوكيل. عبد الوهاب أبو العيون إهداء الكتاب مولاي حضرة صاحب الجلالة مليك مصر المعظم فؤاد الأول، زاده الله جلالًا وإقبالًا! في زمنك الزاهر الذي أينعت فيه ثمارُ العلم وامتد ظله وتدانت قطوفه، فانجاب ظلام الجهل وانبلج ضياء العرفان ونهل من مورده كلُّ صادٍ، وتطلعت أنظار المجدين إلى الوقوف على أحوال الأمم المتمدينة الراقية حتى تتشبع النفوس بما عندهم من محاسن وأخلاق وعادات؛ كنتُ من بين الذين تطلعت أنظارهم إلى ورود ذلك المنهل العذب، فأخذتُ عن القوم ما عرفته عنهم حسًّا ومعنًى، ونقلت إلى أبناء وطني الأعزاء ما يحملهم إلى بذل الغاية القصوى في التجمُّل بتلك الأخلاق والعادات. فإليك يا صاحب الجلالة، ويا دوحة الأسرة المحمدية العلوية، أستشرف بذلك الكتاب الذي أتوِّجه باسمك الكريم، وأحلِّي طروسه برسمك الشريف، وأشرِّفه بالنسبة إليك. ولي الفخر الدائم والشرف الأثيل أن ينال من لدن جلالتكم رعايةً ويحوز لديكم قبولًا. أطال الله مدَّتك، وأتم عليك نعمتك، وأقرَّ عينك بولي عهدك الفاروق، وأطلعه غرة في جبين الدهر، وجعله لسان صدق في الآخرين! عبدكم الخاضع عبد الوهاب أبو العيون حضرة صاحب الجلالة مولانا ملك مصر المعظَّم «فؤاد الأول». إرشادات هامة الأمور الهامة التي يعدها المسافر قبل سفره هي: (١) الحصول على جواز السفر من قلم الأَجْوِزة بمدينة القاهرة أو الإسكندرية أو بورسعيد أو السويس، وفي هذه المحال استئمارات خاصة لذلك، يملأ المسافر خاناتها باسمه واسم والده وعمره ومحل سكنه وغرضه من السفر، ثم يمهرها من المأمور إن كان من الأهالي أو يحضر شهادة من المصلحة التابع لها إن كان موظفًا. وتُقدَّم هذه الاستئمارة بعد تمام الإجراءات المتقدم ذكرها. (٢) يرسم صورته الشمسية صغيرة ويرفقها بالطلب. وبعد إجراء التحريات اللازمة للتثبُّت من صحة ما جاء بالاستئمارة المتقدم ذكرها، يُؤمَر بترك طلبه مدة معينة ثم يرجع لاستلامه بعد مضيها، فيُسلَّم له الجواز بعد أن يدفع الرسم المعيَّن. (٣) إذا أردت أن تزور ممالك عدة يلزم أن يكون على جوازك تواقيع من ممثلي (قناصل) الدول التي تريد زيارتها، وتدفع لذلك رسمًا يختلف باختلاف الممالك. وإذا لم تفعل ذلك فلا يُسمَح لك بزيارة المملكة إلا إذا استعنت بممثل (قنصل) مصري، كما حصل لي ذلك عندما أردت زيارة مملكة إنكلترا، فإنه لم يكن قد توقع على جوازي من ممثل إنكلترا في مصر، ولذا امتنع ممثل إنكلترا في باريس عن السماح لي بزيارتها، فالتجأت إلى ممثل مصر فيها فوقَّع عليه بما يفيد السماح لي، فلما قدَّمته إلى ممثل إنكلترا لم يتردد في قبوله. وكلما مررت بمملكة من الممالك طلبوا منك جوازك ليقفوا على صحة ما فيه حتى يسمحوا لك بدخول مملكتهم. (٤) عند تمام جميع الإجراءات اقصد شركات طرق الملاحة بالقاهرة أو الإسكندرية أو بورسعيد أو السويس لتعلم منها مواعيد قيام البواخر، فتختار اليوم المناسب لسفرك وتحجز حجرة في المكان الذي تختاره من الباخرة بعد عرض أمكنتها عليك في خارطة، ويُستحسن أن يكون ذلك قبل سفرك بخمسة عشر يومًا. (٥) وإذا أردت أن تقف على معلومات تهمك، فعليك بمحل شركة كوك فهو الكفيل بإرشادك.
35
680
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Observations of a Tourist in European Kingdoms
Abdul Wahab Abu Al-Ayoun
Arts & Humanities
Specialized
3,010,117
BAREC_Hindawi_51483529_001.txt
مقدمة كنتُ قد ألقَيت خطابًا حول علم السعادة في مؤتمرٍ ضخم للخدمات المالية، حيث كان بوسع الجمهور حضورُ ما يَختارون من عدة عروض تقديمية في مواضيعَ شتَّى. في نهاية محاضرتي، جاءتني امرأة لتُخبرَني كم استمتعت بها. ثم قالت: «لا أكذِبك قولًا، لقد كدتُ ألا آتي لمُحاضرتكِ، لأنني تصورت أنني سأبغضها تمامًا.» كان قولها — كفى أن أقول إنه لم يكن مُتوقَّعًا. من ثَم فقد شكرتُها على إطرائها غير المألوف وسألتها لماذا كانت توقُّعاتها بتلك السلبية. فأجابت قائلة: «إنما تصوَّرت أن أي شخص يتحدَّث عن السعادة لمدة ساعة سيقتصر حديثه على أقواسِ قُزَح والهِرَرة، وأنني مع انتهاء الساعة سأرغب في خنقكِ.» استهللتُ هذا الكتاب بتلك القصة للتدليل على مبدأ رئيسي سأظلُّ أعود إليه مِرارًا في الصفحات المقبلة. لا شك أن هناك من الناس مَن هم سعداء بطبيعتهم ويرون العالَم على الدوام رؤيةً يَغلِب عليها الجانب الإيجابي؛ هؤلاء هم الناس الذين يرون الحياةَ وردية مليئة ب «الهررة وأقواس قُزَح». إن كنتَ من أولئك الناس، فهنيئًا لك ... والحق أنك لستَ بحاجة إلى هذا الكتاب؛ لأنك غالبًا تقوم بالفعل بالأشياء الصحيحة للحصول على السعادة والعافية. للأسف، لستُ واحدة من هؤلاء الناس. فالأشياء التي تُثير قلقي كثيرة جدًّا. هل ستفوتُني رحلة الطيران بسبب هذه الزحمة المرورية؟ هل هذا الألم الذي في معِدتي عرَضٌ من أعراضِ السرَطان؟ هل سيستطيع ابني بدرجاته المُتواضِعة الالتحاقَ بالجامعة؟ إنَّ ميولي الفِطرية بكل صراحة ميولٌ كئيبة وتشاؤمية — تكاد تكون النقيض لمنظور الحياة الوردية. كيف استطعت إذن أن أؤلِّف كتابًا عن استراتيجيات العثور على السعادة؟ سؤال وجيه! خلال العشرين عامًا الماضية، درَّست فصولًا وأجريت أبحاثًا تَتناول موضوعاتٍ متنوعة في علم النفس. فجانب من وظيفتي أن أقرأ بانتظام الدراسات العلمية لأظل مطَّلعة على آخرِ الاكتشافات في مجالي. وعلى مدار خمس السنوات الأخيرة تقريبًا، كانت أهم الأبحاث وأكثرها إثارة تردُ مِن مجالٍ ناشئ يُطلَق عليه علم النفس الإيجابي، يتحرَّى العوامل المُؤدية إلى الرفاه النفسي والجسدي. وفيما يلي جانبٌ من الاكتشافات المذهلة التي توصَّل إليها الباحثون في هذا المجال: قضاء الوقت على «فيسبوك» يجعلُنا نشعر بالحزن والوحدة. العقاقير الباهظة التي تَحمل علاماتٍ تجارية أفضلُ أثرًا في تخفيف الآلام مقارنةً بالأدوية التي لا تَحمل علامة تجارية، حتى في حال احتوائها على المكوِّنات نفسها. وضعُ الهاتف المحمول على الطاولة يحدُّ من جودة التواصل. المرضى المقيمون في غرفةٍ بمُستشفًى يُطلُّ على منظر طبيعي يتعافون من الجراحات أسرعَ من أولئك الذين لا تتسنَّى لهم هذه الفرصة. مَن لديهم توقُّعات إيجابية عن الشيخوخة يعيشون أكثرَ ممن لا يتمتَّعون بها سبع سنواتٍ ونصف في المتوسط. حين أردتُ المواءمة بين الأبحاث التي انتقيتها كي أعرضها على طلابي، ازددتُ قناعةً بأن هذه الاكتشافات التي تبدو متباينةً إنما تُشير إلى مسألةٍ بسيطة بحق: الأحداث الخارجية لا تُملي سعادتنا في حياتنا اليومية، وحالة صحتنا البدنية، ولا حتى المدة التي نحياها، وإنما يتوقَّف كل ذلك على الطريقة التي نرى بها أنفسنا والعالم من حولنا. لماذا يجعلنا قضاء الوقت على «فيسبوك» ساخطين؟ لأننا نقارن حياتنا بحياة الآخرين، وأغلب الناس لا ينشرُون سوى الجوانب الإيجابية من حياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا يجعلنا نعتقد أن الآخرين تأتيهم الأحداث الرائعة على الدوام — أطفال ناجحون، ورحلات مذهلة، وحياة مِهَنية مُبهِرة، وما إلى ذلك. فلا يبدو أن حياتنا على المستوى نفسه. لماذا تعطي العقاقير الباهظة ذاتُ العلامات التجارية نتائجَ أفضل من تلك الزهيدة التي لا تحمل علامةً تجارية؟ لأننا نعتقد أن الأدوية الباهظة ستكون أنجعَ من نظيرتها الرخيصة، ويجعلنا هذا الاعتقاد نتصرَّف على نحوٍ يُشعِرنا بأننا صرنا أفضلَ جسديًّا. فإذا كنت على وشْك الخضوع لإجراء طبي على سبيل المثال، وكنت قَلِقًا إزاء الألم، فإن تلقِّي عقَّار تعتقد أنه سيُخفِّف الألم سيحدُّ من قلقك إلى حدٍّ كبير. وسوف يؤدِّي تراجع القلق بدوره إلى تخفيف الوجع الذي تشعر به. حين قرأتُ كلَّ تلك الأبحاث حول تأثير اعتقاداتنا على ما نشعر به، بدأت أحاول استخدام هذه المعلومة في تغيير أفكاري وسلوكي في مُحاولةٍ مني للعثورِ على قدْرٍ أكبرَ من السَّعادة. وهكذا بدلًا من البحث على الإنترنت بلا هدف عند الاضطجاع في الفراش، صرتُ أهتم بالعثور على كتابٍ جيد لأقرأه. وحتى عندما كنت أنشغل للغاية بحيث لا أجد وقتًا لمُمارسة الرياضة، كنت أوثر التنزُّه سيرًا على الأقدام لمدة ٢٠ دقيقة وقت الغداء. بعض الناس يأتيها التفكير الإيجابي غريزيًّا. هؤلاء الناس يجدون منحةً في كل محنةٍ ومن ثَم فإنهم أكثر سعادة وأوفر صحة. وهناك آخرون، منهم أنا، يحتاجون إلى بعض الوقت والطاقة والمجهود لتبني هذه النظرة المتفائلة للحياة. على هؤلاء الناس تحويل نزعتهم المتشائمة في العموم حتى يعثروا على تلك المنحةِ الخفية، وعليهم العمل بجِدٍّ لتبنِّي السلوكيات التي بها يصيرون أفضلَ حالًا لا أسوأ — مثل الذهاب في تمشيةٍ سريعة في الطبيعة لمجابهة الحزن، بدلًا من البحث عن السعادة في قاع وعاء من مثلجات «بن آند جيري». لكن ها هو ذا خبرٌ سعيد لأولئك الذين يُحاولون بصعوبةٍ أن يشعروا بالسعادة: مهما كانت ميولنا الفطرية، نستطيع جميعًا بلوغ قدرٍ أكبر من السعادة والصحة بإجراء تغييرات صغيرة نسبيًّا في الطريقة التي نرى بها أنفسنا والعالم. وكما قالت إليزابيث جيلبرت في سيرتها الذاتية التي نُشرت عام ٢٠٠٦، «طعام، صلاة، حب»: السعادة هي نتاج مجهود شخصي. فإنك تحارب من أجلها، وتسعى إليها، وتُصمِّم عليها، بل وقد تطوف في أنحاء العالم بحثًا عنها في بعض الأحيان. لا بد أن تسهِم من دون كللٍ في سبيل أن تتبدَّى أوجه النِّعم التي رُزقتَ بها. وحين تبلغ حالةَ السعادة، يجب ألا تتوانى أبدًا عن الحفاظ عليها. لا بدَّ أن تبذل جهدًا جهيدًا حتى تظلَّ ماضيًا في سبيل السعادة إلى الأبد، لتبقى متقدِّمًا فيها. الأفكار الإيجابية المُتفائلة لا تُراوِدُني بسهولة؛ فعليَّ العمل من أجل سعادتي. خلال السنوات القليلة الماضية، ظللتُ أعمد إلى التحوُّل بذهني ليصير أكثرَ اتفاقًا مع ما أثبتَت الأبحاث أنه يجعل الناس أكثر هناءً. فبدلًا من الانغماس في منشورات الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي ومقارنة حظي (أو قلَّته) بحظوظهم، أتحوَّل بتفكيري لوقف هذه الأفكار السلبية والتركيز بدلًا من ذلك على ما لديَّ من أشياءَ حقيقية إيجابية. فصحيح أنَّ ابني الصغير لن يصير الأول على دفعته، لكنه لديه مجموعة طيبة من الأصدقاء. صحيح أن أسرتي لا تقضي أسبوعين في تاهيتي، لكننا نستمتع حقًّا بالأسبوع الذي نقضيه في منزلٍ مُستأجَر في ساحل جيرسي شور. من الواضح أنني لا أنزع بطبعي إلى العثور على الإيجابيات، لكن مع الوقت والطاقة والمجهود، صرت أجد التحوُّل بفكري التحولَ الذي يجعلني أكثر سعادةً وقد صار أسهل على الدوام. إن غايتي من كتابة هذا الكتاب هي إعطاء الآخرين الذين يسعون للشعور بالسعادة استراتيجيات محدَّدة قائمة على أساسٍ علمي يمكنهم استخدامها في النهوض بمستوى حياتهم وتمديد أعمارهم. وعليه، فهنيئًا باتخاذ الخطوة الأولى لاختيار هذا الكتاب، وإنني أرجو كثيرًا أن يساعدكم في العثور على السعادة التي تستحقونها.
61
1,145
14-nun
14
6
4
3
Hindawi
Positive Transformation
Catherine A. Sanderson
Social Sciences
Specialized
3,010,118
BAREC_Hindawi_51483529_002.txt
الجزء الأول اكتشاف الطريقة الإيجابية في التفكير الفصل الأول لطريقة التفكير أهميتها في الأول من مايو ٢٠١٥، مات فجأة من أزمةٍ قلبية ديف جولدبيرج، المدير التنفيذي البالغ النجاح في وادي السيليكون وزوج مديرة العمليات في «فيسبوك»، شيرل ساندبيرج. وفي لحظةٍ صارت ساندبيرج أرملةً وأمًّا وحيدة لطفلين صغيرين — صبي في العاشرة وفتاة في الثامنة. وبعد ٣٠ يومًا، شاركت ساندبيرج عبارات تأبين لزوجها تبثُّ فيها ما تعلَّمتْه من هذه الخسارة، قائلة: «حين تقع المأساة تمنحك الاختيار. يمكنك الاستسلام للخواء، الفراغ الذي يملأ قلبك ورئتَيك ويُقيِّد قدرتك على التفكير أو حتى التنفُّس. أو تستطيع محاولة العثور على المغزى.» يُعنى هذا الكتاب بما يلزم لتُقرِّر ذلك الاختيار: سواء عند مُجابهة المكدِّرات الصغيرة للحياة اليومية — من زحام مروري ومقابلات عمل وأعطال في السيارة، وما إلى ذلك — وكذلك عند مواجهة محنة خسارة كبرى — طلاق، أو مرض عُضال أو إصابة خطيرة، أو حتى وفاة شخص عزيز. إنَّ الإزعاجات والصِّعاب، العقَبات الصُّغرى والعوائق الكبرى، جزءٌ من الحياة. فلا يمكننا تحاشي الضغط النفسي أو الحيلولة دون وقوع الأحداث السيئة لنا أو لمَن نُحب. لكننا نملك السيطرة على الطريقة التي نرى بها الأشياء السيئة وما إذا كان لدينا وسائل العثور على بعض الحسنات في أحلك الظروف. والأهم أنَّ تَعلُّم السبيل لتبنِّي طريقة إيجابية في التفكير، مهما كانت الأمور، من الممكن أن يكون لها آثار مُستديمة على سعادتنا وصحَّتنا، بل وحتى أعمارنا. مميزات الطُّرق الذهنية المختصَرة مع سعْينا في حياتنا اليومية، تنهال علينا المعلومات. فنحن نقرأ الصحف، ونُشاهد التلفزيون، ونتصفَّح الإنترنت. ونتفاعل مع الناس في مجتمعاتنا، ونمرُّ بلوحاتٍ إعلانية، ونستمع إلى المذياع. ونُحاول تنظيم المعلومات المختلفة التي نتلقَّاها من المصادر المتعدِّدة وفهمها. وحيث إنه من المُستحيل تمامًا فرْز هذه المعلومات بتمعُّن ودقة، فإننا نسلك طرقًا مختصَرة عند التفكير، من دون أن نعيَ ذلك في أغلب الأحيان. فالناس، على سبيل المثال، يَعتبرُون عينةَ النبيذ التي يُقال لهم إنها تتكلَّف ٩٠ دولارًا للزجاجة أفضل بكثير من عينة النبيذ التي تتكلَّف زجاجتها ١٠ دولارات، حتى إن كان النبيذ مثله بالضبط في واقع الأمر. كما أننا نستخدم الطرقَ الذهنية المختصَرة لتكوين توقُّعات عن الناس الذين نلقاهم. فحين نقابل مختصَّ رعاية طبية في مُستشفًى، نميل إلى افتراض أنه طبيبٌ إذا كان ذكرًا، وممرضةٌ إذا كانت أنثى. إنَّ عملية اتخاذ الطرق المختصَرة لفَهمِ العالم تقوم على الصور النمطية التي كوَّنَّاها من تجاربنا. فإننا نفترض أن النبيذ المكلِّف أفضل مذاقًا؛ لأننا نتوقَّع أن تَستحِق الجودة الأفضل سعرًا أعلى. ونفترِض أن الرجال من الأرجح أن يصيروا أطباء مقارنةً بالنساء، وأن النساء من الأرجح أن يَصِرن مُمرِّضات مقارنةً بالرجال؛ لأنَّ هكذا كانت تجاربنا دائمًا. والصور التي نراها ونسمعها في الإعلام تُرسِّخ هذه الصور النمطية. فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما تصوِّر رسائل الإعلام التقدُّم في السن تصويرًا كئيبًا بعض الشيء. إذ يُقدَّم كبار السن في الأفلام والبرامج التلفزيونية والإعلانات والفقرات الإعلانية التوعوية على الأخص، وقد أصابتْهم مشكلاتٌ في الذاكرة، وصاروا يُعانون أوجهَ عجزٍ بدنية عدة وما إلى ذلك. ومن الممكن أن يخلق هذا التعرُّض المستمر لهذه الصور توقُّعات سلبية عن الشيخوخة. الأهم أنَّ الطرق الذهنية المختصرة التي تتكون لدينا تؤثر على الطريقة التي نُفكِّر بها في أنفسنا ومن الممكن أن تؤثر على سلوكنا تأثيرات جوهرية. فوفقًا لإحدى الدراسات، يفيد البالغون في منتصف العمر الذين تُراودهم أفكار سلبية حول التقدُّم في السن باهتمام أقل بالسلوك الجنسي والاستمتاع به. كبار السن الذين يَشعُرون بأنهم أكبر من سنِّهم — بصرف النظر عن عمرهم الزمني الفِعلي — هم على الأخص أكثر من يُفيدون بأن لديهم تلك الآراء السلبية عن الجنس. رغم أن هذا المثال يُصور مثالب أن يكون لدى المرء توقُّعات سلبية، فمن الممكن أن تؤدِّي التوقُّعات الإيجابية لنتائج مفيدة. كمثالٍ على ذلك، سجَّل الناس الذين قيل لهم إنهم أُعطُوا كرةَ جولف «جالبة للحظ» أهدافًا بنسبة أكبر من ٣٥ في المائة من الذين حصلوا على كرة جولف «عادية». بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الناس الذين يرَون «ميزة» في النشاط أو الإجراء المؤلم من الممكن أن يكون شعورهم بحدَّة الألم أقل، وهو ما يُفسر خضوع العديد من الناس طواعيةً لبعض أنواع الألم (مثل ثقب السرَّة والوشم وتسلُّق جبل إفرست). وأيضًا يتذكَّر الناس ذلك الألم لاحقًا بطريقة أخف حدةً عما كان ساعتها حقًّا. ومع المُمارسة، نستطيع أن نتعلَّم استخدام حيل ذهنية للتأثير في سلوكنا بطرق إيجابية.
38
736
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Positive Transformation
Catherine A. Sanderson
Social Sciences
Specialized
3,010,119
BAREC_Hindawi_51749353_001.txt
طبيعة التسويق من المرجَّح أن يكون لديك بالفعل فكرة جيدة عما يعنيه التسويق. فالتسويق في النهاية موجود حولنا في كل مكان والرسائل التسويقية تُلاحقنا طوال الوقت أثناء وجودنا في المنزل، وفي طريقنا للعمل، وفي العطلات، وحتى في أوقات استرخائنا. فصِرنا نتناقش مع الأصدقاء حول الإعلانات الجديدة وأحدث العروض أو المنتجات لعلاماتنا التِّجارية المُفضَّلة. ونتلقى تشجيعًا على أن نكتب في المدوَّنات ونُدليَ بآرائنا على مواقع المقارنة بين المنتجات. وكذلك تحوَّلنا بفضل استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي من متلقِّين سلبيين للرسائل التسويقية إلى مُشارِكين نشِطين نُشارِك آراءنا وأفكارنا ومشاعرنا عن الأشياء التي نستهلكها. ولكن مع أن مخرجات التسويق مألوفة لنا، علينا تجنُّب اعتبار التسويق مجرد نشاط يقتصر هدفه على «حث الأفراد على الشراء» أو «مجرد الإعلان». فالتسويق يشتمل على أكثر من ذلك بكثير؛ إذ يتضمن أنشطة تِجارية كثيرة وضرورية، لضمان إمكانية الحصول على المنتجات والخِدمات التي ترغب فيها وتحتاج إليها، عندما وكيفما تريدها. يوصف التسويق بأنه نشاط يهدف إلى وصول المنتج «المناسب» إلى المكان «المناسب» بالترويج «المناسب» وبالسعر «المناسب» كي يُشترى. ولكن بحسب تعريفٍ حديث وضعته جمعية التسويق الأمريكية، فإن التسويق هو مجموعة الأنشطة التي تهدف إلى تعريف الزبائن والعملاء والشركاء والمجتمع ككلٍّ بالعروض ذات القيمة لهم، وتوصيلها، وتبادلها. يوضِّح رائد التسويق فيليب كوتلر أنه في الأسواق المشبعة بالسلع والخِدمات، صار توقُّع حاجات الزبائن ورغباتهم وتحديدها وتوفير القيمة المطلوبة لإشباع هذه الحاجات والرغبات أهمَّ من أي وقت مضى. وهكذا تحاول الشركات بكل جهدها التفوق على مُنافسيها لجذب انتباهنا وكسب ولائنا. تتمثل وظيفة التسويق أساسًا في أنها عملية تبادل قائمة على فرضية أنني «لديَّ شيء تحتاجه، وأنت لديك شيء أحتاجه، فلْنَعقد صفقة!» ومن المفترَض أن كل طرف سيحصل على قيمةٍ ما من هذا التبادل. ووظيفة المسوِّق هي ضمان أن يكون الزبون على وعي بما يُقدَّم، وأن العرض متوافق مع أقيَم احتياجاته، سواء أكان منتَجًا أم خدمة أم فكرة (عمل خيري أو قضية خيرة). وينبغي أن يكون المشترون المحتمَلون على استعداد للاشتراك في هذه العملية التبادلية بتقديم المال اللازم أو الوقت المطلوب أو كليهما. وهذا التبادل المشترك للقيمة يجب أن يؤدي إلى تحقيق رضاء الزبائن وتَكرار التبادلات في المستقبل، وهو ما يُنشئ ولاءً لدى الزبائن، ويُعزز علاقةً قائمة على المنفعة المشتركة بين المورِّد والزبون. تعريف التسويق حتى يتسنى لنا فهمُ بعض الموضوعات التي سنتناولها، نحتاج لأن نوضِّح الفرق بين بعض المصطلحات الرئيسية. لنبدأ بالفرق بين «السلع» و«الخِدمات»، وبين «الزبون» و«المستهلِك». «السلع» هي منتَجات مادية يمكن صنعها وتشكيلها (إعطاؤها شكلًا) ونقلها إلى السوق. ومن الأمثلة على السلع المنتجات الاستهلاكية السريعة التداول مثل الأغذية المُعلَّبة، ومستلزمات النظافة الشخصية، والمشروبات، وهي المنتجات التي تُباع سريعًا وبسعر منخفض نسبيًّا، أو السلع المُعمِّرة والسلع الإلكترونية مثل الثلاجات والمجمِّدات والتلفزيونات ومُعَدَّات الصوت. أما «الخِدمات»، فهي عرضٌ يُقدَّم للسوق ليس له وجود مادي، لكنه يوفِّر قيمة عن طريق تفاعل بين مُقدِّم الخدمة والزبون، مثل الاستشارات والتعليم وصناعة الترفيه وخِدمات تصفيف الشعر. توصف الخدمات بأنها أنشطة غير ملموسة، ويُستفاد منها فقط وقت تقديمها، ومتغيِّرة، ولا يمكن فصلها عن مُقدِّم الخدمة. فتسريحة الشعر أو حصة ممارسة الألعاب الرياضية أو جلسة تقديم المشورة ليس لها وجود مادي مستقل، بمعنى أنه لا يُمكن تخزينها لاستخدامها لاحقًا. ولكل مستهلِك رأيٌ مختلف في كل حدث خدمي؛ إذ يرتبط كلٌّ من هذه الأحداث ارتباطًا وثيقًا بتفاعل المستهلِك مع مُقدِّم الخدمة. فتسريحة الشعر المثالية التي تليق جدًّا بشخصٍ ما قد تكون كارثيةً بالنسبةِ لشخصٍ آخر. عادة ما يُستخدم مصطلح «المنتج» (حتى في هذا الكتاب) باعتباره مصطلحًا شاملًا يعبر إما عن السلع المادية وإما عن الخدمات، وهو شيء من شأنه أن يوفر قيمةً أو إشباعًا (أو كليهما) لمستخدِمه أو مستهلِكه في السوق. ويُعَد كثيرٌ من المنتجات التي تُشترى في وقتنا الحاضر مزيجًا من السلع المادية والعناصر الخدمية؛ ومن ثَم، فهي تقع في مكانٍ ما بين «السلع» المادية والعروض «الخدمية». فعند الذهاب إلى مطعم لتناول وجبة، فإنك تحصل على «السلع» المادية المتمثِّلة في الأطعمة والمشروبات، التي يُعِدُّها طهاة ويُقدمها لك النُّدُل، وهؤلاء هم العناصر الخدمية. وبعض المنتجات المعروضة للبيع سلعٌ مادية بالدرجة الأولى (كمِلح الطعام أو الدرَّاجات)، لكنها عادةً ما تُقدَّم للمشتري عبر خِدمات مثل منافذ البيع بالتجزئة أو المنصات الإلكترونية. أمَّا البعض الآخر، فهو أقرب إلى الخدمات الخالصة، مثل طب العظام والتأمين والتعليم. وهذه الأمثلة الخدمية، كالإقامة في الفنادق، لها جوانب مادية مهمة أيضًا مثل الأسرَّة، ومرافق مثل صالات الألعاب الرياضية أو حمَّام السباحة، وسلع مُحسِّنة مضيفة للقيمة مثل مستلزمات النظافة الشخصية في الفنادق. لطالما كانت الفروق بين الزبون والمستهلِك محل نقاشات عديدة. الزبون ببساطة هو الشخص الذي يشتري السلع والخدمات من المُنتِج أو مُقدِّم الخدمة. أما المستهلِك، فهو الشخص الذي يستخدم المنتَج أو يستفيد من الخدمة المقدمة بالفعل. وقد يكون الزبون هو المستهلِك أيضًا، ولكن عادةً ما يكون الزبون وسيطًا مثل منافذ البيع بالتجزئة ومشتري المواد الخام، أو أصحاب حقوق الامتياز الذين يشترون الحق في استخدام اسم علامة تجارية، مثل أصحاب حقوق امتياز ماكدونالدز. لكننا ننوي في هذا الكتاب استخدام كلمة زبون لتشمل الزبائن والمستهلكين. كيف بدأ التسويق؟ يرى البعض أن التسويق هو مفهومٌ نشأ من أنشطة البيع؛ إذ تطوَّرت الأسواق واحتدَّت المنافسة بين بائعي المنتَجات والخِدمات المختلفة، وأصبحت لدى المنظمات حاجة للترويج عن عروضها حتى تتمكن من التفوق على مُنافسيها. عادةً ما تُقسِّم المنظماتُ المبيعاتِ والتسويقَ إلى مجالَين وظيفيين مستقلين لهما موظفون مختلفون ومسئوليات وأهداف مختلفة. غير أن نشاط المبيعات في الأساس نشاط تسويقي، ويجب أن يتماشى مع الأنشطة التسويقية الأخرى. شكل ١-١: إعلان صابون بيرز. يُعتقد أن نشاط التسويق الذي نعرفه في وقتنا الحاضر قد بدأ مع بداية استخدام الكُتيبات الإعلانية في القرن الثامن عشر، وازدهر مع استخدام الإعلانات في الصحف اليومية في بدايات القرن التاسع عشر ومنتصفه. فاللوحات الإعلانية أصبحت شائعة في خمسينيات القرن التاسع عشر، وهو ما أدى بالفعل إلى ظهور الحملات الترويجية الجادة التي كانت مسئولة عن خلق وعي بمنتَجات وعلامات تجارية بعينها.
48
1,033
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Marketing
Kenneth L. Monier-Vitzhio
Social Sciences
Specialized
3,010,120
BAREC_Hindawi_51803716_001.txt
الفصل الأول (يُرفع الستار عن بيت شاه العجم، واثنين من الحرس، وغلمان. ) المنظر الأول الغلمان: بزغت شمس التهاني في سماء الافتخارِ مذ بدا قان الزمان ذو المعالي والوقار مَلكٌ فينا عطوف منعمٌ برٌّ كريم محسنٌ عدلٌ رءوف طاهر القلبِ رحيم فأدِمه بالسرور يا إلهي والصفا أبدًا مدى الدهور مُسعفًا ومُنصفا عِش أخا الإنشاد واسلم ما انجلى البدر التمام مُشرقًا سامي معظَّمُ في ابتداء وختام (ويذهبون. ) ملك: لا يسلَم المرء من همٍّ ومن كَدرٍ ولو ترفَّع فوق الشمس والقمرِ إن أحسنت هذه الدنيا لطالبها يومًا فتعقبه غمًّا مدى العمرِ عليَّ بولدي محمود. حاجب: أمرك يا معدن الجود. ملك: ما أنعم الله على عبده بنعمة أوفى من العافية، وكل من عُوفِيَ في جسمه ودينه في عيشة راضية، أسفًا على رُشدك يا محمود، وعقلك الذي كنتَ عليه محسود، ما أصابه بعد الحزم والنبالة، فأضاع نكاله، وأفقده خِلاله، كان أديبًا عاقلًا، أريبًا كاملًا، إن تكلم فاضت الحِكَمُ من ينابيع لسانه، وأُعجِب البلغاء بفصيح نطقه وبيانه، والآن أراه يجتهد في الابتعاد، وتقليد مذهب الانفراد، لا يأنس بإنسان، ولا ينفك عن الكتمان، فبمَ أستطلع خبأة غَوره، وأقف على حقيقة أمره؟ ولدي محمود. محمود: لبيك لبيك يا والدي، فإني سميع مجيب. غرامي غريمي ودمعي غدا من الوجد والسُّقم صَيْبًا صبيب وجسمي براه الهوى والنَّوى كواهٍ فأمسى كليمًا كئيب وقلبي الولهان تلظَّى بالنيران وطال أيني وحان حيني من لوعة الهجران يا بهجة الأكوان وصل الشجي ما آن جودي بقربي أذهبتِ لُبِّي بالصد والحرمان ملك: بزغت أمارة الفرج، وانجاب غيم الحرج، وظهر أنه كليم هواه، وأسير وجده وجواه، ممن اعتراك يا ولدي هذا الغرام؟ محمود: آه هذا الغرام! بذات حسنٍ تنجلي كالشمس وسط الحملِ لها الدموع قد جرت مثل الفرات السلسلِ يلوم فيها عاذلي أين الشجي من الخليِ؟ ملك: ومَن هذه العشيقة يا ولدي؟ محمود: آه هي التي أذابت كبدي. ذات القوام السمهري أخت الغزالْ من أخجلت بالخَفَر ضوء الهلالْ كادت بسهم الحور واللطف تمحو أثري فاعذروني ضاع فكري من الجوى والسهرِ ملك: أنت مغروم يا بُني، فأوضح عشيقتك لديَّ، لأُبلغك مُشتهاك، ولو كان في السِّماك. محمود: آه يا أبي، السِّماك أقرب من طلبي؛ لأني عشقت صورة على ورق، واعتراني في حبها الوجد والأرق، ولو لم تكن صاحبتها في الوجود، لما استحوذ حبها على قلب ولدك محمود. يا ليت شِعري من كانت وكيف سرت أطلعة الشمس كانت أم هي القمرُ؟ أظنها العقل أبداها تدبُّره أو صورة الروح أبدتها لي الفِكرُ أو صورة مثَلت في النفس من أملي فقد تحيَّر في إدراكها البصرُ لو لم يكن كل هذا فهي حادثة أتى بها سببًا في حتفي القدرُ ملك: ما هذا الزَّيْغ يا محمود، الذي أخرجك عن الحدود؟ أسُمِع أن أحدًا من الناس، عشق صورة على قِرطاس؟ محمود: مذاهب العشق يا والدي تختلف، يدركها كل مُشوَّق كَلِف، فقد يكون باللمس، ويكون بالنظر، ويكون باستحسان بعض الصور، ويكون يا والدي بالسماع، فيُوقِع المُحبُّ في النِّزاع، وقد يكون بمجرد الوصف، فيُورد العاشق موارد الحتف، ومنهم من أصابه في الأحلام، فانتبه مرعوبًا من الوجد والهُيام، ومنهم من عشق باللثم، فكابد كل غمٍّ وهمٍّ، وقد يكون العشق اختياري، ويكون بمسارقة النظر اضطراري، وللعشق يا والدي مراتب وأحكام، يعرفها كل من عشق فهامَ، والخلاصة يا والدي الحنون، أن الجنون فيه فنون. جنون العشق والبلوى فنون إذا عبثتْ بذي لُبٍّ عيون وتلك عن القلوب لها حديث وأسرار تدق لها شئون وما حركاتها إلا معانٍ بما يُبديه تنبعث الشجون فتنطق عن خبايا في الزوايا بما يبدو به السر المصون فيُطمع بالمُنى صبًّا تعنَّى بمعناه وغايته المنون الوزير (يدخل): سلام في سلام في سلام عليك ورحمة الله السلام محمود: سلام في سلام في سلام عليها ورحمة الله السلام أضاعت بين أحشائي فؤادًا وجمسي ضاع من بعد السَّقام عَيْني لمعناك ذاتَ الحسن عاشقةٌ يا صورة رسمُها للعقل فتَّانُ الله في حال صبٍّ لا نصير له في قلبه من جوى الأشجان نيران ملك: انظر يا وزيري الودود، أحوال ولدي محمود! وزير: ما هذا الحال أيها الأمير؟ محمود: دعني أيها الوزير. دعني من اللوم إن العشق فعَّالُ
93
711
19-qaf
19
7
5
3
Hindawi
Prince Mahmoud, Son of the Persian King
Ahmed Abu Khalil Al-Qabani
Arts & Humanities
Specialized
3,010,121
BAREC_Hindawi_52406949_001.txt
مي الأديبة الإنسانة (١) ذكريات عن مي عَرفتُ نابغة الأدب العربي «الآنسة مي» قبل وفاتها ببضع سنوات، وكنتُ وقتئذٍ كاتبًا ناشئًا، وقد وصَّلني بها عملي في الصحافة والأدب، وكانت وقتئذٍ تُحرِّر بحوثًا في «الهلال» و«المُقتطف» و«الرسالة»، وكنتُ أعجب بنبوغها وسعة اطِّلاعها وما تفرَّدت به بين لِداتها من جمال النفس، وجمال الخلق، وجمال الأسلوب. وقد حرصتُ في ذلك الحين على زيارتها كثيرًا؛ لأتزوَّد من أدبها زادًا وفيرًا، وكانت جلساتها عامرة بأسمى الأفكار وأحسن الآراء وأطرف الذكريات. وكنتُ في هذه الجلسات أشهد من حلاوة الحديث، وصفاء النفس، ولطافة الحِس، ورِقة العاطفة، ورهافة الوجدان ما يُذكِّرني بأميرة الأندلس «ولَّادة بنت المُستكفي بالله» في القرن الخامس الهجري. فقد تغنَّت أسفار الأدب، وترنَّحت أعطاف الشعر الأندلسي بمجالسها الأدبية. وكانت ک«مي» تُجالس العلماء والأدباء، وتُناقشهم، وتُباحثهم، وتُعارضهم عن عقل ناضج وملَكة أبِيَّة ورِفعة في المَحتِد وشرف في النفس، ولم تنزِع يومًا إلى رِيبة، ولم تنزلق إلى مأثمة، وعاشت حياتها لم تتزوج! ولعل الآنسة «مي» كانت في عصرنا الحديث أقرب إليها في مزاياها الأدبية، وإنْ خالفتها في ميولها العاطفية، بل لقد فاقت «مي» «ولَّادة» بما كان لها من سِعة في الأُفق الفكري، ووفرة في الاطِّلاع، ومعرفة لعدد من اللغات الأجنبية. غير أن «ولَّادة» كانت صاحبة مدرسة في الأدب النسائي، سارت فيه على نهجها طائفة من نساء الأندلس، كمهجة القُرطبيَّة، وحمدونة بنت زياد، وغيرهما ممن نهجن نهجها في الأدب العاطفي والحب الرُّوحي. أما الآنسة «مي»، فقد كانت مدرسة وحدها، كانت أديبة نابغة، ومُفكِّرة ثاقبة، وعربية مُحافِظة، جمعت بين أدب العاطفة، وأدب النفس، وحب المحافظة على التقاليد، وكانت تُؤيِّد حرية الفِكر، وتعفُّ عن الصغائر، لا تذكر إنسانًا بسوء. وكان الزائر لمنزلها يرى في صدره إطارًا جميلًا يحوي شِعارها في الحياة مكتوبًا بخط ذهبي، وهو هذه الأبيات الأربعة للإمام الشافعي: إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى وعيشك موفور، وعِرضُك صيِّن لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معايبًا فصُنها، وقُل يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى وفارق، ولكن بالتي هي أحسن وقد كانت تميل إلى قراءة الشعر وسماعه، وتتأثَّر به كل التأثُّر، وبخاصة الشعر العاطفي، وشعر الموعظة والحكمة، وما يكشف عن حقيقة النفس الإنسانية وتجارب الحياة والناس. وقد وُلِدَت الآنسة «مي» في بلدة الناصرة عام ١٨٩٥م، ووالدها إلياس زيادة من لبنان، ووالدتها سيدة متعلمة من فلسطين. وكان إلياس قد سافر مع كسروان بلبنان إلى الناصرة ليُعلِّم في إحدى مدارسها، فتزوج هذه السيدة، فولدت له «مريم» وابنًا تُوفِّي صغيرًا. أما «مريم» فقد أُرسِلَت في نشأتها الأولى إلى مدرسة عنطورة، ثمَّ التحقت بغيرها من معاهد تعليم البنات في لبنان قبل أن تسافِرَ إلى مصر مع والدها ووالدتها، وكانت تُدعى «ماري»، ثمَّ أطلقت على نفسها «مي». وقد حدَّثتني عن نشأتها الأولى فقالت: «في مشاهد لبنان الجميلة، حيث الجِنان المُزدانة بمشاهد الطبيعة الضاحكة، والجبال المُشرقة بجلالها على البحر المنبسط، عند قدَم هاتيك الآكام الوادعة، كنت أسرح الطَّرْف بين عشِيَّة وضُحاها وأنا طفلة صغيرة بمدرسة عنطورة، فكانت تُوحي إلى نفسي معاني الجمال، فتفيض بها شِعرًا أُسطِّره في أوقات الفراغ، وأثناء الدروس التي كنت أشغَل عنها بنظم الشعر وتدوينه، حتى اجتمع لي منه مجموعة باللغة الفرنسية سميتُها «أزهار الحلم» ونشرتُها بإمضاء «إيزيس كوبيا» عام ١٩١١م، بعد أن نزلت مصر مع والدي، وكانت هذه المجموعة أول كتاب صدر لي في عالم التأليف. ولما رأى المحيطون بي أني أكتب باللغة الفرنسية دون العربية، نصحوني بدراسة اللغة العربية، ومُطالعة الكتب العربية الفصحى. وكان والدي — رحمه الله — قد أصدر في هذا العهد جريدة «المحروسة»، فأخذتُ أقرأ بعناية كل ما يكتبه فيها كبار الكُتَّاب، حتى تكوَّنت لي ملَكة عربية شجَّعتني على ترجمة رواية فرنسية بعنوان: «رجوع الموجة»، وكانت أول كتاب نشرته باللغة العربية. ثمَّ أخذتُ أتابع الترجمة والكتابة، فترجمت عن اللغة الألمانية رواية «غرام ألماني»، ونشرتها بعنوان «ابتسامات ودموع». وفي عام ١٩١٣ زارنا المرحوم الأستاذ سليم سركيس، ودعاني لإلقاء خطاب جبران خليل جبران في حفلة تكريم خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بالوسام المجيدي، فقبِلت هذه الدعوة. وكانت هذه أول مرة وقفتْ فيها فتاة عربية تتكلم باللغة العربية في حفلة رسمية تحت رعاية حاكم البلاد. وبعد أن تلوت الخطبة ذيَّلتها بكلمة من عندي لتحية المحتفل به، فلقيت من الحاضرين تشجيعًا عظيمًا. وبعد ذلك ابتدأ يجتمع عندنا «صالون أدبي» كل يوم ثلاثاء مكث أعوامًا تحت رئاسة المرحوم إسماعيل صبري باشا، فاقتبست منه تهذيبًا عربيًّا بما كان يُلقى فيه أثناء الحديث باللغة العربية الفصحى. وفي عام ١٩١٤ أرادوا أن يُؤسِّسوا ناديًا أدبيًّا مختلطًا من الشرقيين والغربيين بدعوة من البرنسس أولفادي لبيديف، فدُعيت إلى الاشتراك فيه. وكان بعض المجتمعين فيه من الوزراء السابقين، ووزراء الدول الأجنبية وقريناتهم، والعلماء، والأدباء، وكِبار القوم. وفي هذا الاجتماع قال لي «أحمد لطفي السيد» أثناء حديثه معي: «لا بُدَّ لك يا آنسة من تلاوة القرآن الكريم، لكي تقتبسي من فصاحة أسلوبه وبلاغته.» فقلتُ له: «ليس عندي نسخة من القرآن.» قال: «أنا أُهدي إليكِ نسخة منه.» وبعث لي به مع كُتُب أخرى، فابتدأت أفهم اتِّجاه الأسلوب العربي، وما في القرآن من روعة جذَّابة ساعدتني على تنسيق كتابتي.
48
945
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Phantoms from the Life of Mai
Taher Al-Tanahi
Social Sciences
Specialized
3,010,122
BAREC_Hindawi_52418472_001.txt
الابتكار والتفوق في المنافسة إن تقدمنا الهائل في مجال النقل — الذي شهدناه في الماضي وسنشهده في المستقبل — ليس سوى دليل على التقدم الذي يتيحه السعي الدائم نحو اكتشاف آفاق جديدة في جميع الأنشطة البشرية. فكيف سندرك ماهية الآفاق الجديدة التي تنتظرنا إذا لم نستطع الحفاظ على حس المبادرة وتطوير المخيلة اللازمة لاقتحام تلك الآفاق، حتى يتمتع الجميع بمستويات أعلى من الرفاهية في كل مكان. ألفريد بي سلون؛ الابن (١) خلق مجال عمل جديد في أولى ليالي عمل فيدكس — بتاريخ ١٧ أبريل ١٩٧٣ — وقفت مجموعة صغيرة من الموظفين حول نظام تشغيل مؤقت؛ حيث قاموا بفرز ١٨٦ طردًا، ثم حمَّلوها على ١٤ طائرة صغيرة سرعان ما أقلعت متجهة نحو ٢٥ مدينة في شتى أنحاء الولايات المتحدة. في تلك الليلة، أصبحت شركة فيدكس أول شركة نقل متخصصة في النقل الليلي السريع للطرود. وبعد اثنين وثلاثين عامًا، تتولى فيدكس توصيل ما يزيد على خمسة ملايين طَرْد يوميًّا، وتخدم ٢١٥ دولة حول العالم. نمت إيرادات فيدكس من ستة ملايين دولار فقط عام ١٩٧٣ إلى ما يزيد على ٢٤ مليار دولار عام ٢٠٠٤ وفي عام ١٩٨٣، كانت الشركة الأولى التي بلغت عائداتها مليار دولار في ظرف ١٠ سنوات من إنشائها، دون أن تستحوذ على شركات أخرى. أنفقت الشركة أثناء السنوات الثلاث الأولى من عملها (١٩٧٣–١٩٧٥) ما يزيد على ٢٩ مليون دولار في تأسيس بنيتها التحتية، وتصميم الشبكة التي ستتيح لها البدء في تحقيق الأرباح، وجنتْ في السنوات الثلاث الماضية (٢٠٠٢–٢٠٠٤) دخلًا صافيًا يزيد على ٢٫٣ مليار دولار. حاليًّا تضم شركة فيدكس — التي تطورت باستمرار للوفاء باحتياجات العملاء — أربع شركات عاملة تربط الاقتصاد العالمي عبر نطاق متكامل من خدمات النقل والمعلومات وسلاسل التوريد. لم يحدث هذا التحول والنمو بين عشية وضحاها. من بين العوامل التي ساهمت في نجاح فيدكس المذهل كان تطوير حلول أعمال متخصصة. أحد الأمثلة على ذلك يتمثل في علاقة فيدكس بشركة هيوليت-باكارد (إتش بي)؛ ففي مجال صناعة أجهزة الكمبيوتر السريع التغير؛ حيث تظهر طرز جديدة من الأجهزة كل شهر، أدركت شركة إتش بي أن أي جهاز كمبيوتر يتم تخزينه في المستودع معرض لأن يصبح طرازًا قديمًا؛ ومن ثم تعاونت فيدكس مع هيوليت-باكارد من أجل تطوير سلسلة توريد أنهت فترة تخزين أجهزة الكمبيوتر الشخصية المحمولة الرائدة التي تنتجها شركة إتش بي. وأصبحت أجهزة الكمبيوتر المحمولة تُشحن مباشرةً من المصانع في الصين إلى المنازل والشركات في شتى أنحاء أمريكا الشمالية في ظرف يومين أو ثلاثة أيام عمل. على مرِّ السنوات الخمس الماضية، تضاعف سعر سهم شركة فيدكس، وفي نفس الفترة ازداد سعر سهم منافستها الرئيسية — شركة يونايتد بارسل سيرفيس (يو بي إس) — بنسبة ١٥ بالمائة فقط، أما شركة ستاندارد آند بورز ٥٠٠، فقد انخفض سعر سهمها ٢٠ بالمائة. صُنفت شركة فيدكس باعتبارها واحدة من أفضل ١٠٠ بيئة عمل في أمريكا (مجلة «فورتشن» ١٩٩٨–٢٠٠٤)، وكذلك كواحدة من أكثر الشركات إثارة للإعجاب في أمريكا (٢٠٠١–٢٠٠٤). عن طريق استغلال حس الإبداع والالتزام لدى الموظفين قبل إنشاء شركة فيدكس، عين فريد سميث مستشارين كي يعدوا دراسة جدوى، ويساهموا في تحويل فكرة مشروعه إلى خطة عمل مُفصَّلة. وفق تقديرات هؤلاء المستشارين، بلغ إجمالي حجم السوق المرتقب لخدمات الشحن الجوي نحو مليار دولار. واليوم يصل نصيب شركة فيدكس في قطاع النقل السريع إلى ما يزيد على ١٧ مليار دولار. ما الذي مكَّن فيدكس من بدء مجال النقل السريع وزيادة إجمالي حجم السوق، بل والاستمرار في الحفاظ على أكبر حصة في السوق؟ إن ما حوَّل فيدكس إلى مركز قوة عالمي، وجعلها واحدة من أكثر العلامات التجارية العالمية الموثوق بها هو تطبيق ممارسات القيادة التي استفادت من الجهد التقديري، والإبداع، والالتزام لدى موظفيها على جميع مستويات الشركة؛ أي عبر إرساء ثقافة أداء وابتكار مزدهرة. صحيح كان فريد سميث هو صاحب الفكرة الأصلية، لكن ما حوَّل فكرته إلى مشروع تجاري ناجح هو إبداع الموظفين والتزامهم؛ فقد أعد موظفو فيدكس وقدَّموا عروضَ خدمة عملاء فريدة من نوعها (تراعي رغباتهم) أبقت الشركة دومًا في موقع متقدِّم على منافسيها. ومع أن مديري فيدكس لم يعتزموا على نحو متعمد خلق ثقافة ابتكار مستدامة، فإن ذلك هو ما حققوه بالضبط؛ إذ أتاحت بيئة العمل الحرة والداعمة للموظفين في جميع مستويات الشركة المشاركة في عملية الابتكار. وقد لعبت سلوكيات وممارسات القيادة اليومية وأنظمة الدعم التنظيمية في الشركة دورًا رئيسيًّا في نجاح فيدكس المذهل. يطرح هذا الكتاب نموذجًا — أو إطارًا — يوضح كيف تمكنت ممارسات القيادة تلك جنبًا إلى جنب مع أنظمة الدعم التنظيمية المذكورة من إرساء ثقافة الأداء والابتكار في فيدكس والحفاظ عليها. إن فيدكس لا تتبع دليل عمل يحمل عنوان «منهج فيدكس: كيف تؤسس ثقافة الابتكار وتدعمها؟» لكن الكتاب الذي تقرؤه يعتمد على تجارب مديري فيدكس المباشرة، وعلى تفسيرهم لهذه التجارب في إطار نموذج ثقافة الابتكار وعملية الخطوات الثلاث (التوليد، والقبول، والتطبيق). وعلاوة على ذلك، يجب على قادة الشركات أن يضعوا نصب أعينهم حقيقة أنَّ تبنِّي مجموعة كاملة من المبادئ والممارسات من مؤسسة أخرى، ومحاولة مواءمتها مع الثقافة القائمة بالفعل لدى شركاتهم؛ ليسا بالأمر السهل ولا العملي؛ لأن كل «شركة تتسم بطابع فريد.»
37
876
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
FedEx: A Success Story
Madan Birla
Social Sciences
Specialized
3,010,123
BAREC_Hindawi_52461953_001.txt
معاملات الإنسان الأول ما كان للإنسان أن يعرف التعامل وهو يعيش في زمرة الحيوان معدوم المطامع إن بدت له حاجة حازها غصبًا وإلا انصرف عنها عاجزًا. حتى إذا ما بلغ عهده الباليوليطيقي، وتولدت مطامعه من حاجاته أعمل عقله، فاتَّخذ من الحجارة ذات الأطراف الحادَّة عدَّة يقاتل بها الضواري دفاعًا عن نفسه، أو يصيدها ليتخذ من لحومها وفرائها طعامًا ولباسًا. ولا يلبث أن يجد نفسه مضطرًّا إلى التفكير في الأخذ والعطاء ليحصل على اللحوم والجلود إذا طلبها فامتنعت عليه، فيجتاز مرحلة الحيازة كرهًا إلى مرحلة الحيازة عن طريق الرضاء المتبادل بينه وبين شخص آخر. يقول الاقتصادي الكبير آدم سميث في تعليل ذلك: «إن الإنسان مدفوع بسليقته إلى المبادلة التي فُطِر عليها دون غيره من الحيوان.» ولكن آدم سميث لم يبين لنا أن هذه الظاهرة نتيجة محتومة لعقل الإنسان ولسانه، فلم يعللها ذلك التعليل الموجز الجامع الذي قال فيه ابن خلدون: «إن الإنسان مدني بطبعه.» ولم يذهب في دقة التحليل مذهب الأستاذ زيمل حين قال: «إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يرى الأمور على حقيقتها المجردة، فينزل على حكمها فيتبادل مع غيره؛ لأنه يجد في المبادلة شيئًا أسمى من الإعطاء والحرمان.» وهي عنده تقويم وقبول يخرج المسألة من مجرد استلاب لحاجة الغير إلى حيث تصير نفعًا لا غنى عنه. ولكن كيف كان يجرى ذلك التعامل في أول عهد الناس به؟ إن التعامل لم يكن يتمُّ إلا بين شخصين كل منهما في حاجة إلى ما عند صاحبه، ولم تكن الحاجيات إذ ذاك لتزيد عن اللحوم والجلود والعظام، ولما كانت اللحوم سريعة العطب فإن الجلود والعظام كانت هي الأكثر تداولًا في المعاملات، حتى قال المؤرخون: إن المبادلة قامت في الجماعات البشرية على اختيار مادة أو أكثر تؤدي بين الناس مهمة الوساطة في التبايع، وكسب الأرزاق، ويستندون في زعمهم هذا على وجود كميات من المحار وعظام الحيوان عثر عليها المنقبون إلى جوار هياكل آدمية يرجع تاريخها إلى أقدم العصور، ويستنتجون من دفن هذه العظام والمحار مع الموتى أنها كانت تعتبر في الأزمنة الغابرة من الأمتعة الثمينة المذخورة التي كانت تتداول، وصح بذلك رأي المقريزي؛ فقد ثبت بالدليل القاطع أن المحار كان نوعًا من العملة في بعض البلاد الصينية، وأنه ما زالت بعض القبائل المتوحشة من هنود أمريكا وزنوج أفريقيا يتعامل الآن بالمحار وعظام الحيوان وريش الطيور، ويفرق بينها في القيم تبعًا لألوانها وأحجامها، وهذا هو أيضًا رأي علماء عادات الشعوب الذين يقولون بوجود شبه كبير بين الأقدمين الباليوليطيقين، وبين هذه القبائل المعاصرة. السلع النقدية إننا وإن كنا لا نستطيع أن نقطع برأي حاسم في أمر من أمور تلك الحقبة المجهولة من عمر الإنسانية، إلا أننا نستطيع أن نتحدث في شيء من الدقة عن المعاملات في عهد الإنسان النيوليطيقي الذي عرف الزراعة واستأنس الماشية، والذي عثر على النحاس وهو يشق الأرض، فاستخدمه في تقوية عدده الخشبية والحجرية، ثم صنع منه أخيرًا ما رآه لازمًا لأغراضه الأخرى. وبديهي أن الإنسان في ذلك الوقت كان قد أدرك القليل من معاني الرزق، وكنه الثروة، ولا شك في أنه قد كثرت معاملاته، ومن المحقق أنه قد تعامل بأنفع ما يملك من الأشياء، وهي عدد القتال وأدوات الفلاحة والمحاصيل الزراعية والماشية. وقد لعب الثور دورًا هامًّا في تاريخ الشعوب كلها، وحسبه أن كانت له القيمة الكبرى في التقديرات كما للذهب الآن، ولذلك رسمه قدماء المصريين على آثارهم جاثمًا في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى حلقات المعادن المعروفة لعهدهم. وكذلك كان قدماء الإغريق يقوِّمون به السلع، فقد جاء في إلياذة هوميروس: أن سلاح ديوميد قدر بتسعة ثيران، كما قدر سلاح جلوكوس بمائة ثور، وقدرت الجارية بأربعة ثيران، وهذا هو نفس ما يجرى عليه العمل الآن عند قبائل خط الاستواء، حيث يقدر الرقيق بخمسة ثيران أو ببندقية ذات ماسورتين ومعها زجاجتان من البارود. ومن السلع النقدية ما تفرضه ظروف خاصة على بلد من البلدان كالأرز وأقراص الشاي المضغوط في آنام وسواحل الصين والهند، وكالحيتان والجلود السميكة في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية.
31
660
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
A Summary of Money and Monetary Policy
Zakaria Mehran
Social Sciences
Specialized
3,010,124
BAREC_Hindawi_52758494_001.txt
ربط وتقديم انتهيت في الحلقة السابقة من محاضراتي عن المسرح النثري في أدبنا المعاصر، من الحديث عن رواد هذا المسرح النثري الذي لم يظهر في عالمنا العربي إلا متأخرًا عن المسرح الشعري، الذي طبع به مارون نقاش فننا التمثيلي منذ أول نشأته، متأثرًا في ذلك بما شاهده في إيطاليا من فن الأوبرا الذي راقه، وأحس بأنه لا بد أن يروق الشعب العربي الذي يحب الطرب عن طريق الغناء والموسيقى أكثر مما يمكن أن يروقه فن التمثيل الخالص، الذي سمَّاه مارون بالإيطالية بفن «البروزا»، أي فن النثر. وظل الطابع الغنائي غالبًا غلبةً ساحقة على ما تقدِّمه المسارح العربية في الشام ومصر، إلى أن استطاع أن يستقل فن التمثيل بذاته عن الفنون الأخرى، وباستقلاله أخذ يظهر شيئًا فشيئًا المسرح النثري، وبخاصة بعد أن عاد ممثِّلنا الكبير جورج أبيض من بعثته التمثيلية في فرنسا سنة ١٩١٠، وأخذ يقدِّم عددًا من المسرحيات العالمية التي يستقل فيها فن التمثيل عن غيره من الفنون، وإن يكن جورج أبيض نفسه قد اضطر أحيانًا كثيرة تحت ضغط البيئة أن يعود إلى المسرح الغنائي مع الشيخ سلامة حجازي حينًا ومع غيره حينًا آخر. وبالرغم من كل ذلك، فقد عثرنا على عدد من كُتاب المسرحية النثرية الكبار، أمثال إبراهيم رمزي وفرح أنطون وأنطون يزبك ومحمد تيمور، ودرسنا لكل واحد من هؤلاء مسرحية أو أكثر كنموذج لأنواع المسرحيات النثرية التي ظهرت في مصر منذ مطلع هذا القرن حتى قيام الحرب العالمية الأولى. وبالرغم من أن شاعرنا العربي الكبير أحمد شوقي قد عاد إلى كتابة المسرحيات شعرًا، ابتداءً من سنة ١٩٢٧، بعد أن كان قد هجر هذا الفن على إثر تأليفه للطبعة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير»، التي كتبها في فرنسا سنة ١٨٩٣ أثناء دراسته بها، وأنه بعودته إلى هذا الفن الشعري قد أوجد ما يصح أن نسمِّيه حقًّا في أدبنا العربي المعاصر ب «الشعر التمثيلي»، ثم تابَعَه في ذلك نفرٌ قليل مثل الشاعر عزيز أباظة؛ نقول: إنه بالرغم من ذلك فإن المسرح النثري هو الذي ينمو ويزدهر ويغزر إنتاج أدبائنا المعاصرين له، وبخاصة الأديبان الكبيران توفيق الحكيم ومحمود تيمور، اللذان أتاحت لهما ظروف الحياة الانقطاع للأدب والتوفر على إنتاجه، وإذا كان هذان الأديبان الكبيران قد جمعا في إنتاجهما الأدبي بين الرواية الطويلة والقصة القصيرة والمسرحية النثرية، دون أن يتخصَّص أيٌّ منهما في فن أدبي بذاته، فإننا نلاحظ مع ذلك أن الطابع القصصي هو الذي غلب على إنتاج الأستاذ محمود تيمور، وبخاصة في مجال القصة القصيرة الذي يُعتبر من أبرز أعلامه، بينما غلب الطابع المسرحي على توفيق الحكيم وغزر فيه إنتاجه، حتى لَنراه يفضِّله كقالب لعدد من الموضوعات التي عالجها. ويغلب على الظن أنه قد كان الأجدر بها أن تُصب في قوالب أخرى من قوالب الأدب، كقالب القصة أو السيرة اللذين يلوحان أكثر مواتاةً لتحريرِ موضوعٍ كسيرة النبي محمد مثلًا، وهي التي عالَجَها الدكتور محمد حسين هيكل في قالب سيرة تاريخية دقيقة، وعالَجَها الأستاذ عباس محمود العقاد في صورة تحليلية نفسية ضمن سلسلة «عبقرياته»، وعالَجَها الدكتور طه حسين في كتابه القصصي «على هامش السيرة» وكتابه القصصي الآخر «الوعد الحق»، في حين فضَّل توفيق الحكيم القالب المسرحي أو القالب الحواري الخالي من كل مقومات الدراما الفنية، والذي لا يمكن أن يخطر على بال أحد أن يعرضه على خشبة المسرح؛ لأن كتاب «محمد» لتوفيق الحكيم وإن يكن مقسَّمًا إلى ثلاثة فصول وخاتمة — يضم كل منها عددًا من المناظر التي تبلغ في الفصل الأول ستة وثلاثين، وفي الثاني عشرين، والثالث ثلاثة وعشرين، وفي الخاتمة ثمانية مناظر! — إلا أن كل هذه الفصول والمناظر لا يرتبط بعضها ببعض بأية رابطة سببية، بل هي مجرد استعراض لحياة النبي في صورة مناظر طويلة أو قصيرة، بحيث نستطيع أن نقتطعَ أي منظر منها ونقرأَه، وإذا به لا يعدو أن يكون خبرًا تاريخيًّا صاغه المؤلف في صورة حوار. ولنضرب لذلك مثلًا بالمنظر السادس من الفصل الأول: المنظر السادس (عند أبي بكر وقد جلس إليه عثمان بن عفان. ) عثمان: إنك يا أبا بكر رجل صادق، وإنا لنحبك ونألفك. أبو بكر (لعثمان): والله يا عثمان ما دعاني محمد إلى دينه حتى أجبت، ما نظرت فيه وما ترددت. عثمان: إنك يا أبا بكر رجل صادق، وإنا لنحبك ونألفك لعلمك وخُلقك، ولا أحبَّ إلى نفسي من أن أتَّبع الدين الذي اتبعت. أبو بكر: إنه دين الحق. عثمان: إن الأمين لم يكذب قط. أبو بكر: نعم، إن محمدًا لم يكذب قط. عثمان: إن ما جاء به وما قصصته عليَّ قد أضاء قلبي بنور كأنه نور الضحى. أبو بكر: نعم، إنه النور الذي يهدي السبيل، لقد دخل داري فأضاء قلوب أهله الصالحين جميعهم حتى غلامي بلال. عثمان: اللهم إني على هذا الدين. أبو بكر (ينهض مغتبطًا): قم بنا إلى محمد. وواضح أن هذا المنظر إنما يستهدف شيئًا واحدًا هو أن يحدثنا عن الطريقة التي اهتدى بها عثمان إلى الإسلام بفضل أبي بكر. وفي المقدمة القصيرة التي كتبها توفيق الحكيم لكتابه «محمد» تحت عنوان «بيان»، يوضح لنا المؤلف لماذا اختار هذا القالب الحواري، فيقول: المألوف في كُتب السيرة أن يكتبها الكاتب ساردًا باسطًا محللًا معقِّبًا مدافعًا مفندًا. غير أني يومَ فكَّرتُ في وضع هذا الكتاب قبل نشره عام ١٩٣٦، ألقيت على نفسي هذا السؤال: إلى أي مدًى تستطيع تلك الطريقة المألوفة أن تُظهِر لنا صورة بعيدة — إلى حدٍّ ما — عن تدخُّل الكاتب، صورة ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل دون زيادة أو إضافة توحي إلينا بما يقصده الكاتب أو ربما يرمي إليه، عندئذٍ خطر لي أن أضع السيرة على هذا النحو الغريب.
30
950
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Tawfiq al-Hakim's Theater
Mohammed Mandour
Arts & Humanities
Specialized
3,010,125
BAREC_Hindawi_53169142_001.txt
إهداء تقديم١ تعود بي الذاكرة إلى بواكير علاقتي بعالَم نجيب محفوظ، ففي العام الدراسي ١٩٨٧-١٩٨٨م كنت في قريتي القريبة من الشمال الشرقي لمدينة القاهرة أدرس بالسنة النهائية بالمرحلة الثانوية العامة القسم الأدبي، وكان اهتمامي بالفن التشكيلي آنذاك كبيرًا، فرسمت صورة بورتريه لنجيب محفوظ، وأبرز ما فيها تلك الحسنة عند خده الأيسر، بعد أن رسمت أم كلثوم، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وطه حسين. وكانت تلك الأعمال موضوع جوائز بسيطة حصلت عليها أيام الدراسة الجامعية فيما بعد. وانتظمت في كلية الآداب بالسنة الأولى في عام ١٩٨٨-١٩٨٩م، وعند عودتي للقرية في أحد الأيام أسمع الخبر يتردد في الإذاعة وهو فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وقبل ذلك بشهور قليلة جدًّا تعرَّفت على زميل يدرس بقسم الفلسفة، وكان يعمل في الإجازة الصيفية في المملكة الأردنية الهاشمية، وأخبرني بأنه عاد ومعه نسخة من رواية «أولاد حارتنا»، وكنت أعرف أنها ممنوعة من النشر بمصر، وأن زميلي يعتبرها نسخةً مهرَّبةً وممنوعةً من التداول. وهذا المنع ربما شجَّعني على قراءتها علاوةً على أنه قال لي يومها إن نجيب محفوظ يهاجم الله — سبحانه وتعالى — والأنبياء في تلك الرواية. وكانت أوَّل قراءة لي لنجيب محفوظ سبقتها قراءات سريعة ومبسطة، ومعلومات في الصحف أو بعض المجلات، أو متابعة لبعض الأفلام المأخوذة عن قصصه، حتى درَّس لنا الدكتور السيد فضل (الناقد والأستاذ الجامعي وعميد كلية الآداب فيما بعد) بعض روايات نجيب محفوظ ذات الطابع النفسي؛ وهي الشحاذ والطريق؛ فزاد من إعجابي بعالم نجيب محفوظ رغم التحفُّظات الدينية التي أحاطه بها بعض الدعاة؛ وكان أهمهم الشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ محمد الغزالي، وبخاصة حول رواية «أولاد حارتنا»، التي كنت أرى في اليوم الذي قرأتها فيه أن نجيب محفوظ استحضر القرآن الكريم، وقصة خلق آدم وحوَّاء، وكذلك قصص الأنبياء؛ ليحكي تاريخ الإنسانية. وبالرغم من نشأتي الريفية القريبة من التديُّن إلا أني لم أستطِع أن أجاري المنتقدين من أنصار الجماعات الإسلامية الذين كانوا ينتشرون في الجامعة حينها، ومحاولاتهم الجادة لضَمِّي — هذه كانت طريقتهم مع كل طلاب الجامعة — إليهم وتجنيدي في صفوفهم في موقفهم من نجيب محفوظ، أو من حُبِّي للفن والأدب. وبعد سنوات بسيطة كنت قد تخرجت في الجامعة، وعملت في مجال الصحافة والمعلومات، وذات صباح في عام ١٩٩٤م قرأت الخبر المفزع عن محاولة اغتيال نجيب محفوظ بأيدي أحد الشباب على خلفية فتوى بتكفيره، وهزَّني الحدث؛ إذ كيف لشاب أن يقتل شيخًا عمره ٨٣ عامًا! وكيف طاوعه قلبه وكيف آمن عقله وكيف أمسكت يده بالسكين؟! بل والأدهى من ذلك كيف صدرت تلك الفتوى من جاهل بالدين وبالفن وبالأدب، بل وبالحياة نفسها؟ وظللت أتابع القضية وأخباره الصحية زمنًا، وأقرأ له كل ما تيسر لي. وفي عام ٢٠٠٠م سافرت للعمل خارج الوطن، وتعرَّفت على صديقي الشاعر السوري الكبير عيسى الشيخ حسن، وزاد من عمق علاقتنا أنه يعشق كل ما هو مصري، حتى لغته تحوَّلت إلى اللهجة المصرية، ليقول لي: «كُنَّا ونحن صغار نتباهى بتقليد لغة المصريين التي نراها في السينما، وكنا نتسابق لقراءة رواية أو كتاب لمبدع مصري، وإن نجيب محفوظ وجمال عبد الناصر وأم كلثوم هم من سيبقون في التاريخ. » ورأيت في مكتبته في حُجرته التي يسكنها — إذ كان يسكن في مكتبة لا في حجرة — معظم روايات نجيب محفوظ وغيره، ولقد منحني الكثير منها. وعندما جاء لزيارة مصر في صيف عام ٢٠٠٤م عاد ومعه حقائب تصنع مكتبة، وكان دافعًا قويًّا لي لكي أبدأ في مشروع القراءة النفسية للأدب الذي رأى بحدسه قدرتي على الإضافة إليه — ولعلي أكون استطعت تحقيق حدسه — وكانت البداية أن تحدثت عن الحرافيش ونجيب محفوظ في محاضرة عامة تحدثتْ عنها الصحف لأكثر من أسبوع، ونَشَر لي في الصفحة الأدبية الرئيسية بجريدة الشرق التي يعمل بها مقالَين عن الحرافيش، وفتح لي الباب للنشر في مجلة عَمَّان الثقافية بالأردن، لأحقق منها انطلاقةً بدأت من عام ٢٠٠٦م وحتى توقُّفها في نهاية ٢٠٠٩م، نشرت خلالها دراسات نقديةً للأدب، شِعرِه ونثرِه، من منظور علم النفس. وفي ٢٨ أغسطس ٢٠٠٦م سافرت للخارج وكنت مقيمًا لمدة يومين في أبو ظبي، ولم أسمع بالخبر، وعندما سافرت أيضًا لمكان عملي في دولة أخرى علمت بخلود نجيب محفوظ إلى الرفيق الأعلى في ٣٠ أغسطس، وكان حديث عيسى الشيخ حسن وعزاؤه مما لا يُنسى، وكانت الشرارة التي أشعلت في حواسي هذا الكتاب؛ فقد كتب يقول: «عرفت نجيب محفوظ يافعًا، تستوقفني عناوين روايات: خان الخليلي، خمارة القط الأسود، الشيطان يَعِظ، اللص والكلاب ... إلخ، فوق أغلفة مزيَّنة برسوم تماثل ملصقات الأفلام، وطبعات من الورق الفقير الأصفر، تعمد مكتبة مدينتنا الصغيرة إلى عرضها بأكثر من طريقة لعلَّ مراهقين مثلنا يُقبلون على شرائها مضحِّين بمصروف الجيب الزهيد، وكان علينا أن ننتظر مواسم الصيف لعلنا نستطيع شراء رواية أو روايتين. وكان علينا أيضًا أن ننتظر إلى أن نصل إلى الثانوية العامة لنحفظ مقتطعات من الثلاثية وزقاق المدق؛ كي ننجح في آخر العام. ذلك أن محفوظًا «الرائي» يدرك لعبة الواقع الماكرة فيكتفي بحمل الكاميرا ويصوِّر من بعيد، من زوايا مختلفة تحاول عبثًا أن تبعدنا عن أبطالنا الذين يختنقون بين طيَّات الورق الأصفر الفقير، بالرغم من خدعة الأغلفة الملونة بملصقات الأفلام. كان عليَّ أن أعاتب محفوظًا قبل أن يرحل وأنا أشارك سعيد مهران نقمته الحادة على ضياع الثورة التي أكلت أبناءها، كان عليَّ أن أشارك أولاد حارته البحث عن المطلق في العدل، وأشارك حرافيشه محنة تقلُّب الأمر بين تيارات عدة، تنتفض في البدء ثائرةً على الظلم الذي سُرعان ما يعود، وكأنه لا نهاية لهذا الشقاء الإنساني الطويل. وكان عليَّ أن أعيش معه في أحلام فترة النقاهة، وإن كنت أعرف أن محفوظًا — من دون تحفُّظ — هدية مصر والعرب إلى العالم في القرن العشرين عمومًا، وأن «جائزة نوبل» وإن جاءته على طبق السياسة المريب، فإنها استعادت هيبتها في ثمانينيات القرن الماضي بدعوتها روائيًّا مثل نجيب محفوظ، وشاعرًا مثل المكسيكي أوكتافيو باث إلى قائمتها، بعد أن فقدت بهاءها وهي تتنقَّل بفعل السياسة من أديب مغمور إلى أديب مغمور. كان عليَّ أن أطوف خان الخليلي في أمسية قاهرية عذبة، بين دكاكين المشغولات الشرقية التي صُممت على عَجَل من أجل السياح الباحثين عن سحر الشرق، وبعض لوحات الفن التشكيلي المُغْفَلة من أسماء الرسامين، وبين مقهى الفيشاوي الذي يأتي إليه الرجل ليقضي بعض الوقت هناك. كان عليَّ أن أعود إلى أعماله الأخيرة لأرى استبصاره بالنهاية، كما يؤكد ذلك صديقي د. خالد محمد عبد الغني. كان عليَّ أن أردد بأسًى: «كم نحن بحاجة إلى روايةٍ عن عرب ما بعد ١١ / ٩ يكتبها نجيب محفوظ».
32
1,111
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Trilogy of History, Reality, and Symbol
Khalid Mohammed Abdul Ghani
Arts & Humanities
Specialized
3,010,126
BAREC_Hindawi_53169142_002.txt
وفي شهر مايو من عام ٢٠٠٥م ألقيت محاضرةً بمركز إبداع الفتاة بالدوحة حول الفن التشكيلي عند ليوناردو دافنشي، وديوان «أناشيد مبللة بالحزن» لعيسى الشيخ حسن، وملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، كانت حديث الصحف والناس لفترة طويلة من الزمن. وفي ١٣ / ٩ / ٢٠٠٦م كان لقائي الثاني بالأديب جمال الغيطاني — كان اللقاء الأول دون موعد في أحد شوارع القاهرة في صيف ٢٠٠٤م، وكان عيسى الشيخ حسن صاحب اللقاء الثاني الذي عرَّفني بموعده — في محاضرة عن نجيب محفوظ أُلقيت بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بالدوحة، وطلبت منه أن ينشر لي دراسةً حول نجيب محفوظ وعاشور الناجي في جريدة أخبار الأدب التي يرأس تحريرها، وأعطيته الدراسة ووعدني بنشرها قريبًا، وفعلًا وفَّى بما وعد، ونُشرت في العدد التذكاري رقم ٧٠٠ بتاريخ ١٠ ديسمبر ٢٠٠٦م صفحة ١٤ و١٥ بمناسبة ذكرى ميلاده، وعلى الغلاف صورة كاملة لنجيب محفوظ بعدسة جمال الغيطاني. وبعد عودتي لمصر في ١٧ مارس ٢٠٠٧م تولَّى — بمبادرة كريمة منه — عيسى الشيخ حسن إهداء كتابي «التحليل النفسي والأدب، الملحمة والرواية والشعر» لعدد كبير من المبدعين والنقاد والإعلاميين الذي أثمر حوارًا مطولًا في إذاعة مونتكارلو الدولية، مع فايز مقدسي في برنامج «أفكار» تناول موضوع الكتاب ونجيب محفوظ، وكان سؤال المذيع؛ هل رأيت نجيب محفوظ؟ وكانت إجابتي بالنفي؛ لأني يوم أن تعرفت على عالم نجيب محفوظ كان عمره قد تجاوز الثمانين عامًا بقليل، وكنت في مرحلة المراهقة وكان اللقاء مستحيلًا، فكيف الوصول إليه؟! وحكيت له كل ما سبق. ونشرت عددًا من الدراسات عن نجيب محفوظ بمجلة «ضاد» الصادرة عن اتحاد الكُتَّاب المصريين، ومجلة «الرواية» و«إبداع» الصادرتين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومجلة «تحديات ثقافية»، ومجلة «عَمَّان الثقافية» بالأردن، وجريدة «أخبار الأدب» بمصر، و«الشرق» بقطر. وقمت بجمع كل هذه الدراسات لتُنشر بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تحت عنوان «نجيب محفوظ وسردياته العجائبية» عام ٢٠١١م. مصطفى زيور، لكنه — أي مؤلفنا الشاب — قد عقد العزم على ألَّا يلقي بالًا لما يقول المبدع عن خلفياته الأداتية، ليكرِّس كتابه بأكمله للبرهنة على أن نجيب محفوظ إنما كان رائدًا للكتابة الروائية العربية — مثله مثل ديستوفسكي في الأدب الروسي — التي تجمع إلى شكلها الواقعي غرائب الأحلام وعجائب الأساطير ودلالات الرموز في مستواها الجمعي المستور. وفي رأيي أن تلك المغامرة النقدية في تناول بعض الروايات الهامة من أدب الأستاذ نجيب، رغم كونها ليست الأولى في هذا المضمار، فلقد سبقتها محاولات جادة من جانب كثيرين، إلا أنها لَحَرية بالالتفات لما بُذل فيها من جهد، ولتناولها موضوع الدراسة من زوايا جديدة. فكاتبنا الدكتور خالد عبد الغني يستعرض آراء من سبقوه من النقَّاد بدقة وأمانة جديرتَين بالتنويه والإشادة، موضحًا كيفيات تعاملهم مع منهجية نجيب محفوظ في استخدام الحلم، سواء باعتباره — من وجهة نظرهم — آلية فرويدية أو بعد فرويدية Post-Fruedism، آخذًا على بعضهم (جمال القصاص مثلًا) إفساده لدلالات النص المحفوظي بالتطرُّف في تأويل سريرة صاحبه (نجيب محفوظ) كما لو كان مريضًا يخضع بما كتب للتحليل النفسي، وليس أديبًا عبقريًّا ذا عرض ناصع الجيب وافره! لعل نجاح خالد عبد الغني في التحرُّر من تأثيرات من سبقوه على هذا الدرب الشاق في التفسير السيكولوجي هو ما أغراه بالانتقال من تحليل وظيفة الرمز Symbolic Function إلى اقتراح دمجه ضمن الوسائط المختزلة للوقائع البشرية، خاصةً الاستثنائي منها ليتم بهذا الدمج فهم الواقع على نحو أكثر ثراءً. في هذا السياق يختار المؤلف سيرة عاشور الناجي (من ملحمة الحرافيش) ليطابق بين مصيره ومصير نجيب محفوظ نفسه باعتبارهما نموذجين للباحثين عن العدل والملاقين الاضطهاد بسبب بحثهم هذا، حيث يتعرَّضون للنفي والصلب (كما الحلاج) وطعنات السكاكين، وما من شك في أن التوفيق إنما كان حليف مؤلفنا حين ربط دلالة الناجي (بما تعنيه صفة اسمه) وبين نجاة محفوظ من محنة محاولة اغتياله، مذكرًا بأن نجيب وإن كتب الحرافيش قبل المحاولة الأثيمة إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نضع في الحسبان فكرة استبصار نجيب محفوظ بما سيتعرَّض له من اضطهاد قادم بفضل غوصه المستمر في عالم الأحلام الذي يشع بالنبوءة ضمن ما يشع. وهذا ما حدا بنجيب إلى تسمية محنة عاشور الناجي وعشيرته التي حصدتهم بال «شوطة»، وإنها لنفس التسمية التي يمكن لنا أن نطلقها على ما جرى لمصر «المحروسة» — لا أدري لمَ الإصرار على هذه التسمية الزائفة؟ — حيث تحوَّلت رمال الفكر الوهابي القادمة من الشرق على أكتاف الرياح الشريرة إلى مدافع رشاشة وقنابل ورصاص وسكاكين تقتل أطفال المدارس (عدة المستقبل) والسياح ضيوف البلاد، وتحرِّض على قتل غير المسلمين (أقباط مصر في مقدمتهم) حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون! وكما جرى تكفير المفكِّرين من أساتذة الجامعات والتفريق بينهم وبين زوجاتهم الأستاذات أيضًا، انطلقت دعاوى الحسبة (القضائية) بالضد على النقَّاد والشعراء والمثقفين، حتى اكتملت باغتيال أحدهم فعلًا، وكاد أن ينجح اغتيال ثانيهم (والدهم الحاني الجميل) لولا أن نجَّاهُ الله بمعجزة لا تتكرر. كذلك لم ينسَ الكاتب (خالد) أن يقارن بين عاشور الناجي الذي ارتضى لنفسه احتياز قصر البنان (الأصابع) في غيبة صاحبه، وبين محفوظ الذي قبل جائزة نوبل كرشوة من الصهاينة مكافأةً له على تقديره لليهود في أولاد حارتنا، علاوةً على تأييده السياسي لاتفاقيتَي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل (وهو تفسير يتماشى مع ما روَّج له بعض المثقفين المتشنجين، جنبًا إلى جنب التيار الفاشستي «الملقب دلعًا» بالإسلام السياسي)، وأيًّا كان الحال فقد تمكَّن خالد عبد الغني من معالجة الأمر في مجمله بمهارة، إذ اعتبر أن خطأ الرجلين؛ عاشور الناجي ونجيب محفوظ، إنما وقع بحسن نية ودون تواطؤ مقصود مع قوى الشر، وآية ذلك أن محبة الناس لأديبها العبقري ظلت قائمةً مثلما استمرت محبة الحرافيش لعاشور الناجي، لا سيما وأن الرجلين كليهما أوقف ما آل إليه من ثروة — أيًّا كان مصدرها — على أعمال الخير. وبهذا المنهاج الذي يزاوج بين ما هو واقعي وما هو أسطوري سيكولوجي، يواصل خالد عبد الغني رحلته مع النماذج المختارة من أدب نجيب محفوظ، فتراه يتلمَّس أوجه التشابه بين سفاح كرموز محمود أمين سليمان، الذي راح يضرب في ظلمات النقمة وشهوة الانتقام، وبين أوديب الذي مضى يجتر خطاياه في قتل الأب ومضاجعة المحارم، بعد أن فقأ عينيه ليحيا في ظلام لا غش فيه، ليكشف لنا (أعني خالد عبد الغني) عن سراديب الشخصية الروائية؛ سعيد مهران قاتل الأبرياء (بعمى بصيرته) والمظلوم في آن، والذي راح في النهاية يصرخ مناديًا نور (لاحظ دلالة الاسم) تلك المومس «الفاضلة» التي أحبَّت مهران ولم يحبها هو لانشغاله بالمدنس ممثلًا في شخصية زوجته السابقة الخائنة. وفي تقديري أن مؤلف هذا الكتاب قد تمكَّن من إلقاء الضوء على رواية «اللص والكلاب» المفعمة بالرموز، والغنية بالدلالات السياسية والاجتماعية دون أن يسقط في فخ التسطيح المروِّج لفكرة القداسة النقية مقابل الدنس الخالص، وتلك مأثرة تضاف إلى رصيد جِدِّيته وجِدَّته فيما كتب حتى الآن. ويُنهي خالد كتابه بفصل عن رواية «بداية ونهاية» أراد له أن يكون بحثًا في سيكولوجية البغاء، لكنه مضى إلى بعيد إلى درجة اعتبار نفيسة بطلة الرواية بإطلاق، وتفسير سلوكها المنحرف لا بالظروف المادية السيئة التي أحاطت بها وبعائلتها، بل برغبتها اللاواعية في أن تكون عاهرةً محترفة! وهذا ما لا أوافق عليه بحال من الأحوال. لكن اختلافي مع المؤلف في هذا الصدد لا يمنع غيري — ربما — من الاتفاق معه، وهو ما ينبغي تركه للنقَّاد.
25
1,249
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Trilogy of History, Reality, and Symbol
Khalid Mohammed Abdul Ghani
Arts & Humanities
Specialized
3,010,127
BAREC_Hindawi_53169142_003.txt
وبعده شاركت مع عدد كبير من النقاد في كتاب «نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل» عام ٢٠١٢م، تحرير أسامة الألفي، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي ١٧ مارس ٢٠١٢م عقد المجلس الأعلى للثقافة ندوةً لمناقشة كتابي «نجيب محفوظ وسردياته العجائبية» تحدث فيها الفنان عز الدين نجيب، والروائي سيد الوكيل، والروائي منتصر القفاش. وكان من طرائفها (الندوة) أنهم جميعًا كانوا يظنونني من خريجي كلية دار العلوم، وأني حاصل على الدكتوراه في اللغة العربية والنقد الأدبي، وأن موضوع الكتاب كان جزءًا من رسالة الدكتوراه، وأنها تمَّت تحت إشراف وتوجيه من أستاذ في النقد والبلاغة. وطبعًا أسعدني ذلك الظن، الذي تكرر كثيرًا أيضًا عندما نشرت بعض الدراسات في الشعر المعاصر، وبعض القراءات في الرواية العربية. أما عن الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ ومنهجه، أود القول بأنه يحاول تقديم قراءة للنص المحفوظي تهدف إلى إضاءة النص وإبراز الجوانب التي تتعلَّق بالتحليل النفسي والأسطورة، حيث التعريف أولًا بالمفاهيم النفسية التي تدور حولها القراءة، وبعد ذلك تقديم التطبيق التحليلي للنص استنادًا إلى تلك المفاهيم حتى لا تكون القراءة مجرد شرح وتفسير للنص بمجموعة من المفردات المغرقة في الغرابة. فعالم نجيب محفوظ من العوالم الروائية السحرية التي خلَّدت نفسها بنفسها من خلال النسق الفني المتفرد الذي انتهجه نجيب محفوظ في إبداعه الروائي، والتطوُّر المتلاحق في بنية وصيغة الفن الروائي في عالمه، والعنونة عنده هي جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية الداخلية للنص، فهو يختار عناوين رواياته بعناية شديدة، ويطلقها على نصوصه برهافة وشفافية تكاد تصل حد الاحتدام، ولعل هذا الاهتمام الكبير الذي أولاه نجيب محفوظ لعناوين رواياته قد منحها في المقام الأول هذا الحضور وهذه المكانة في ساحة الرواية العربية، بل والعالمية أيضًا، وهو يعتبر العنوان علامةً وإشارةً مهمةً لهذا العالم الذي شيَّده وأحاطه بسياج من الرؤى، وجماليات التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، وغير ذلك من التعبيرات التي أصبحت علامةً على هذا العالم الروائي الثري الخصب. وحتى صارت كل أعماله الروائية وعلاماتها المميزة المتمثلة في عناوينها وفي الشخوص والأحداث والأماكن، لها حضورها الخاص وتوهجها النصي في ساحة التلقي والنقد كشخصية «سي السيد» التي أصبحت إشارةً لسطوة الرجل في المجتمع العربي، والعوامة، والزقاق، والحارة، وغيرها من العلامات المميِّزة لهذه المسيرة الروائية التي خرجت الرواية العربية بفضلها من المحلية إلى آفاق العالمية. ويضم الكتاب الحالي فصولًا تدور الأُول حول التحليل النفسي والمؤثرات الأسطورية ومعالم النرجسية وتجلياتها في شخصية رادوبيس والفرعون الشاب، وكيف انتهى بهما المطاف إلى تحقيق أبعاد الأسطورة وهي «الحب والعزلة والموت». ودراسة حول شخصية نجيب محفوظ وعاشور الناجي في ملحمة «الحرافيش»، ومحاولة لفهم البناء النفسي لدى البغايا كما ظهر لدى نفيسة بطلة رواية «بداية ونهاية»، وشخصية سعيد مهران في «اللص والكلاب»، وتحليل أحلام فترة النقاهة والمؤثرات النفسية والفلسفية على الرواية كما جاءت في مقالاته المبكرة. وختامًا أرجو أن تجد عزيزي القارئ في هذا الكتاب جهدًا يرضيك عن مؤلفه، وفائدة، ونفعًا، ومتعةً تسر خاطرك، وجديدًا في التناول يخالف أغلب ما كُتب عن نجيب محفوظ ورواياته موضوع الكتاب الحالي، فيساعدك على الاقتراب من عالم نجيب محفوظ وشخصيته. وعن عنوان الكتاب ومنهجه، فقد رأيت أن الثلاثية عند نجيب محفوظ تمثَّلت في المراحل التي مرَّت بها رواياته بدءًا من المرحلة التاريخية ثم الواقعية فالرمزية، ومن حيث الأبعاد المدروسة في بعض رواياته، فقد حرصت على البحث عن ثلاثة أبعاد في كل واحدة منها. هذا، والله الهادي إلى سواء السبيل. المؤلف القاهرة، في الأول من سبتمبر ٢٠٢٠م ١ إذا كان حلم اليقظة بحسب تعريف «ستانلي هول» هو ضوء الشفق الذي ينبئ عن إشراقة الخيال، وإذا كان الخيال خصبًا غنيًّا فإنه يستطيع إكمال كل نقص؛ إذ يمنح الضعيف جسمًا رياضيًّا، ويهب السائل المعدِم ثراءً عريضًا، وهو بهذا الشكل مَلَكة للتعويض والتكميل. وعليه فحلم اليقظة ممتع وسار وسهل، لذلك يقدم نوعًا من الإغراء فيعيق العمل في الواقع؛ ومن ثم يجب العمل على توجيهه وحسن استخدامه حتى لا يعترض نموَّ الشعور بالواقع، ولن يتحقق ذلك دون فهمه (جورج هنري جرين: أحلام اليقظة، ترجمة: إبراهيم حافظ، القاهرة، مطبعة لجنة البيان العربي، ١٩٥٠م). وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ كان طوال خمس عشرة سنةً حلم يقظة، ساعدني ذلك الحلم على مواجهة الواقع بكل ما فيه من سلبيات يعلمها الجميع. ٢ عيسى الشيخ حسن: في وداع محفوظ. جريدة الشرق، ٥ سبتمبر ٢٠٠٦م. ٣ مهدي بندق: خالد عبد الغني وكتابه نجيب محفوظ وسردياته العجائبية. مجلة تحديات ثقافية، العدد ٣٩، ٢٠١١م. ٤ شوقي بدر يوسف: سيموطيقا العنوان في روايات نجيب محفوظ. خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية.
25
789
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Trilogy of History, Reality, and Symbol
Khalid Mohammed Abdul Ghani
Arts & Humanities
Specialized
3,010,128
BAREC_Hindawi_53169142_004.txt
الفصل الأول المقالات الأولى «النفسية والفلسفية» وعلاقتها بالرواية العلاقة واضحة بين تلك المقالات المبكرة وما ناقشه في رواياته فيما بعدُ طوال مسيرته الإبداعية الممتدة. لم يكن نجيب محفوظ (١٩١١–٢٠٠٦م) غريبًا على دارسي الفلسفة وعلم النفس والاجتماع؛ فقد كان الدارسون لتخصص الفلسفة في الفترة التي درس فيها نجيب محفوظ الفلسفة بالجامعة المصرية (١٩٣٠–١٩٣٤م) يدرسون إلى جانبها علم النفس والاجتماع والمنطق، وكثير من تلك الأجيال تخصص في علم النفس والتحليل النفسي فيما بعد؛ مثل يوسف مراد، ومصطفى زيور، ومصطفى سويف، ومصطفى صفوان وصلاح مخيمر، وحسن الساعاتي، وغيرهم الكثير، بل كان بحق كما كان يقول فرج أحمد فرج؛ إنه أستاذ لعلماء النفس والمحللين النفسيين أيضًا. ولقد كتب نجيب محفوظ مبكرًا عددًا ضخمًا من المقالات الفلسفية والنفسية والنقدية خلال الفترة من بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، إلى ما بعد منتصفها، وهي تسع عشرة دراسةً بالمجلة الجديدة، ودراسة واحدة بالمجلة الجديدة الأسبوعية، وخمس دراسات بالسياسة الأسبوعية، وأربع دراسات بالجهاد، وثلاث دراسات بالرسالة، ودراسة واحدة بالحديث؛ أي حوالي سبع وأربعين دراسةً وفق إحصاء عبد المحسن طه بدر، وكانت المقالات الفلسفية والسيكولوجية منها حول احتضار معتقدات، وتوالد معتقدات، والمرأة، والوظائف العامة، والمجتمع الراقي، وتطور الفلسفة إلى ما قبل سقراط، والفلسفة عند الفلاسفة، وماذا تعني الفلسفة، وفلسفة الحب، والبراجمتزم، والفلسفة العملية، وفكرة النقد في فلسفة كانط، والله، وفكرة الله في الفلسفة، والحواس والإدراك الحسي، ونظريات العقل واللغة، وفلسفة برجسون، والضحك عند برجسون، وطبيعة الضحك عند برجسون، وانتشار الصور المضحكة. وثلاثة من أدبائنا، والحب والغريزة الجنسية، والسيكولوجية واتجاهاتها وطرقها القديمة والحديثة، والحياة الحيوانية والسيكولوجية، والشعور والفن والثقافة. ويشير رءوف سلامة موسى إلى أن نجيب محفوظ تحوَّل عن الكتابة في الجديدة في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، وقد نشر سلامة موسى لمحفوظ مقالاته الفلسفية وكتابه التاريخي المترجم «مصر القديمة»، وأول قصصه «ثمن الضعف»، وأول رواياته «عبث الأقدار»، ربما بتأثير من عمله سكرتيرًا لوزير الأوقاف مصطفى عبد الرازق، الذي كان أستاذًا له لمادة الفلسفة الإسلامية بالجامعة. فهو بهذا لم يكن غريبًا على علم النفس والاجتماع والتحليل النفسي، لا دراسةً ولا اهتمامًا ولا إبداعًا، وكانت حياة نجيب محفوظ الفكرية في شبابه الغض مرتبطةً أيضًا بتأثير اثنين من كبار المفكرين؛ هما سلامة موسى، ومصطفى عبد الرازق. حيث امتزاج الثقافة العربية والإسلامية، والتنوير الإنساني، واحترام قيم العلم ومنجزاته، وحضارة مصر وتاريخها الفرعوني. ولقد ناقش نجيب محفوظ ذلك المزج بين الدين والعلم في روايته الأشهر «أولاد حارتنا»، ولعل هذا ما يفسر لنا نص الخطاب الذي كتبه نجيب محفوظ لجائزة نوبل الذي قال فيه: «أنا ابن حضارتين؛ الحضارة الفرعونية والعربية الإسلامية.» كما طالب فيه بحل القضية الفلسطينية كونها قضية حق وعدالة إنسانية. ومجموعة مقالاته حول الضحك وفلسفة الضحك والصور المضحكة عند برجسون، كانت سابقةً لمحاولات الدراسة السيكولوجية للضحك وتأثيره على حياة الإنسان. واعتبر إرنست كريس أن استجابة الضحك ترجع بالإنسان لعمليات العودة أو النكوص الخاصة التي يقوم بها الضاحك إلى مناطق معينة من النشاط النفسي، شبيهة بما كان يحدث خلال الطفولة من نشاطات وأفكار مرحة ترتبط بالبهجة والمتعة والضحك، ولقد نظر فرويد للفكاهة باعتبارها واحدةً من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، وتصدر عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وتقوم على تحويل حالة الضيق أو عدم الشعور بالمتعة، إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة واللذة. وقدَّم فرويد في هذا الصدد كتابين؛ هما النكات وعلاقتها باللاشعور، والفكاهة. ويؤثر الضحك في مواجهة الضغوط النفسية وتنشيط الجهاز المناعي، والحد من آثار الشيخوخة، والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، وتحسين الوضع النفسي والجسمي بوجه عام للإنسان؛ مما يجعله أكثر تفاؤلًا وإقبالًا على العمل والحياة. ثم تمت ترجمة كتاب الضحك لبرجسون — لاحقًا على مقالات نجيب محفوظ بسنوات طويلة — وهي في المضحك بعامة (مضحك الأشكال ومضحك الحركات وقوة الامتداد في المضحك، ومضحك الظروف ومضحك الكلمات، ومضحك الطباع). ويعد تصور برجسون من أهم التصورات في تفسير وفهم عملية الضحك، وعليه سارت معظم الجهود التالية له. وقدَّم صلاح مخيمر دراسته وتحليله النفسي لسلوك الضحك في الحياة العسكرية، وانتهى إلى أن المجتمع العسكري أغزر منبع يفيض بشتى صور المضحك، فهو من هذه الوجهة دعوة متصلة لكل ملتحق وملحق أن يضحك، كما أن الحياة العسكرية الدامية تيار فريد من العمل، يتصل حينًا فيتعب ويجهد، ويتمهل حينًا فيمل ويسأم، ويتهدده الخطر دومًا فيخاف ويقلق. فهو من هذه الوجهة دفع بكل محارب إلى طلب الضحك، ومعنى هذا أن المجتمع العسكري باعث لا يطاوله على الضحك باعث، ومفتقر لا يدانيه إلى الضحك مفتقر.
28
789
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Trilogy of History, Reality, and Symbol
Khalid Mohammed Abdul Ghani
Arts & Humanities
Specialized
3,010,129
BAREC_Hindawi_53814181_001.txt
من أفضل ما قيل عن الكتاب كتاب غني على نحو مدهش؛ سلس وعميق ومليء بالمفاجآت الفكرية ويقدم المساعدة فيما يتعلق بتطوير الذات، كما أنه ممتع في عرضه وعميق في بيانه ... ومن خلال انطباعي عن الكتاب، أحث بكل ثقة الجميع على شرائه وقراءته. جيم هولت، صحيفة «نيويورك تايمز» هناك العديد من الكتب الجيدة التي تتناول العقلانية واللاعقلانية الإنسانية، لكنْ هناك عمل واحد فريد في هذا المجال هو هذا الكتاب لدانيال كانمان ... فهو يعد من أعظم وأمتع الأعمال التي قرأتها التي تحاول سبر أغوار العقل البشري. وليام إيسترلي، صحيفة «فاينانشال تايمز» يعد دانيال كانمان واحدًا من أهم وأفضل المفكرين في عصرنا الحالي. ربما لا يوجد الآن من هو أفضل منه في فهم كيف نتخذ قراراتنا ولماذا. ففي كتابه الرائع هذا، يقدم لنا خلاصة عمله في هذا المجال بأسلوب بسيط وممتع، ولكن عميق في الوقت نفسه. أستطيع القول إن هذا الكتاب ضروري لأي شخص لديه عقل محب للتعلم. ستيفين دي ليفيت، مؤلف مشارك لكتاب «اقتصاديات غريبة» غيَّر هذا الكتاب نظرتي للتفكير تمامًا، فهو بحق علمٌ بارز في هذا المجال. روجر لوينشتاين، مجلة «بلومبرج بيزنس ويك» كتاب رائع بالتأكيد، أوصي به لأي شخص لديه اهتمام ولو بسيطًا بطريقة عمل العقل البشري؛ فهو كتاب غني وممتع جدًّا لدرجة أن أي محاولة لتلخيصه ستكون عبثية. مايكل لويس، مجلة «فانيتي فير» دانيال كانمان من أكثر علماء النفس تأثيرًا في التاريخ، وبالطبع أهمهم في الوقت الحاضر. ستيفن بينكر، مؤلف كتابَي «كيف يعمل العقل» و«الجوانب الملائكية في طبيعتنا» كتاب ممتع بشكل غير معقول وغني بشكل غير محدود. ماريا بوبوفا، مجلة «ذي أتلانتك» هذا الكتاب عمل رائع بقلم مفكر كبير؛ فهو بسيط ومنطقي وعميق، وسيغير الطريقة التي تفكر بها — إذا استوعبت ما فيه جيدًا — في العالم وفي حياتك. ريتشارد إتش ثالر، مؤلف مشارك لكتاب «التوجيه غير المباشر» كتاب عميق ... وكما اكتشف كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون وأنزل داروين الإنسان من عليائه من الناحية البيولوجية، أوضح لنا دكتور كانمان أن تفكيرنا ليس مثاليًّا كما نعتقد. مجلة «ذي إيكونوميست» عمل رائع ذو بُعد نفسي عميق بفضل سلاسة عرض أفكاره وقوتها ووجاهة الأدلة التي يقدمها كسندٍ لها. لقد ساعدنا كانمان في فهم عقولنا وأنفسنا بشكل جديد. كريستوفر إف تشابري، صحيفة «وول ستريت جورنال» حدث فكري كبير ... عمل كانمان وتفرسكي يمثل تحولًا كبيرًا في رؤيتنا لتفكيرنا. ديفيد بروكس، صحيفة «نيويورك تايمز» غيرت تجارب كانمان البسيطة بشكل عميق رؤيتنا لتفكيرنا. جونا ليرا، صحيفة «وول ستريت جورنال» كتاب رائع للغاية. دانيال جلبرت، مؤلف كتاب «العثور على السعادة» يعد هذا الكتاب علامة فارقة في تاريخ الفكر الاجتماعي. نسيم نيكولاس طالب، مؤلف كتاب «البجعة السوداء» شكر وتقدير أنا محظوظ لأن لدي العديد من الأصدقاء، ولم أخجل يومًا من أن أطلب منهم المساعدة. لقد طلبت المساعدة من كل أصدقائي، وبعضهم طلبت منه ذلك أكثر من مرة، سواءٌ كان ذلك في شكل طلب معلومات أو اقتراحات تحريرية. أعتذر لأنني لا أستطيع هنا ذكر كل مَن ساعدوني. ساهم بعض الأشخاص بشكل كبير في خروج هذا الكتاب للنور. بدايةً، أود أن أشكر جاسون زويج، الذي شجعني على تأليف هذا الكتاب وعمل معي بصبر كبير حتى اتضح لكلينا أنني شخص من الصعب جدًّا العمل معه. طوال فترة عملنا معًا، لم يبخل عليَّ بنصائحه التحريرية أو معلوماته الغزيرة التي أغبطه عليها، كما ساهم في إضافة عبارات رأى أنها أساسية في الكتاب. أشكر أيضًا روجر لوين لأنه حولَّ مجموعة من المحاضرات إلى مسودات لفصول في الكتاب. وقدمت لي ماري هيملشتاين مساعدة قيمة خلال عملي بالكتاب. وقد بدأ جون بروكمان كوكيل لأعمالي ثم أصبح صديقًا يمكن الاعتماد عليه بحق. وقد قدم لي ران هاسن النصيحة والدعم في أوقات كنت في أمس الحاجة إليهما. وفي المراحل الأخيرة من تأليف هذا الكتاب، حصلت على المساعدة التي لا غنى عنها من إيريك تشينسكي، المحرر الذي أعمل معه في دار نشر فارار شتراوس آند جيروكس. إنه يعرف الكتاب أكثر مني، وقد كان الكتاب نتاج تعاوننا المثمر والممتع؛ فلم أكن أتخيل أن محررًا يمكن أن يفعل مثل ما فعل إيريك. قدمت لي ابنتي، لينور شوهام، دعمًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة المليئة بالقلق، وذلك من خلال نظرتها النقدية الحادة وحكمتها، وتوفيرها للعديد من العبارات في أقسام «في الحديث عن ... » الموجودة في آخر الفصول. وقد عانت زوجتي، آن تريسمان، الكثير وقدمت لي الكثير أيضًا؛ فلولا دعمها الكبير وحكمتها وصبرها الذي لا حدود له، لكنت قد تركت العمل في هذا الكتاب في مراحله الأولى.
56
798
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Thinking Fast and Slow
Daniel Kahneman
Social Sciences
Specialized
3,010,130
BAREC_Hindawi_57468526_001.txt
الأفق الأعلى الشعراني هو آخر نجم بزغ في الأفق الأعلى؛ الأفق الأعلى للتفكير الإسلامي والنهج الصوفي. ولقد درج التصوف مع الإسلام منذ يومه الأول أفقًا خاصًّا للقلوب المتصدعة من خشية الله، المتفجرة الينابيع بحبه ونجواه، وسماءً مجلوة للعقول السابحة في عجائب الكون، المفكرة في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من آيات للموقنين، العقول التي أودع فيها المهيمن نور الحكمة، ورزقها جلاء البصيرة، وفتوحات العبادة والطاعة، واتقوا الله ويعلمكم الله. والقلب المتصدع العابد، والعقل المفكر المؤمن، والنفس المطمئنة الذاكرة المحبة يؤلفون معًا النفحة العلوية، المُعلِّمة المُلْهِمة، التي ترتفع بالإنسان وترتفع حتى يكون من المُلهمين الربانيين المندرجين تحت أفق قوله تعالى: عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا. إن شئت فسم تلك المثاليات بالتصوف أو بالأفق الأعلى، وإن أحببت فليكن عنوانها نورانية العبودية أو الروحانية الإسلامية. فالتصوف هو جماع تلك المثاليات، وهو الذي يرسم الأفق الأعلى لمن يتسامى، الأفق الأعلى المشرق بالروحانية الإسلامية، الأفق الأعلى الذي تتجلى فيه العبودية الكاملة بأنوارها وإلهاماتها. وسبيل التصوف إلى تلك الآفاق هو الاستعداد الفطري الممثل في الحب الإلهي، ثم الذكر الدائم، والخلق الكامل، والتطوع المتواصل لما فوق الفرائض والنوافل. وفي الحديث القدسي: «فلا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولإن استعاذني لأعيذنَّه.» تلك هي مرتبة النوافل، وما أدراك ما هي؟ ولكن فوقها مرتبة التطوع الدائم؛ وهي جعل الحياة كلها ذكرًا وعبادة وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. وأفق تلك المرتبة؛ مرتبة العبودية الكاملة، الأثر المشهور: «عبدي أطعني تكن ربانيًّا؛ تقول للشيء: كن فيكون.» وهذا الأفق جبار المرتقى لا يذلل لكل طالب، فلا يطيقه ولا يصبر عليه إلا صفوة من عباد الرحمن الذين اجتباهم واصطفاهم، وجعلهم أئمة وهُداة وورثة لأنوار النبوة المحمدية وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وليس ما نقول ضربًا من الأشواق الوجدانية والسبحات الخيالية؛ «فقد روى أنس — رضي الله عنه — قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله رجل شاب من الأنصار، فقال له النبي — صلوات الله عليه: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقًّا، قال: انظُرْ ما تقول؛ فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزمْ. عبدٌ نوَّر الله الإيمان في قلبه.» وفي رواية أخرى عن محمد بن الحسن: «لكأني أنظر إلى ربي — عز وجل — فوق عرشه يقضي بين خلقه.» ذلك عبد نوَّر الله الإيمان في قلبه. وما أجمل وأحلى هذا التعبير النبوي! فعاش في الأفق الأعلى، فتجلت عليه روح الإسلام، فحلَّق بأجنحة قلبه النورانية حتى رأى الملكوت الأسنى، فشاهد النار والجنة والعرش، ثم ارتقى فرأى الله — جل جلاله — وهو يقضي بين خلقه، رأى وشاهد تلك الآيات بعين الموقنين، عين الإيمان القلبي، وهو يخطر بقدميه على السيَّار الأرضي.
37
595
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Islamic Mysticism and Imam al-Sharani
Taha Abdul Baqi Surur
Social Sciences
Specialized
3,010,131
BAREC_Hindawi_57957960_001.txt
التحنيط والدين في مصرَ مَهدِ الحضارة الأولى، وأمِّ المدنيَّات أجمع عَثرَ علماء الآثار على حضاراتٍ عديدة عريقة في القِدَم قبل العصر التاريخي بآلاف السنين، ومنها ما يرجع إلى العصور الحجريَّة، وهذه الحضارات قد استوطَن أهلوها مناطق خاصة على جانبي وادي النيل، وأهمُّها حضارة تاسا، والبداري، ومرمدة، والفيوم، وحلوان، والمعادي، وكان لهذه الحضارات شأنٌ يُذكر في تاريخ مصر الزراعي والصناعي والثقافي، وكان لهذه الحضارات صلةٌ لا بأسَ بها ببعض الحضارات الأخرى التي نشأت فيما جاورها من البلدان. وكان لهذه الحضارات البدائية المختلفة نوعٌ لا بأسَ به من العقائدِ الروحيَّة، والحياة الأخرى، والخلود يتجلَّى أكثر ما يكون في مخلفاتهم الجنائزية، في مقابرهم البسيطة، وفي دفن أجساد موتاهم في أوضاع خاصة، ومحاولة المحافظة عليها، وما نُثر هنا وهناك في تلك المقابر من الأواني الخزفية التي قد يحوي بعضها بعض الحبوب والمأكولات، وما عليها من رسوم، وما حول الجثة من الأسلحة الحجرية التي قد يستعملها الميت لحماية جسمه من الأرواح الضارة التي تحوم حول المقبرة، وما وجد من عظام بعض الحيوانات الخاصة المنتشرة في تلك الأزمان كفرس البحر، ووضْع هذه العظام في أوضاع يُلمس منها التقديس، ليس هذا فحسب بل وُجد في مقابر الأفراد بعض التمائم والتماثيل البدائية التي لا بد وأن يكون وجودها لعقيدة متأصلة في عقلية هؤلاء المصريين — أصحاب هذه الحضارات الأولى — خاصًّا بخلود الروح ورجوعها. ومن أقوى الأدلَّة على تأصُّلِ العقيدة الدينية والروحية في عصور ما قبل التاريخ تلك الأساطيرُ والقصصُ الدينية التي شاعت شيوعًا عظيمًا في عصور الأسرات، وفي تاريخ مصر المجيد … تلك الأساطيرُ الخالدة، مثل: قصة إيزيس وأوزوريس، لا بد وأنها لم تظهر فجأة، ولم تطفر طفرةً واحدة بين معالم التاريخ، وإنما لا بد وأنها صادرة من أعماق الزمن السحيق، يردِّدُها صدى الماضي في عقول هذا الشعب الجبار، ويتداولُها العامة والخاصة في أحاديثهم ... وإذ بها بين عصر وعصر قد أصبحَت من صميم معتقداتهم الدينية، واحتلَّت مكانةً لا بأس بها بين أنواع عباداتهم ودياناتهم، فقصة إيزيس وأوزوريس، وقصة الإله خنوم الفخراني، وقصة رع، وقصة رتق السماء عن الأرض بواسطة الإله شو؛ كلُّ هذه القصص فيها دين، وروحية، وعقيدة أَثَّرَتْ في حياة المصريين، وفي طريقة دفن موتاهم؛ حتى لا تَفْنى أجسادُهم، وكانت محاولات أولى للتحنيط في عصور ما قبل التاريخ سنذكرها بعد. وتطوَّرت تلك العقائد الدينية في عصور الأسرات، حتَّى أصبحت قلوبُ هذا الشعب العظيم عامرةً بإيمان قويٍّ بوجود قوة خارقة للطبيعة، ووجود إله واحد هو مصدر هذه القوة، وهو الذي يَهَبُ من روحه التي تملأ الكون حياةً للبشر، وهو الذي علَّم كلَّ هؤلاء جميعًا مظاهرَ المدنية الفرعونية المختلفة. ومن أقدم آلهة قدماء المصريين الإله بتاح الذي عُبِدَ منذ الأسرة الأولى، وقد جاء في بعض الأناشيد له أنه «إله الآلهة، وأب الآباء، ومصدر الحياة الذي خلق الشمس والقمر، وهو الخالق الذي أبدع نفسه، وهو مصدر العدل الدائم.» وتعدَّدَت الآلهة المصرية، وكانوا يعتقدون أن أرواحَهم لا بد وأن تلتقي في عالم الأبدية بأرواح المَوتى، فكانوا يُخاطِبون الميت: «أَنِ اذْهبْ إلى أبيك في السماء، واحكم معه على عرش أوزوريس إله الموتى.» من هذه الفكرة في خلود الروح نشأت فكرة التحنيط، وهي محاولة لبقاء الشخصية، وأن يخلقوا من جسد الميت «أوزوريسًا»؛ إذ كان يعتقد المصريون القدماء أن هذه الأرواح المُنْطلقة جميعها خالدة في عرش أوزوريس، وكانوا يُطلقون عليها أيضًا بعد الموت «أوزوريس». وكان الجسم الإنساني في معتقد الفراعنة يتكون من ذلك الهيكل المادي القابل للفناء، والذي تفنن علماؤهم في طريقة حفظه وتحنيطه لدرجة وصلت حد الإعجاز حتى على علماء العصر الحديث، ومن عنصرين روحيين هما «الكا والبا». فالكا هي الجزء الأَثِيرِي من الجسم، وهي التي قد تلازم الجسم في المقبرة، وهي كاملة الشبه به — أي إنها نسخة منه ولكنها مُنطلِقة شفَّافَة — ومن هنا تقدمت صناعة التحنيط تقدُّمًا ملحوظًا؛ حتى يحتفظ الجسم بشكله الأصلي عندما تلازمه الكا جزؤه الثاني، وفي مناظر ولادة الملكة حتشبسوت في معبد الدير البحري ترى صورتين طِبْقَ الأصل، إحداهما الطفلة الملكية، والثانية هي الكا، وكانوا يصنعون تماثيل خاصة للكا يحفظونها في سراديب مقفلة إلا من فتحة صغيرة يُرفع من خلالها البخور، وترجع إليها الكا إذا ما فني الجسد. ولم تكن هذه الكا من مستلزمات البشر فقط، بل كان لكل مخلوق نبات، أو حيوان، أو جماد «كا» خاصة به. ويقول ديودور: «إن المصريين كانوا يسمُّون مساكنَهم في الدنيا منازلَ ضيافة؛ نسبة إلى تلك الحياة القصيرة، وكانوا يسمون المقابر بالمنازل الأبدية».
30
765
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Mummification
Saber Jabra
STEM
Specialized
3,010,132
BAREC_Hindawi_58494918_001.txt
جوسايا وِدجوود: أعظم مبتكر في العالم نبدأ بدراسة مبتكر نموذجي؛ شخص يخبرنا بالكثير عن أجندة المبتكر. فقد أسس شركة مستقرة وبارزة تبدع ابتكارات ضخمة في المنتجات التي تصنعها وطرق إنتاجها والأسلوب الذي تصنع به قيمة له ولعملائه. كانت له إسهامات مهمة في تشييد البنية التحتية القومية، وساعد في خلق صناعة إقليمية ديناميكية، وكانت له الريادة في فتح أسواق تصدير جديدة، وأثر إيجابيًّا في سياسات الحكومة. ولاقى إسهامه العلمي البارز التقدير بانتخابه «زميلًا للجمعية الملكية»؛ فكان عبقريًّا في التسويق، وأقام جسرًا بين المجتمعات العلمية والفنية باستخدام منهج جديد بالكامل للتصميم الصناعي. وجاء أهم إسهام له في أسلوب تحسينه لجودة الحياة والعمل في المجتمع الذي عاش فيه. إنه صانع الفخار جوسايا وِدجوود (١٧٣٠–١٧٩٥). وُلد وِدجوود في ظروف متواضعة لأسرة من صناع الفخار في مقاطعة ستافوردشاير بإنجلترا، وكان الأصغر بين ١٣ طفلًا، وتُوفي والده وهو لا يزال صغيرًا. بدأ وِدجوود العمل صانع فخار وهو في الحادية عشرة من عمره. وعانى وهو طفل أيما معاناة من مرض الجدري وأثر هذا تأثيرًا كبيرًا في حياته. وعلى حد قول ويليام جلادستون، أدى مرضه «لإعمال عقله، فدعاه للتأمل في قوانين فنه وأسرارها … وقدم له مصدرًا يلهم عقله المتسائل والباحث والمتأمل والخصب.» عمِل في الجزء الأول من حياته المهنية في عدد من الشراكات، ودرس كل فرع من فروع صناعة الفخار وبيعه. وفي الوقت الذي بدأ فيه وِدجوود شركته الخاصة — في سن ٢٩ — كان قد أتقن كل جانب من جوانب صناعة الفخار. شكل ١-١: أعظم مبتكر في العالم. في منتصف الثلاثينات من عمره، تحول العرج الذي نتج عن مرض الجدري إلى قيد عظيم يضيِّق عليه، لذا بتر ساقه دون مطهر أو مخدر بالطبع. وكدليل على طاقته وحافزه، كان يكتب الخطابات في غضون بضعة أيام. وعانى بعد أسابيع قليلة من مأساة فقد أحد أبنائه، ولكنه عاد للعمل في غضون شهر من العملية. بحلول منتصف القرن الثامن عشر، كانت الواردات الصينية تسيطر على صناعة الخزف الأوروبية لما يقرب من ٢٠٠ سنة. فكان البورسلين الصيني — الذي اختُرع قبل ألف عام تقريبًا — يحقق جودة لا يمكن مضاهاتها في المادة المستخدمة والطلاء. وكان الأغنياء يقدرون هذا النوع من الخزف، ولكنه كان باهظًا للغاية على الطبقات المتزايدة المشتغلة بالصناعة التي كانت دخولها وطموحاتها تنمو خلال هذه الفترة من الثورة الصناعية. وزادت القيود التجارية المفروضة على المصنعين الصينيين من سعر الواردات إلى بريطانيا زيادة أكبر. فكان الوضع ملائمًا للابتكار من أجل تقديم مصنوعات خزفية جذابة وبأسعار مناسبة للسوق واسعة النطاق. كان وِدجوود مبتكر منتجات يبحث باستمرار عن الابتكار في المواد التي يستخدمها والطلاءات والألوان وأشكال التصميمات لخزفه. فأجرى تجارب شاملة بالمحاولة والخطأ لتحسين الجودة باستمرار من خلال إزالة الشوائب وإتاحة قدرة أكبر على توقع النتائج. وكان شعاره المفضل «كل شيء يخضع للتجربة»، ونتجت بعض الابتكارات عن تحسينات إضافية أجراها على منتجات موجودة بالفعل. فحسَّن آنية خزفية جديدة قشدية اللون ظهرت في الصناعة في ذلك الوقت، وحولها إلى إناء خزفي عالي الجودة ومتعدد الاستخدامات من حيث إمكانية تشكيله على عجلة أو على مخرطة أو سبكه. وبعد إنتاجه لطقم عشاء للملكة شارلوت زوجة جورج الثالث، ونيل استحسانها، أطلق على هذا الابتكار اسم «أواني الملكة». وكانت هناك ابتكارات أخرى أكثر جوهرية. ففي عام ١٧٧٥، بعد ما يقرب من ٥٠٠٠ تجربة مسجلة وكانت غالبًا صعبة وباهظة، أنتج اليشب، وهو آنية خزفية جميلة عادةً ما يكون لونها أزرق. وكان هذا أحد أهم الابتكارات منذ اختراع البورسلين. وظلت شركة وِدجوود تنتج الابتكارات الرئيسية لمنتجاته لأكثر من ٢٠٠ عام تالية. تعاون وِدجوود مع العديد من الفنانين والمهندسين المعماريين في تصميم منتجاته، منهم صانع الأثاث جورج هيبلوايت، والمهندس المعماري روبرت آدم، والرسام جورج ستابز. وكان أحد أعظم إنجازاته تطبيق التصميمات على الحياة اليومية. فصنع النحات المشهور جون فلاكسمان — على سبيل المثال — محابر وشمعدانات وأختام وأكواب وأباريق شاي؛ فأصبحت المنتجات أنيقة، بعد أن كانت غير جذابة من قبل. بحث وِدجوود في كل مكان عن أفكار للتصميمات من عملائه وأصدقائه ومنافسيه. فزار المتاحف والمنازل الكبرى، وبحث في متاجر التحف. وكان من المصادر المهمة للتصميمات، زمرة الفنانين الهواة المصاحبين لنساء من عائلات رفيعة. فيرى ليويلين جِويت، كاتب سيرة وِدجوود في القرن التاسع عشر، أن جزءًا من أسلوب وِدجوود الناجح في العمل مع الفنانين يكمن في جهده الرامي إلى «شحذ خيال الفنان ومهارته من خلال اصطدامه بمواهب الآخرين». وفي خطاب لويليام جلادستون — وهو ينتمي إلى الجيل اللاحق لوفاة وِدجوود — يقول عن صانع الفخار هذا: تكمن أهم صفاته اللافتة والمميزة … في رسوخ واكتمال إدراكه للقانون الحقيقي لما نطلق عليه مصطلح الفن الصناعي، أو بعبارةٍ أخرى، في استخدام الفن رفيع المستوى في الصناعة. إنه القانون الذي يعلمنا أن نهدف أولًا إلى إعطاء كل قطعة أقصى درجة ممكنة من درجات الجدارة والملاءمة للغرض منها، ثم نجعلها الوسيلة لإظهار أعلى درجات الجمال، التي ستتحقق من التوافق بين جدارتها وملاءمتها، التي لا تستبدل الهدف الثانوي بالأساسي، ولكن تدرك دراسة التوافق بين الاثنين كجزء من العمل. من بين ابتكارات وِدجوود في عملية التصنيع أنه استخدم القوة البخارية في مصنعه، ونتيجةً لذلك كانت صناعة الفخار في ستافوردشاير أول متبنٍ لهذه التكنولوجيا الجديدة. وأحدثت القوة البخارية العديد من التغيرات في عمليات الإنتاج. ففي السابق كانت مصانع الفخار بعيدة عن الطواحين التي كانت توفر الطاقة من أجل خلط المواد الخام وطحنها. فقلل وجود الطاقة في موقع العمل من تكاليف النقل. وجعل عمليات تشكيل وخرط القدور ميكانيكية، بعد أن كانت تنفذ من قبل باستخدام العجلات اليدوية أو التي تدار بالقدم. فعززت التكنولوجيا الكفاءة على النحو الذي تحسنت به الإنتاجية بفضل استخدام المخارط لتشذيب المنتجات وتجعيدها وتلوينها. انشغل وِدجوود بالجودة وأنفق مبالغ طائلة على هدم التنانير وإعادة بنائها لتحسين أدائها.
56
967
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Innovation
Mark Dodgson and David Jan
Social Sciences
Specialized
3,010,133
BAREC_Hindawi_58640396_001.txt
من أعماق النفس تفتحتْ عينُ الوليد على الحياة، ولكنه لم يدرك منها شيئًا، ولم يَدرِ أحدٌ ما كان يجول في خاطره، إلا ما ارتسم على وجهه من ابتساماتٍ تُنبئ عن اللذة والسرور. ولا تستطيع ذاكرتُه أن تذهب به في أغوار الماضي قبل السابعة من العمر، وهو لا يذكر منذ ذلك الوقت حتى العاشرة إلا وقفاتٍ وأحداثًا تهز المشاعر وتختلف عن المألوف. إنه قطعةٌ من العالَم لا يميِّز بين نفسه، وبين ما فيه من أحياءٍ وأشياء. فلما أخذ في التمييز، راعه هذا الخلافُ بين نفسه وبين الناس؛ إنه يريد لهم الخير، ويبذل لهم من ذات نفسه، ولا يضنُّ عليهم بما يُؤثِر، ومع ذلك فكَمْ لقِيَ من الناس وشرورهم. تُرى ما السر الأعظم في تحريك البشر إلى ما يعملون؟ إنه الحب والكراهية. قرأ ذلك الرأيَ مرارًا، ولكنه لم يعلق بذهنه، حتى كان يستمع إلى أستاذٍ كبير أجنبي في إحدى محاضراته يقول: «لو فتَّشتَ عن السر الذي يدفع المفكِّرين والفلاسفةَ إلى إعلان مذاهبهم الجديدة، ويحرِّك فيهم الهمةَ إلى تصويرها، لَوجدتَ في حياتهم شخصًا معينًا يكرهونه، فهذا أرسطو كان يبغض أفلاطون، وينتقص من مذهبه، ولا ينفكُّ ينتقد نظريتَه في المُثل في كل مناسبة، مع أنه كان أستاذَه، وأرسطو هو القائل: «أحبُّ أفلاطون وأحبُّ الحق، ولكنَّ حبي للحق أعظم.» واعتمد فلاسفة العصر الحديث في مذاهبهم على كره أرسطو والطعن على فلسفته.» عندئذٍ تنبَّه عقلُ صاحبنا، والْتَفت إلى ذلك المعنى المحرِّك لأعمال الناس في حياتهم، وهو الحب والبُغض. إنهما سرُّ الائتلاف، والباعث على الاختلاف. بل هما القانون الذي تسير عليه الأمم والشعوب. ألم ترَ إلى هتلر كيف جمع كلمةَ الشعب الألماني على كراهية اليهود، فشنَّ عليهم الحربَ الضَّرُوس! وهل خلا بشر من الحب والكراهية؟ ما هو السر في ذلك؟ لقد فكَّر القدماء والمُحدَثون، فصاغ اليونان أساطيرَ تعلِّل نشأةَ الحب، وتأمَّل الفلاسفة فخرجوا بمذاهبَ تفسِّر هذه الظاهرة، وقال علماء النفس وعلماء الحياة كلمةَ العلم الحديث. أساطيرُ القدماء لا تخلو من طرافة، وتعليلُ المُحدَثين عندنا أدنى إلى الصواب. الحب الأفلاطوني إنه الحب الذي يسمو على مَطالِب الحس، ولا تُدنِّسه شهوات الأبدان. ونحن لا نزال نُسمي هذا الضربَ من الحب الشريف أفلاطونيًّا، إجلالًا لذكرى ذلك الفيلسوفِ العظيم صاحبِ الأكاديمية، ومعلِّم المعلِّم الأول. أين تكلَّم عن حقيقة الحب وكشف الستار عن عجائبه؟ نجد ذلك في المحاوَرة المشهورة المعروفة باسم «المَأْدُبة»، حيث اجتمع القوم ومعهم سقراط في بيت أجاثون يتناولون طعام العشاء، ثم دار الحديث عن الحب، وتناول كلٌّ منهم الموضوعَ من جانب، حتى جاء دور أرستوفان فقال ما فحواه: سوف أطرق باب الكلام في هذا الموضوع على غير ما تكلَّم فيه بوزانياس أو أركسيماخوس، وإني لَأعتقد أن البشر لم يقدِّروا بعدُ ما للحب من منزلة، ولو فهموا قدْرَه لَأقاموا في تمجيده المعابدَ والهياكل. سأبيِّن لكم قوةَ الحب، وعليكم أن تعلِّموا ذلك للناس. لم تكن الطبيعة البشرية في أصل فطرتها كما هي عليه اليوم، ولم يكن هناك جنسان كما نرى الآن، بل ثلاثة أجناس: الرجل، والمرأة، والخنثى المركَّب منهما، كان هذا المركَّبُ من الرجل والمرأة موجودًا حقيقيًّا، ولكنه اختفى اليوم. وكان الرجُلُ الأول كرويَّ الشكل، ذا أربعِ أيدٍ وأربعِ أقدام، ورأسٍ واحد ذي وجهَين ينظر بهما في اتجاهَين، وله كذلك أربعُ آذان، وكان في استطاعته أن يمشي منتصبًا كما يمشي الآن، وإلى الأمام وإلى الخلف كما يريد. كانت الأجناس ثلاثة لأن الشمس والقمر والأرض ثلاثة في العدد، فالرجل ابن الشمس، والمرأة ابنة الأرض، والرجل المرأة ابن القمر، وكانوا ذوي بأسٍ شديد، وقوةٍ عظيمة، حتى لقد اعتدوا على الآلهة، فاجتمع الآلهة في السماء، وتشاوَروا في أمرهم، واستقر الرأي على إبادة البشر بأن يسلِّطوا عليهم الرعد. ولكن مَن يعبد الآلهة ويسبِّح بحمدها؟ واهتدى زيوس كبيرُ الآلهة آخِرَ الأمر إلى طريقةٍ تحدُّ من بأسهم وتهذِّب أخلاقَهم؛ يقطع البشرَ أنصافًا، فتقل قُوَّتهم ويزيد عددُهم. وحقَّتْ كلمته عليهم، فقطع كلَّ واحد نصفَيْن كما تُقطَع التفاحة، وأمر أبولون أن يواسي جِراحَهم، ويصوغ هيئتهم على ما هو مُشاهَد الآن من هيئة البشر، وإذا مات نصف، بحث النصفُ الآخَر عن شريكٍ له، رجلًا كان أم امرأة، ليتعلَّق به. ولما رأى زيوس أن سبيلهم إلى الفناء، أنزل رحمته عليهم، وجعل الذكور تتَّحِد بالإناث حتى يتولَّد منهم نسلٌ يحفظ الجنس البشري. وهكذا انحدرت الطبائع الإنسانية، هذه هي أسطورة الخلق التي تفسِّر الحب والكراهية، وقد تسرَّبت هذه الأسطورة في الأدب العربي، وقال بها بعض أئمتهم مما نحدِّثك عنه بعد قليل. ولم يكن أفلاطون يؤمن بهذه الأسطورة، وإنما حكاها كما حُكِي الكثير من أساطير اليونان. وحقيقةُ مذهبه في الحب، الترفُّع عن شوائب المادة، والسمو إلى نورانية الروح، فالحب شوق يدفع إلى الحصول على المعرفة والخير والجمال. ويبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة، ثم يرتقي إلى حب النفوس، ثم إلى حبِّ ثمرةِ النفس، وبخاصة القوانينُ الإنسانية، وينتهي في آخِر الأمر إلى حب المعرفة لذاتها. وهكذا نتدرَّج في الرُّقِي حتى نبلغ مثال الجمال، ومثال الحق، ومثال الخير. فالحب يصعد من الأجسام المحسوسة الفانية إلى الجمال المطلَق الباقي، وهو مَطلَب النفس الخالدة، التي كانت تعيش في عالَم المُثل قبل اتصالها بالجسد، والمُحِب الحقيقي الكامل وهو صاحب الحب الأفلاطوني، يَزدري الجمالَ الزائل ويتعلَّق بالجمال الدائم؛ جمالِ الروح.
56
900
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Love and Hatred
Ahmed Fouad El-Ahwan
Social Sciences
Specialized
3,010,134
BAREC_Hindawi_59039161_001.txt
حقل الألغام الاجتماعي فاجأتْني ابنتي تشارلوت بإجابةٍ عن سؤالٍ منذ سنتين. كنا آنذاك في نهاية عطلة الصيف، وهي فرصةٌ مناسبة لتقييم الأمور قبل بداية السنة الدراسية الجديدة. كانت تُجيب حينئذ، مع شقيقاتها، على استطلاعٍ سنويٍّ يتناول جوانبَ مُعينة من حياتهن لاستكشافِ ما طرأ عليها من تغيرات من سنةٍ إلى أخرى؛ إذ كان يتضمَّن أسئلةً مثل: مَن صديقاتها؟ ما الموسيقى التي تُحبها؟ ما النصيحة التي كانت ستُسديها إلى نفسها وهي في سنٍّ أصغر قبل بداية المرحلة الثانوية؟ كانت إجابات معظم هذه الأسئلة تبدو مألوفة، ما عدا إجابة واحدة. ففي إجابتها عن سؤال «ما أكثر قدرةٍ خارقة تريدين امتلاكها؟» بدلًا من أن تختار الطيران أو قراءة العقول أو قوة هِرَقل، قالت إنها تُفضِّل امتلاكَ القدرة على التخلُّص من المواقف المحرجة. كثيرًا ما تساءلتُ عن القوة الخفية الكامنة في كلمة «مُحرِج». فهي تُلقي بظلالها دون وعي على عددٍ هائل من المواقف التي نُصادفها، في نفس الوقت الذي نُقلل فيه من أهميتها. وحتى أولئك الذين يشعرون بارتياح أكبر في المواقف الاجتماعية يظَلُّون مُنشغلين بخطرِ التعرض للإحراج؛ لأنَّ الإحراج يحدث بين الناس. فلا تستطيع أن تعتمد اعتمادًا تامًّا على مهاراتك الاجتماعية المصقولة لتجنُّب الشعور بالحرج إذا لم يُشاركك الآخرون فيما تفعله. هل تُحيي زميلًا وَدودًا بمصافحة، بقُبلة (أو اثنتين، أو ثلاث؟ ) بعناق؟ هل تعرضُ ترك مقعدك في القطار لامرأةٍ إذا اعتقدتَ أنها من المرجَّح (ولكن دون تأكيد) أن تكون حُبلى، أو شخصٍ ربما يشعر بآثار الشيخوخة والتعب؟ لا يعتمد الأمرُ على حُكمك فقط. فالتفاعل السلس الذي نُحبه يحدث بين الأشخاص، وليس في نطاق تحكم أيِّ فرد. ولمثل هذا السبب، أشار إرفينج جوفمان في كتابه «طقوس التفاعل» إلى أنه «يبدو أنه لا يوجد لقاء اجتماعي إلَّا ويُمكن أن يصبح مُحرِجًا لواحدٍ أو أكثر من المشاركين فيه، ما يؤدي إلى ما يُسمَّى أحيانًا بالحادث أو النغمة النشاز.» الألم الاجتماعي يبدو غريبًا الاعتقادُ بأنَّ التغلب على هَمٍّ تافهٍ كهذا يتطلَّب قدرةً خارقة. فعبارة «أوه، لقد كان هذا مُحرِجًا قليلًا» لا يبدو في ظاهرها أنها تُثير الخوف والقلق على الإطلاق. وهنا تحضرني الرقصة السخيفة التي أؤدِّيها وأنا أقترب من أحد الأبواب مع مجموعة من الزملاء عندما أدعوهم على الغداء. ما الذي ينبغي أن أفعله؟ هل أنتظر في الخلف ريثما يمر الآخرون جميعُهم، حتى وإن كان ذلك يعني حدوثَ اضطرابٍ مع أي شخصٍ آخر في المجموعة تكون قد راودَته الفكرة نفسُها، أم أسرِعُ إلى الأمام لأُبقيَ الباب مفتوحًا لهم، محاولًا في الوقت نفسِه أن أضمن تجنُّب إظهار أيِّ تفضُّل أو تمييز جنسي في عصر اندثار المروءة الذي نعيش فيه. ما الضرر الذي قد يحدث إذا أسيء فهمنا؟ ليس ضررًا كبيرًا، باستثناء شعوري بأنني قد أتعرض لأحكامٍ سيئة بدرجة بسيطة أو بطريقة خفيَّة. تقوم فكرةُ هذا الكتاب على فرضية أننا جميعًا نهتمُّ بذلك كثيرًا، حتى وإن كنا نستطيع إبعادَ تلك الفكرة المُحرِجة عن أذهاننا معظم الوقت. وتُوجَد أمثلةٌ صارخة تتجلَّى فيها قابليتنا للتأثر بالأحكام سآتي على ذِكرها لاحقًا. لكنَّ ما يجعل للإحراج تأثيرًا قويًّا بالتحديد أنَّه يكشف عن هذه النزعة في مواقفَ يومية عادية أتفه. ويُعلِّق الناقدُ الأدبي جيمس وود، في سياقٍ مختلف تمامًا، على مدى السهولة التي يستطيع بها بعضُ الكُتَّاب إدخالَ شخصيات رواياتهم «في موضعها السليم ضمن الأحداث» بعبارةٍ واحدة حاذقة. ويستخدم مثالًا مفيدًا وذا صلةٍ من إحدى قصص جي دو موباسان، قائلًا: «كان رجلًا مهذَّبًا بسالفتَين حَمراوَين دائمًا ما يمر أولًا عبر أي مدخل.» ويكشف ذلك عن أنَّ هذا الوصف يُبيِّن لنا الكثير جدًّا بأقلِّ جهد. فالكاتب يدعونا إلى إصدار حكم سريع لكنه شامل تمامًا على هذه الشخصية. فهو «يُدخله ضمن الأحداث» باستخدام دزينة أو نحوِ ذلك من الكلمات، ويكشف لنا نحن القرَّاء عن مدى براعتنا الخفية في تلوينِ شخصيةٍ ما، ببراعة تُضاهي أي كاتب ساخر. فنحن نعرف ما الانطباعاتُ التي سيُكوِّنها الناس عنَّا إذا كشفنا عن أنفسنا بلا انتباه. ولا عجب أن أستمرَّ في هذه اللجلجة الصعبة بين تقديم خطواتي أو تأخيرها في حينِ أنه من الأسهل، على العديد من المستويات في الحياة، أن أمرَّ عبر الباب وحسب. لذا فالإحراج ليس شيئًا تافهًا كما يبدو. بل يُخفي بين طياته ثقلًا مزعجًا جدًّا. فعندما تسمع أنَّ شخصًا ما «سقط على نحوٍ أخرق»، ينتابك جفولٌ طفيف استعدادًا لسماع الضرر الذي حدث. في المواقف الاجتماعية، يُعد الإحراج علامةَ تحذير على أنَّ الوضع يسير في اتجاه خاطئ، وأنَّ شخصًا ما يتعرض للفشل عادة. أي إنه يدقُّ جرس إنذار. إذا كنتَ معرَّضًا للوقوع في مواقف محرجة، فأنت مُهدَّد بالحكم عليك بأنك شخصٌ مُرتبك اجتماعيًّا عمومًا، ما يجعلك بالتبعية مُهددًا بالنَّبْذ والعزلة. وبصفتنا حيواناتٍ اجتماعية، نعلم أنَّ مثل هذا النبذ يخلق أشكالًا من الألم الاجتماعي الحاد، شبيهةً إلى حدٍّ كبير بالألم الجسدي. بل إنَّ هذا الألم أسوأُ من الألم الجسدي من بعض الجوانب. فعلى عكس اللامبالاة بالألم الجسدي المُعبَّر عنها في عبارة «العِصيُّ والحجارة قد تكسر عظامي، لكن الكلمات لن تُؤذيَني أبدًا»، كم عدد المرات التي يميل فيها الناسُ إلى استحضار ذكريات الألم الجسدي أولًا، عندما يُطلب منهم تذكُّر أشدِّ التجارب إيلامًا في حياتهم؟ إن حقل الألغام الاجتماعي ممتلئٌ بالمخاطر التي قد تُثير في النفس ألمًا اجتماعيًّا. من السهل التركيزُ على القوانين والقواعد الرسمية عند توضيح سلوكيات الناس وما يُسمح لهم بفعله في بيئاتٍ ومواقف مختلفة. لكن الالتزام بالقوانين والحظر ليسا هما ما يَبدآن في تقييد سلوكنا وتوجيهِه في معظم الأوقات. فثمة عواملُ تُشكل سلوكنا أكثر أساسيةً منهما، وتأتي من المعايير الضِّمنية التي تحكم ثقافتنا، وتُفرَض من خلال الحكم الاجتماعي. ويُعَد متصيِّدو «تويتر» والشائعات المستوحاة من منصَّات التواصل الاجتماعي نُسخًا مُكبَّرة من هذه الظاهرة، لكننا في الحياة اليومية، خارجَ غرفة الصدى الرقمية، نكون متيقِّظين لخطر إساءة الفهم وتعريض أنفسنا لنظرة انتقادية. من الممكن أن نتخيل عالمًا نتحرَّر فيه من الأحكام، وهو ما سأستكشفه في الفصل الرابع، ولكن يجدُر بنا أن نتذكر القوةَ الصامتة للجماهير التي قد لا تكشف عن نفسها كلَّ يوم لكنها تشاهدنا وتؤثر فيما نستطيع ولا نستطيع أن نفعله. يحكي الصحفي أوليفر بيركمان في كتابه «الترياق» عن ممارسةٍ قرَّر أن يتبعَها ذات مرةٍ لمواجهة خوفه من الإحراج. كان قبل ذلك يقرأ عن الرِّواقيين وقدرتهم التي كثيرًا ما كانوا يتفاخَرون بها على عدم المبالاة بأحكام الآخرين. لذا، وسعيًا منه إلى بلوغ هذا المستوى من التحكم في الذات، قرَّر أن يُعلن، وهو على متن قطار أنفاقٍ مزدحم، اسمَ كل محطة عند الوصول إليها بأعلى صوته. وأشار إلى أنَّ خوفه يتعارض تمامًا مع المنطق بالتأكيد: في كل الأحوال، لا أعرف أي أحدٍ في العربة معرفة شخصية؛ لذا ليس لديَّ شيءٌ أخسره من أن يظنُّوني مجنونًا. وفوق ذلك، أعرف من تجرِبة شخصية سابقة في مترو الأنفاق أنَّ الأشخاص الآخرين عندما يبدَءون التحدُّثَ جهرًا إلى أنفسهم، أتجاهلهم، كما يتجاهلهم الآخَرون جميعًا أيضًا؛ لذا فمِن شِبه المؤكد أنَّ هذا أسوأ شيء سيحدث لي. وهؤلاء الأشخاص الآخرون الذين يتحدثون جهرًا غالبًا ما يتفوَّهون بهُراء ليس له معنًى، في حينِ أنني سأعلن أسماء المحطات. وبذلك يُمكنكم القولُ إنني أؤدِّي خدمة عامة. ولماذا إذن — بينما يبدأ القطار في التباطؤ، تباطؤًا يكاد يكون غيرَ ملحوظ في البداية، وهو يقترب من محطة تشانسري لين — أشعر كأنَّني أريد التقيؤ؟ كلنا لدينا (بدرجاتٍ متفاوتة) ما يُطلِق عليه أستاذُ علم النفس مارك ليري «مقياس الاجتماعية»، الذي يُقيِّم مدى قَبولنا الاجتماعي باستمرار. ولهذا السبب يرتبط تقديرنا لذاتنا ارتباطًا وثيقًا بحفاظنا على قيمة اجتماعية عالية، ويُعدُّ الإحراج علامةً على أنَّ هذه القيمة في انخفاض. ثمة أنواعٌ مختلفة من الإحراج. ولعلَّ ارتكاب الخطأ المُحرِج المتمثِّل في ارتداء ثياب غير مناسبة هو المثال القياسي للخطأ الاجتماعي. فهو ما زال باقيًا معنا بالرغم من تركيزنا المعاصر على عدم التقيُّد بالرسميات. في الواقع، لقد أصبح من الأصعب علينا اختيارُ ما نرتديه كلما صِرنا أكثرَ تحررًا من الرسميات. فالأعراس القليلة الماضية التي حضرتها لم يكن فيها إلزامٌ للحاضرين بارتداء ثياب رسمية. وكأطفال المدارس في اليوم المخصص لارتداء ملابس أخرى غير الزي الرسمي، آل المطافُ بالضيوف إلى التفكير بحيرةٍ أكبر من حيرتهم العادية في الثياب التي ينبغي ألَّا يرتدوها.
71
1,370
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Rulings
Ziyad Marar
Social Sciences
Specialized
3,010,135
BAREC_Hindawi_59137519_001.txt
تمهيد من الشرق يطلع النور، وإليه اتجه الغرب — على حدِّ قول الشاعرِ والمترجم العبقري و«عاشق الأدب العربي» فريدريش ريكرت (١٧٨٨–١٨٦٦م) — كما يتجه القمر الشاحب لضياء الشمس كي يتجلَّى بنورها ويُحدِّق فيها وجهًا لوجه. وإذا كان بعض أدباء الغرب قد رجعوا إلى الشرق لِيَنهَلوا من منابِعه الروحية، ويُلْقوا بأنفسهم في أحضان «الأم الأولى» للُّغة والشعر والحضارة، ويُحاكوا موادَّه وأساليبه الفنية والأدبية محاكاةً إبداعية؛ فقد آن الأوانُ لكي يتوجه الشرقيُّ صوبَ الشرق؛ لعله أن يتعرَّف على كنوزه، ويُحققَ يومًا ذلك الأملَ العسير الذي تُلخِّصه حكمةُ سقراط ومعبد دلفي: «اعرِف نفسَك»؛ يتساوى في ذلك الشرقُ الأدنى الذي لم نقترب بعدُ من جوهره، ولم نتمثَّل حقيقتَه التي تكشف عنها آثارُه الفنية والأدبية والفكرية في مصر القديمة وأرض الرافدين، أو الشرق الأقصى الذي لم يَزِد اهتمامُنا بتراثه الضخم عن عددٍ جِدِّ قليلٍ من الترجمات والتعريفات المبتسَرة، ناهيك عن تقصيرنا حتى اليوم في دراسة لُغاته وآدابه ومدارسه الفكرية دراسةً عِلمية دقيقة، كما تفعل كلُّ البلاد المتقدمة. وليست المسرحيات التي تلتقي بها في هذا الكتاب مجردَ «مسرَحةٍ» لمجموعة من الحكايات والنصوص التي اطلعتُ عليها عن اختيارٍ أو اضطرار — بحكم عملي في تدريس الفلسفة الشرقية — ولا هي محاكاة لأشكالٍ ونماذجَ من الشعر والحكمة المأثورة عن عالم غامضٍ بعيد (على طريقة ريكرت وبلاتين مثلًا في الأدب الألماني)، وإنما هي أحاسيسُ وأفكار وقيمٌ ومواقفُ جرَّبتُها وعايشتُها خلال سباحتي المتواضعة في بحر الشرق، ثم ألبستُها ثيابًا صينية وبابلية، آملًا أن تشفَّ لعين القارئ المتعاطف عن هموم مصرية وعربية تَجيش بها نفوسُنا. ويكفي أن نتذكَّر أن «جوته» (١٧٤٩–١٨٣٢م) صاحبَ الديوان الشرقي١ (١٨١٩م) وأولَ مَن بدأ حركة الاستلهام الأدبي للكنوز الشرقية بصورة جادة ومبدعة؛ قد عكَف على كتابة ديوانه أثناء حرب التحرير الألمانية من طغيان نابليون، وأن الكاتب العربيَّ الذي يحجُّ اليوم إلى حكمة النفس الشرقية يُريد كذلك أن يتحرَّر ويُساعد غيره على التحرر من أمراضٍ أصابت النفسَ العربية بالتشوُّه ومرَّغَتها في حضيض «الأنا وحدية» والتسلُّط والانتهازية وسائرِ «اللاقِيَم» التي تجتاح ذواتنا الفرديةَ والجماعية، وتدفعها لتدمير نفسِها بنفسها؛ ولذلك فإن الاتجاه إلى حِكمة الشرق القديم ليست هروبًا من محنةِ حاضر تُهدده الكوارث، وإنما هو محاولة للتزود بزادٍ روحي يُمكن — بجانب الإصرار على الحرية والفكر العلمي المستنير — أن يُعين على الخلاص منها. والمسرحية الأولى في هذا الكتاب، وهي القيصر الأصفر، ثمرةُ انشغالٍ طويل بالفلسفة الصينية القديمة المعروفة باسم «الطاوية» أو فلسفة «الطاو» (الطريق) التي تقول بالعودة إلى الطبيعة والحياة في ظلِّ البساطة والبراءة والسَّكينة والاستغناء، بعيدًا عن كلِّ رغبة أو فعل يُمكن أن يُفسِد مجرى الطبيعة ويعوق التوافقَ والتجانس معها، بذلك يتَّحد الإنسان ب «الطاو» أو بالأحرى يُصبح هو «الطاو»؛ لأنه هو الطريق والمعنى، وهو الحقيقة والأصل والقوة التي تُسيِّر الكون، وهو الواحد الأزلي الأبدي الذي لا يُوصَف ولا يُسمَّى. وقد اقترنَت الطاويَّة باسم الحكيم المؤسِّس لها وهو لاو-تزو (من حوالي ٥٧٠ إلى حوالي ٥١٧ق. م. ). كما ارتبطت باسم الحكيم الذي بعث في أفكارها المجردةِ أنفاسَ الحياة، وأضفى عليها من شاعريته المبدِعة ومثاليتِه الحالمة، وهو تشوانج-تزو (من حوالي ٣٦٩ إلى ٢٨٦ق. م. ). يختلف العلماء حول اسم لاو-تزو نفسِه: هل هو عُنوان مذهبٍ ومدرسة أخلاقية وصوفية دوَّنَت تعاليمها في واحدة وثمانين حكمةً شاعرية تحمل اسم «اللاو-تزو» وتُعرَف بكتاب «تاو-تي-كنج» (الطريق والفضيلة)،٢ أم أنه — حسَب معناه في اللغة الصينية — هو المعلِّم الهرم والفيلسوف العجوز، أو الكامل بين القدماء (أو-ثان) الذي اعتزل الناسَ وذهب إلى محوِ الذات والاتِّضاع، واجتنابِ الشهوة، والحرص على رغبة واحدة هي عدم الرغبة في شيء؟ فبعضها يجعل تاريخ مولده في الفترة الواقعة بين القرنَين الثالثَ عشر والسادس قبل الميلاد، وبعضها الآخر يُؤكِّد أنه عاصرَ حكيم الصين الأكبر كونج-فو-تسو أو كونفوشيوس (من ٥٥١–٤٧٩ق. م. ) الذي كان يصغره في العمر، وأن الأخير سعى للقائه حوالي سنة ٥١٧ق. م. فعنَّفه المعلم العجوز على غروره وادعائه وكثرة تعليماته وقواعده الأخلاقية والاجتماعية، ونصحه بالعودة إلى طريق الحكماء القدماء. ومن هذه الروايات ما يزعم أنه عاش مائة سنة، ومنها ما يدَّعي أنه لم يَمُت أبدًا، حتى إن كاتبًا طاويًّا من القرن الرابع بعد الميلاد يُقرر أن لاو-تزو قد ظهر عدة مرات خلال التاريخ، وأنه في إحدى جولاته إلى الغرب من جزيرة سيلان قد وُلد ولادة جديدة على هيئة بوذا.
17
778
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
The Yellow Caesar
Abdul Ghafar Mekkawi
Arts & Humanities
Specialized
3,010,136
BAREC_Hindawi_60251839_001.txt
إلى نشأة المسرح المصري ب. ف (١) تبيين المسرح في مفرق الطريق؛ أي حيث ينفرجُ يمينًا مُنارًا وصاعدًا، ويسارًا مظلمًا ومنحدرًا، يلتقي العقل والشعور، فيتجاذبان المرء ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر الشعور العقل فينحدر المرء، وقد عمي رشده إلى غاية تحترق عندها النفس، وأما الجانب المُنار فحيث يصرع العقل الشعور فيسلك المرء في صَعودٍ مثلوجة يحيا عندها بنجوةٍ من الاحتراق، يحيا كمثل شجرة شظف عودها وجفَّ ورقها وذوى زهرها، على ما هو مبين في رسم الغلاف. سميرة: نفسٌ مضطربة تتنازعها حلاوة الماضي الموجع وراحة الحاضر المقفر، تطمئن إلى حياةٍ يلجمها العقل، وتجذبها حياةٌ يندلعُ فيها الشعور، فهى كالموسوسة، يبدو كلامها هذيانًا؛ لأن رأيها لا قرارَ له، الأبله: لا يقوى على الكلام، ولكنه يفهم كل شيء، ولا ينكشف أمره حتى ينخلع قلبه، كمظلوم راضٍ بما قسم له يحسبه الناس سادرًا، قاعد الإحساس فيستخفُّون به، حتى إذا بغى الجرح الذي يضرب في جنبه فار فارفضَّ فأصاب الظالم منه رشَّاشٌ يرده إلى الواقع، فبكاء الأبله في مختتم هذه القصة؛ ذلك البكاء الذي نزع الغطاء عن عيني سميرة، فمنعها أن تُبعث على يد مغريها إلى الشعور، صرخة مظلومٍ يعرف أنه من أجلها مقتول. هو: عنوان الإنسان العادي، المُنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية — وما أكثرها في الشرق العربي عامةً، ومصر خاصةً! — المبني على البغي، الرقيق لساعته، العاجز عن إدراك المعاني المجردة حتى يُؤخذ بيده فيُقاد إليها فيصرعه جلالُها، ثم يودُّ لو يعيشُ في ظلها دون أن يبذل نفسه بذلًا في سبيلها كأنه يقنع بالوقوف بباب هيكلها لعله يظفر ببعض ما فاته من اللذة الخاصة، فتعوزه الفرصة لتبدل الأحوال التي كانت تكتنفه. المسرح مؤخَّرُه: صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تُصاب الآن في الأحياء القديمة في مصر، من نافذة من نوافذ أحد المنازل الواقعة في الجانب الأيمن من المسرح يخرج نورٌ، نورُ مصباح «جاز» كبير، المصباح لا يُرى، وإذا أُريد إظهاره فليكن معلَّقًا بالحائط بمسمارٍ ضخمٍ معقوفٍ. مقدَّمُه: طريقٌ ضيِّقٌ، على الأرض جزازات ورق وبقايا من قصب السكر، يمتد إلى جانبي المسرح يمينًا ويسارًا. الجانب الأيمن منه يضيئه النور الخارج من النافذة إضاءةً ضئيلةً، وأما الجانب الأيسر فبين المظلم والمنار، وتشتد الظلمة في أوله من اليسار، والطريق ينحدر من الجانب الأيمن المنار إلى الجانب الأيسر المظلم، ثم إنه غير مستقيم بحيث يلتقي جانباه وَسَطَ المسرح زاوية منفرجة. سميرة: امرأة في السابعة والعشرين أو تقاربها، نحيفة، رشيقة، حسنة الشكل، بَشَرَتها ضاربة إلى الصفرة، شعرها أسود متدلٍّ بعض الشيء حتى كتفيها، ترتدي «فستانًا» نظيفًا عاديًّا أسود لا يخلو من أناقةٍ بسيطةٍ كالذي ترتديه فتياتٌ من العامة في مصر لعهدنا هذا، مشدودًا إلى ما فوق خصرها، ليس بالواسع بحيث يشفُّ عن رشاقة جسمها، مرتفعًا إلى أسفل العنق، ساقطًا إلى القدمين حتى الحذاء وإلى الذراعين حتى المعصمين، فلا يُرى من الفتاة سوى وجهها السافر وكفيها، الحذاء أسود، والمطلوب أن تشتدَّ المقابلة بين سواد اللبس وصفرة الوجه واليدين. الأبله: فتًى لا عمر له، مستحكمُ البنيةِ، منفوش الشعر، يرتدي «جلَّبيَّة بلدي» (جلبابًا مصريًّا) صفراء، حذاؤه أسود عتيق جدًّا، تبدو على هيئته القذارة. هو: شاب في الثلاثين أو يقاربها، جميل المنظر، على رأسه طربوش [هذا غير واجب]، يرتدي «بدلة» لونها زاهر، وفي عروة في أعلى «البدلة» وردة، حذاؤه أبيض، بَشَرَته سمراء بل شديدة السمرة. المشهد الأول الأبله جالس في الجانب المنار على الأرض، على مقربة من جدار منزل، بين يديه رزمة قصب سكر، يقشِّر قصبة بأضراسه ثم يدفع «عقلة» القصبة (الأنبوبة) إلى المرأة فتمضغ منها شيئًا وتعيدها إليه فيأتي عليها مصًّا. من آنٍ إلى آنٍ يضحك ضحكةً خفيفةً لا معنى لها، سميرة تجيء وتذهب أمامه في هدوءٍ وبطءٍ، تنظر إليه أحيانًا في ذهول. يستمرُّ هذا التمثيل الصامت زهاء دقيقتين، وبينما الأبله يكسر «عقلة» من عود قصب على ركبته إذ يشدُّ العود إليه بقوةٍ كأن أحدًا يريد خطفه من خلف، وذلك في أثناء مرور سميرة أمامه بحيث تراه. سميرة: ما بكَ! أيريد أحدٌ خطف قصبِكَ؟ الأبله: (يومئ أن نعم. ) سميرة: معاذَ اللهِ! ومن هذا؟ الأبله: (يحاكي صوت الكلب، وهو لا يزال قابضًا على عود القصب بحرصٍ. ) سميرة: كلبٌ؟ ومتى كانت الكلاب تمتص القصبَ؟ الأبله: (يضحك. ) سميرة: كفى ضحكًا! كم أشتهي أن أراك تبكي يومًا، فتُبكيني. (مهلة) أممكن هذا؟ (تنظر إليه). الأبله: (يتأملها في جدٍّ. ) سميرة: أممكن هذا؟ ولِمَ لا؟ فهذه الكلاب أصبحت تمتصُّ القصبَ. الأبله: (يطرق. ) سميرة: أكلبٌ هو؟ الأبله: (يومئ أن نعم. ) سميرة: لا، إنَّ هذا لا يمكن حصولُه ... كما أنَّ بكاءَكَ لن يكون. (صمت) المستحيلات في هذا العالَم معروفةٌ (تحدِّقُ إليه). الأبله: (يرفع ببصر تائه إليها، ورأس القصبة بين أضراسه، وهذه لا تتحرك. ) سميرة (تخاطب نفسها): ولربما أحببنا أن يكون الأمر المستحيل … ممكنًا. (مهلة) ماذا أقول؟ لا ... لا ... ولو أنَّ الكلاب أصرت على امتصاصِ القصب لقتلتُها جميعًا، جميعًا. (تخاطب الأبله) أتسمعني؟ (آمرةً) اضحكْ! الأبله: (يضحك ضحكةً فيها تكلفٌ وشبه رنين أسى. ) المشهد الثاني (الأبله – سميرة – هو) «هو» يقدم من الجانب الأيسر في تباطؤ شديد فينصرف إلى أول منزل من هذا الجانب. يحاول أن يقرأ اسم الطريق عليه. الأبله ينظر إليه شزرًا. سميرة ترمقه في غير عناية. يقبل «هو» وسط الطريق حيث المكان بين المظلم والمُنار وحيث المرأة واقفة. البعد بينه وبين المرأة مقدار «مترين» بحيث يشمله الظلام فوق ما يشمل المرأة. يلزم الأبله نظرته طوال الحديث الذي يجري بين «هو» وسميرة مهملًا امتصاص القصب. يعبِّر عن انفعالاته في صمت. هو (لسميرة): من فضلك يا سِت: هل هذا زقاق سي عبُّود؟ إني، والظلمة على هذه الشدَّة، لا أستطيع قراءة الاسم المكتوب على جدار هذا المنزل (يشير إلى المنزل الذي كان انصرف إليه) إن كانت هنالك كتابة. سميرة: نعم، هذا زقاق سي عبُّود. هو: شكرًا. سميرة: هل لك أن تفيدني كما أفدتك؟ هو: (يشير أن افعلي. ) هو: (يؤخر رجلًا كمن ذعر من أمر. ) سميرة: سألتَني عن شيء أَفَلا يحقُّ لي أن أسألك عن آخر؟ هو: ولكنَّه سؤال … سؤال ... سميرة (في لهجة مَنْ ينفي شيئًا قائمًا في ذهن خصمه): لا غرابة فيه. هو: (يتعجب صامتًا. ) سميرة (في بطء): كل شيء يبدو غريبًا لك إنما هو جِدٌّ معقول عند صاحبه. إن سؤالي يدهشك، ولو جالت أفكاري في ذهنك وتجاوبت على نحو ما تجول في ذهني وتتجاوب لزال دَهَشُكَ. إنَّ الأشياء لا وجود لها إلَّا بنا، وكلُّ واحد منَّا عالَمٌ قائمٌ برأسه. هو: هل لكِ أن تُجيلي أفكارَك في ذهني وتجعليها تتجاوب لعلِّي أقوى على الردِّ؟ سميرة (في تهيُّج): اسمعْ. إنَّ هذا (تشير إلى الأبله) لا يستطيع غير الضحك، وإنِّي بضَحِكِهِ لسعيدة. وإن عرف يومًا ما البكاء شقيت به. (مهلة) (في تحسُّر كأنَّها تخاطب نفسها) ولكن … أصادقةٌ أنا؟ (تتم فكرتها بإشارة) وعندي أنه يستطيع البكاء إذا استطاعت الكلابُ امتصاص القصب. هو: إني أوثر ألَّا يجولَ مثل هذه الأفكار في ذهني وألَّا يتجاوب. سميرة: لأنها أفكار مجانين. (صمت) كلَّا، بل هي أفكار فئة من الناس يشعرون فوق ما تشعرون. والحقُّ أني لا أفهم لِمَ قدرة هذا الأبله على البكاء مرتبطة بقدرة الكلاب على امتصاص القصب. خاطرٌ هجم عليَّ من جانبٍ غامض. هو (ساخرًا): صدقتِ. سميرة: مهما تَقُل جميعًا ففي يقيني أنَّ وقوع الأمر الثاني ينشأ عنه وقوع الأمر الأول. هو: يقين مشكوك فيه. سميرة: قلتُ: يقيني. هو: ولكنْ إذا بدا لكل واحد منَّا أن يستقل بيقين له فإلى أين مصيرنا؟ إلى الشك العام. سميرة: كلَّا! إلى الأمل.
117
1,432
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Crossroads
Bashar Faris
Arts & Humanities
Specialized
3,010,137
BAREC_Hindawi_60825852_001.txt
مقدمة فكرنا في كل شيء من قبل، لكن المشكلة هي أن نفكر فيه من جديد. يوهان فولفجانج فون جوته في الفيلم الكوميدي «ريزينج آريزونا»، يلعب هولي هانتر ونيكولاس كيدج دور زوجين لا يستطيعان الإنجاب؛ ومِن ثَمَّ قرَّرا سرقة أحد الأطفال. قرآ في الجريدة عن امرأة أنجبت لتوها خمسة توائم، ومِن ثَمَّ اتَّجها بسيارتِهما إلى منزلها حيث صعد كيدج سلمًا إلى نافذة غرفة نوم الطابق الثاني وأخذ أحد الأطفال الخمسة. وعند خروجه، شاهد نسخة من كتاب د. سبوك الشهير عن تربية الأطفال ووضعه في جيبه الخلفي. وعندما سلَّم الطفل إلى زوجته هولي هانتر التي كانت تنتظر خلف عجلة سيارة الهروب، تذكَّر الكتاب وأعطاه لها قائلًا: «أوه، هذا دليل الاستخدام.» رون: لا يمكننا أن نعطيَك «دليلًا» بشأن شركة المستقبل أكثر من ذلك الذي يعطيك إياه د. سبوك بشأن تربية الأطفال. فكلاهما مغامرات محفوفة بالمخاطر وعجيبة، وحافلان بالمجازفات ويكتنفهما حالة من عدم اليقين ويخضعان للعوامل الوراثية. بدلًا من ذلك، قرَّرْنا أن نقدم كتابًا «وصفيًّا» في مقابل كتاب «كمي». أما الأول فيتناول «الأشياء» التي ينبغي أن تفعلها وتفكر فيها، وأما الآخر فيغطي «الطريقة» التي تفعلها بها. نريد منك أن تفكر معنا وليس مثلنا بشأن مستقبل مهنتك. ليس لدينا حلولٌ ولكننا نقدم القيم التي نرجو أن تقود إلى الحلول المطلوبة. سوف نحاول تسليط الضوء على الفارق بين ما هو كائنٌ وما يمكن أن يكون. قال الملك الإسباني ألفونسو العاشر في القرن الثالث عشر دون أي اعتدال ظاهر: «لو كنت حاضرًا وقت الخلق، لأعطيتُ بعض تلميحات بشأن ترتيب أفضل للكون.» بالمثل، لم نكن أنا وبول حاضرَيْن عند «خلق» المهن. لقد دخلت مهنة المحاسبين القانونيين عام ١٩٨٤ وأنا موظف شاب لديَّ من الحماس والتصميم الكثير حيث كنت واحدًا ضمن «الثمانية الكبار» حينذاك، وكنت أومن بأنني سأصبح أحد الشركاء. تعلمتُ منذ اليوم الأول أغلب ما تعلمه جيلان من المحاسبين قبلي: «أنت تبيع وقتك.» لم يكن يوجد ما يدعوني إلى الاعتقاد بأن هذا التصور التقليدي صحيح؛ وبرغم كل شيء، أصبحت أُحاسَب بالساعة، الأمر الذي حدَّد مركزي ومكانتي في الترتيب الهرمي للشركة. وكان عليَّ استيفاء سجل ساعات العمل المُقسَّمة على أساس أرباع الساعة كل أسبوعين وإلا احتُجز راتبي. كان يبدو منطقيًّا وعقلانيًّا تمامًا أن كل ما كان يتعين عليَّ تقديمه لعملاء الشركة هو وقتي الشخصي. عندما أطلقتُ شركتي الخاصة، كنت نموذجًا مصغرًا لما يُطلِق عليه الإحصائيون «النمط التابع للمسار»؛ بعبارة أخرى، كلما تقدمتُ في العمر، زادت احتمالات أن يتأثر ما سأُصبح عليه مستقبلًا بما كنته في الماضي. ولم أبدأ في الاعتراض الجدي على التصورات السائدة في مهنتي التي اخترتها إلا بعد أن استقللت ذاتيًّا لبضع سنوات. كما يقولون، نتائج الحياة لا يمكن حسابها أو التنبؤ بها خلال الوقت الذي ما زلنا نشق فيه طريقنا نحو المستقبل؛ فالسنوات تُعلمنا الكثير والكثير مما لم تعرفه الأيام قط. فلو أنني كنت أعلم حينذاك ما أعلمه الآن مثل ألفونسو العاشر، لقدمتُ بالتأكيد نظامًا أفضل للشركات التي تقدم خدمات مهنية وفهمًا أعمق للقيمة التي يقدمها المشتغلون بالمعرفة لعملائهم. وهذا الكتاب ثمرة ما تعلمته طيلة تلك السنوات التي تخللت المرحلتين. في فترة الستينيات من القرن العشرين، صاغ فريتز ماكلوب، اقتصادي برنستون، والاستشاري الإداري بيتر دراكر في الوقت نفسه وعلى نحو مستقل مصطلَحَيْن هما «مجتمع المعرفة» و«المشتغلون بالمعرفة»، وقد ذكرهما الأخير في كتابه «عصر الانقطاع». عندما دخلت المهنة، لم أعتبر نفسي قطُّ «موظفًا خدميًّا»، وهو مصطلح صيغ نحو عام ١٩٢٠. لكن هذا مصطلح مفرط في التبسيط لوصف مهام المشتغلين بالمعرفة؛ فنحو ٤٠٪ من قوة العمل اليوم تعمل في مجالات المعرفة، كما أنها أيضًا أسرع شرائح قوة العمل نموًّا. في الماضي، كان الاختيار يقع على مسئولين وقادة مؤسسيين لأنهم كانوا «فاعلين» لا «مفكرين»؛ فهم لم يقضوا وقتهم في العمل على وضع نظريات، لكنهم اشتغلوا بالتحدي العملي المتعلق مثلًا بتأسيس أحد مصانع «بيبسي» في ليننجراد أو أحد مصانع السيارات في البرازيل، وخُصصت الأيديولوجيات والنظريات المجردة للانتخابات السياسية وليس لعمليات التشغيل اليومية. واليوم، صار المحامون والمحاسبون من بين المشتغلين بالمعرفة الذين يحققون ثراءً للعملاء ممن يحظون بخدمتهم من «الأفكار» و«الرصيد الفكري» اللذين يحققونهما. ومع ذلك، لا يزال عدد هائل منا يعتقد أننا موظفون خدميون ولسنا مشتغلين بالمعرفة، وثمة بون شاسع بين الأمرين؛ فنحن نعمل في ظل نظرية للشركات تزداد انفصالًا عن عوامل النجاح الحاسمة التي تحدِّد مصيرنا ومصير عملائنا. لا نزالُ عالقين في فكرة أن الطريقة التي نحقق بها الثراءَ لشركة ما هي الاستفادة القصوى من الأشخاص وساعات العمل. فبرغم كل شيء، حقق هذا النمط من التفكير نجاحًا في الماضي وأسَّسَ شركات ضخمة ووفَّر مستوًى جيدًا من المعيشة للمهنيين من جميع القطاعات. لكن عند مرور وقت كافٍ، تسوء الأمور الإنسانية كافة؛ فلا شيء يُخفق أكثر من النجاح، ودائمًا ما يُفرز واقعًا مختلفًا وتحديات جديدة. والاشتغال بالمعرفة ممارسة يُسعى من خلالها إلى البحث عن نظرية دقيقة، وما يعيب الممارسة القديمة ليس النظرية في حد ذاتها وإنما النظرية «السيئة». جميع النظريات تخضع للدحض، وسوف نبذل قصارى جهدنا لدحض النظرية القديمة للشركات على نحو حاسم. سوف نحاول، بعد ذلك، التعامل مع المهمة الأكثر صعوبة والمتمثلة في تقديم نظرية جديدة للشركات؛ وهنا نواجه مخاطر أكبر. ومع ذلك، ثمة حاجة إلى نظرية جديدة، وسوف نقدم نظريتنا على أمل أن ثمة شخصًا ما في وقت ما في مكان ما سوف يدحض هذه النظرية بل يقدم بديلًا أفضل لها. هذه هي الكيفية التي تتطور بها المعرفة، من خلال عملية متكررة لا تنتهي أبدًا، أفضل ما تُوصف به أنها «زحف معرفي». وهذه ظاهرة مثيرة للاهتمام إلى حد ما؛ لأنها تشير ضمنيًّا إلى أن معظم النظريات الجديدة — لا سيما التقاليع الإدارية — لا بد أن تكون خاطئة أو غير مناسبة، وإلا سارت المعرفة كل يوم بسرعة البرق وتقدَّمت بقفزات مذهلة كتلك التي حققها أينشتاين أو نيوتن. هذا لا يحدث، مما يصعِّب الأمر على محرري وناشري الدوريات العلمية والكتب؛ إذ إنهم لو أرادوا التزام الصدق مع أنفسهم، فيجب أن يعترفوا بأن معظم ما ينشرونه تافه أو غير صحيح. ثمة مثل فرنسي رائع يقول: «لا يرى الحمقى الجمال إلا في الأشياء الجديدة. » نحن نواجه المخاطر نفسها — وربما المصير نفسه — في هذا الكتاب. الفارق هو أننا نفهم الظاهرة ولا نفترض أن لدينا القرار الأخير فيما يتصل بشركة المستقبل؛ فلسنا على استعداد لأن نخترع العجلة من جديد، بل على النقيض، نحاول إصلاح العجلة القديمة. بالرغم من ذلك، لا نزال نجد ضرورة في تحدي التصورات والمفاهيم التقليدية والنظرية السائدة بين أصحاب المهن المتخصصة. هذا الكتاب لا يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل وإنما بالإسهام في تشكيل المستقبل وصنعه؛ فلا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل ولا يسعى إلى ذلك سوى الحمقى، لكن بمقدورنا التأثير على المستقبل بناءً على القرارات والخيارات التي نتخذها. إن العالم ليس محكومًا ببندول للتاريخ دائم التأرجح أو قدَر خارجي. نحن نصنع المستقبل بالأشياء التي نفعلها اليوم؛ فجدار برلين لم يسقط بسبب ظروف طقس عاتية، لكنه سقط «بفعل فاعل». والتاريخ كله في نهاية المطاف هو سرد لسيرة البشر. على مدى تاريخ التسعير البالغ ثلاثين عامًا، لم يصبح قضيةً من القضايا الخمس الكبرى للإدارة المحاسبية إلا في عام ٢٠٠٠، ويرجع الفضل في الأساس لكتاب «دليل المهني في التسعير القيمي». لم يكن هذا الكتاب أكثر من مجرد تطبيق للزحف المعرفي في مجال القيمة والتسعير — من اقتصاديي قرون خلت في الأساس — على المحاسبين والمحامين. إن بمقدور الأفراد أن يُشكِّلوا المستقبل بالفعل. إن محاولة تشكيل المستقبل مهمة محفوفة بالمخاطر وتنطوي على قدر من السخرية والتهكم والمعارضة العنيفة وفترات التشاؤم العميق. وكما قال تشارلز كترنج، صاحب الابتكارات الرائعة في عالم السيارات: «إذا أردتُ وقف برنامج بحثي، يمكنني دائمًا أن أفعل هذا عن طريق دعوة عدد من الخبراء لبحث الموضوع؛ لأنهم يعلمون على الفور أنه من الحُمق المحاولة من الأساس.» وبرغم ذلك، فإن عدم محاولة تغيير المستقبل والاكتفاء بدلًا من ذلك بالاعتماد على ما حقق نجاحًا في الماضي أمرٌ ينطوي على مخاطر أكبر.
71
1,376
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Company of the Future
Paul Dunn and Ronald J. Baker
Social Sciences
Specialized
3,010,138
BAREC_Hindawi_60840602_001.txt
العلم والأخلاق المُناقشات التي قامت حول مسألة العلم والأخلاق في: أواسط القرن الثامن عشر. أواخر القرن التاسع عشر. أواسط القرن العشرين. الفكر والعاطفة في الحياة. العلم والأخلاق أثمن الثروات المعنوية التي يعتز بها الإنسان، هذه حقيقة لم يختلف المفكرون فيها أبدًا، غير أنه: أيُّهما أثمن وأفضل؟ هذه مسألة اختلف فيها المفكرون والكُتَّاب كثيرًا منذ الأزمنة القديمة إلى الآن. واندفع جماعة من هذا الفريق إلى أبعد من ذلك، فقال: إن كلًّا من العلم والأخلاق يساعد الآخر، ويمهِّد له سُبل التكامل والارتقاء. ولعل أبرع الكلمات التي عبَّرت عن الرأي الأول، كانت تلك التي صدرت عن أعماق تفكير «باسكال» Pascal الشهير: «لو اجتمعت الأجسام الأرضية والأجرام السماوية كلها لَمَا ساوت أحقر فكرة من الأفكار. ولو اجتمعت الأفكار كلها مع تلك الأجسام والأجرام بأجمعها، لَمَا عادلت أصغر خلجة من خلجات العاطفة والحنان.» وأما أبلغ الكلمات التي عبَّرت عن الرأي الثاني، فكانت صدرت من العالِم الطبيعي الشهير «كوفيه» Cuvier: «إن المعروف الذي يسديه الإنسان لبني نوعه يندثر سريعًا مهما كان عظيمًا، ولكن الحقيقة التي يتركها لهم تبقى على مدى الدهر، فلا تزول أبدًا.» ولا شك في أن أغلب المفكرين والكُتَّاب كانوا من أنصار الرأي الأول، إنهم كانوا يقولون: «إن الأخلاق أهم وأفضل من العلم» بوجه عام. غير أن هؤلاء أنفسهم كانوا يختلفون فيما بينهم عندما يتساءلون: «هل العلم يفيد الأخلاق؟» لأن فريقًا منهم كان يَرُد على هذا السؤال بالإيجاب، في حين أن فريقًا آخر كان يجيب عليه بالنفي، في حين أن فريقًا ثالثًا كان يقف موقف التردد والشك حيال هذه القضية الخطيرة. كان سقراط — مثلًا — يعتقد بأن «المعرفة مصدر كل خير وكل فضيلة»، وبأن «معرفة الخير، هي الطريقة الموصلة إلى اصطناع الفضيلة». في حين أن أرسطو كان يشك كثيرًا في مساعدة العلم للأخلاق، وكان يرى أن العلم لا يؤثر في الأخلاق إلا قليلًا، وإن لم يقل إنه لا يؤثر فيه أبدًا. ولكن بعض المفكرين ذهبوا في هذا السَّبيل إلى حدٍّ أبعد من الشك والارتياب، فأنكروا فائدة العلم للأخلاق إنكارًا قاطعًا. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك أيضًا؛ فادَّعوا بأن العلم يضر بالأخلاق ويفسد المجتمع! إن هذا الرأي المتطرف أثار مناقشات قلميةً وخطابيةً عنيفة، وهذه المناقشات كانت قد وصلت إلى أقصى درجات العنف؛ أولًا في أواسط القرن الثامن عشر، ثم في أواخر القرن التاسع عشر. كما أنها تجددت بشكل مثير جدًّا خلال السنين الأخيرة. فرأيت أن أُلخِّص هنا أهم صفحات هذه المناقشات، في كل دور من هذه الأدوار الثلاثة، قبل أن أُبديَ رأيي فيها. في أواسط القرن الثامن عشر في أواسط القرن الثامن عشر، كانت الأذهان كثيرًا ما تلتفت إلى مسألة «علاقة العلم بالأخلاق»، وتبحث في تأثير أو عدم تأثير العلم في الأخلاق. ولهذا السبب رأى المجمع العلمي في «ديجون» في فرنسا، أن يدعوَ المفكرين والأدباء إلى مناقشة هذه القضية مناقشةً جدية، فطرح على «بساط المسابقة» المسألة التالية: «هل أفضى ارتقاء العلوم والفنون إلى ارتقاء الأخلاق وتزكيتها من شوائب المفاسد؟» وقرر المجمع المذكور منح جائزة مالية لأحسن الردود التي سيتلقاها على هذه المسألة. كان ذلك سنة ١٧٤٩م. واطَّلع جان جاك روسو على إعلان المسابقة عن طريق المصادفة، ولكنه ما كاد يقرأ مضمونه حتى التمعت في ذهنه بغتةً بارقة فكرة طريفة، هزَّت مشاعره هزًّا عنيفًا، وجعلته يبكي من شدة الفرح، وراح روسو بعد ذلك يُوسِّع هذه الفكرة، وأنشأ مقالةً عنوانها «خُطبة في العلوم والفنون والآداب». احتوت المقالة المذكورة طائفةً كبيرةً من الآراء الطريفة معروضةً بأسلوب خطابي ضخم، وصارت العامل الأول في شهرة جان جاك روسو، وفتحت عهدًا جديدًا في حياته الفكرية. إنه كان حتى ذلك التاريخ من الأشخاص الذين لا يعرفهم أحد غير أصدقائهم، وكان يعيش عيشة تشرُّد وقلق، دون أن يستطيع أن يلعب أدنى دور في حياة العلم والأدب، على الرغم من بلوغه سن الأربعين، وعلى الرغم من تمتُّعه بحساسية مرهفة ومخيلة وقَّادة. ولكنه بعد الشهرة التي نالها بمقالته هذه صارت تتدفق من قلمه الآراء والكتابات الثورية، التي تتناول مختلِف مظاهر الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية. وهذه الكتابات أوصلته إلى مكانة رفيعة جدًّا بين رجال الفكر والأدب. وفي الأخير أدخلته في عداد الخالدين من عمَّال الثورة والانقلاب. إن خُطبة روسو «في العلوم والفنون والآداب» كانت أولى الكتابات التي لفتت إليه الأنظار، وقد أثارت إعجاب أعضاء المجمع بكثرة الآراء الطريفة التي تتدفق من مخيلته، والجرأة العجيبة التي تتجلى في محاكماته، والجرس والفخامة التي تظهر في أسلوب بيانه؛ ولذلك قرروا أن يمنحوه الجائزة، ولكنهم صرَّحوا في الوقت نفسه بأنهم اتخذوا هذا القرار دون أن يستصوبوا الآراء المسرودة في الخُطبة! لقد ادَّعى روسو في خُطبته هذه أن العلوم تُفسد الأخلاق وتسبب انحطاط المجتمعات، وحاول أن يبرهن على ذلك بسلسلة طويلة من الشواهد التاريخية والدلائل الفلسفية، التي امتازت بالطرافة والإمتاع، وإن أعوزها الشيء الكثير من الصحة والسداد. وأما أهم الآراء التي سردها روسو في خُطبته فيمكن أن تُلخَّص بما يلي: «إن العلوم والآداب والفنون الجميلة من أقوى دعائم الظلم والاستبداد؛ لأنها تغطي الأغلال الحديدية التي تُكبِّل أيدي الإنسان بباقات الزهور التي تبهر الأبصار، إنها تستأصل غريزة الحرية من النفوس، وتُحبِّب الرق والعبودية للناس. ولهذا السبب نرى أنه كلما ارتقت العلوم والفنون والآداب، وكلما ارتفعت أنوارها فوق الأفق، أفَلَت أنوار الفضيلة والأخلاق، وفسدت النفوس والأرواح. وحدث هذا في كل زمان ومكان؛ فإن مصر وروما واليونان لم تسيطر على العالم إلا عندما كانت عريقةً في الجهل، ولكنها عندما أخذت تهتم بالعلوم والآداب، وعندما صار ينبغ فيها العلماء والأدباء؛ فقدت كل ما كان لها من قوة، وسارت نحو مهاوي الانقراض.
51
960
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Opinions and Talks on Science, Ethics, and Culture
Sate' Al-Hosari
Social Sciences
Specialized
3,010,139
BAREC_Hindawi_61616159_001.txt
الفصل الأول لم يدر بذهني يومًا أن أكتب هذه المذكرات، فأنا شخصيًّا لا أرى في حياتي ما يستحق الرواية، ولكن حدث في الأسبوع الماضي أن قصد إليَّ مذيع ليدير معي حديثًا عن حياتي استغرق حوالي الساعة — وتركت نفسي على سجيتها — فلما انتهى الحديث ساءلت نفسي: وما لي لا أروي هذه الذكريات لقارئي ربما وجد فيها من المتعة ما وجده هذا المذيع. والذي بيني وبين القارئ أمر ميسور، فهو يستطيع أن يضم دفتي الكتاب الذي بيده ويقطع صلته به وأذكر له بيت الشعر القديم: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر وحسبه الله بعد ذلك فيما خسر من ثمن الكتاب، فإن وجد المتعة التي أتمناها له وأنشدها وأسعى إليها، فالحمد لله على الحالين وليمضِ في قراءة الكتاب. وربما زاد من ترددي كتاب كتبته قبل هذا بعنوان «ذكريات لا مذكرات»، ولكني قضيت على هذا التردد بأن كتابي الأول كان يحمل صلاتي بمن عرفتهم من مشاهير وغير مشاهير. ولكنني أعتقد أن هذا لن يكون المنحى الذي سأنحوه في كتابي هذا الذي بين يديك، أما كيف أنحو فعلم هذا عند علام الغيوب، فما خططت خطة بذاتها ولا انتهيت إلى رأي معين، وإنما سأسير وإياك عبر أيامي منذ وعيت الحياة حتى اليوم الذي بدأت فيه كتابة هذا الكتاب، وإني إن شاء الله واجد له عنوانًا، ولكنك لا بد أن تعلم أن هذا العنوان قفز إلى ذهني وأنا أكتب هذا الكتاب ولم أضعه قبل بدء الكتاب كما كان ينبغي أن أفعل، فقد خشيت أن يحول العنوان بيني وبين الترسل الذي أحب أن أتركه يحدو قلمي، ويسير به سيرًا متحررًا من كل قيد بعيدًا عن القيود جميعها. من الطبيعي أن أبدأ بالسنوات الأولى من حياتي: قيل لي إنني ولدت بمنزل بشارع جوهر القائد بحي المنيرة، ولكنني لم أرَ هذا البيت إلا مرورًا به، وأشارت إليه والدتي وكنت أركب معها السيارة، وقالت إنني ها هنا ولدت فما وعيت منه إلا اللمحة العابرة التي تتيحها سيارة تمضي في طريقها ولا تتوقف، أما البيت الذي نشأت فيه وأقمت فبيت كان ملكًا لأبي بشارع الملك الناصر رقم ٢٤ بحي المنيرة أيضًا، وكان البيت هو المبنى الثاني في الشارع من ناحية شارع الدواوين، وكان المبنى الأول مدرسة أهلية دخلتها وانتظمت فيها لبضعة أشهر، وقد كان المبنى المقابل لها مستشفى الملك، ولا بد أن اسمها قد تغير حين أرادت الثورة حذف الملكية من تاريخ مصر، وكان يلاصق المستشفى مدرسة الخديو إسماعيل التي لا أدري اسمها الآن هي أيضًا، فإن الثورة قررت أنه لم يكن في مصر خديو اسمه الخديو إسماعيل إلا أن يذكر مشتومًا ملعونًا، أما أن يذكر بدون تعليق فأمر لا ترضاه الثورة الاشتراكية. نشأتُ في هذا البيت ودخلت المدرسة الملاصقة لبيتنا، وأذكر أن والدي ووالدتي كانا يطلان عليَّ من إحدى نوافذ بيتنا، وكان أبي يحرك لي منديلًا في يده حتى أتنبه إلى وجودهما بالنافذة، وأذكر أنني في اليوم الأول لذهابي إلى هذه المدرسة رفضت أن أذهب إلا إذا صحبت محمد أبو عثمان الذي كان يعمل طباخًا في بيتنا، وكان يلاعبني ويضاحكني وكنت معجبًا به كل الإعجاب، وهو ما زال على قيد الحياة أطال الله عمره، وقبل ناظر المدرسة أن يدخل محمد أبو عثمان الفصل معي، وكان في الفصل يقف بجانب الباب، فكان وقوفه هذا يرد عني الوحشة التي كانت تلم بي وأنا مع تلاميذ لا أعرفهم ولا يعرفونني. وفي اليوم التالي كنت بالفصل أكثر أنسًا حتى لم أنتبه إلى أن محمد غادر الحجرة إلا بعد حين، وسألت عنه فوجدته بالمدرسة ما زال فعادت إليَّ الطمأنينة. أما في اليوم الثالث فقد صدر الأمر من والدي أن يصحبني محمد إلى باب المدرسة الذي كان يقع بشارع الدواوين ثم يتركني وحدي، وقد بكيت لهذا الإجراء بكاءً حارًّا، ولكنه كان أمرًا صارمًا لا رجعة فيه، ذكرياتي في هذه المدرسة تكاد تكون معدومة ولا أذكر من رفاقي بها أحدًا؛ إلا أنها كان لها الفضل أن أذهب إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال وأنا غير مضطرب الفؤاد ولا هالعًا، والذي أذكره عن المدرسة الجديدة أن ناظرة المدرسة كان اسمها السيدة روفية رمضان، ولا زالت صورتها في ذاكرتي حتى اليوم، وأذكر من مدرساتها أيضًا السيدة توحيدة الدمرداش، وكانت ترعاني بحدب ورضاء، وأذكر أن أستاذة الرسم كان اسمها الأستاذة نعيمة التي جعلتني أرسم رسمًا جميلًا، الأمر الذي لم يتكرر في المدرسة الابتدائية أو الثانوية رغم أن الذي كان يدرِّس لي الرسم في المدرسة الابتدائية الأستاذ الفنان الكبير حسين بيكار، كما كان يدرِّس لي فنان الكاريكاتير العظيم الذي اشتهر باسم مفرد هو رمزي، ومع ذلك كنت دائمًا لا أجيد الرسم مطلقًا لدرجة أن والدتي وأنا أنتظر نتيجة الابتدائية كانت دائمًا تقول إنها خائفة أن أرسب في مادة الرسم، والعجيب أن حدسها أوشك أن يتحقق وحصلت في مادة الرسم في شهادة الابتدائية على أربع درجات من عشرين، وهي الحد الأدنى للمرور ولا أقول النجاح.
39
799
14-nun
14
6
4
3
Hindawi
Glimpses from My Life
Tharwat Abaza
Social Sciences
Specialized
3,010,140
BAREC_Hindawi_61924240_001.txt
البوذية والأفيال ذات مرَّةٍ روى بوذا قصة العميان والفيل (كتاب أودانا). قال إن أحد الملوك السابقين لمدينة سافاتي أمرَ بجمْع كل رعاياه العميان وتقسيمِهم إلى مجموعات. وبعد ذلك أُخذت كلُّ مجموعةٍ إلى أحد الأفيال ووُضعتْ أمام جزءٍ معينٍ من أجزاء جسم ذلك الحيوان — كالرأس والخرطوم والأرجل والذيل، وهكذا. وفيما بعد طلب الملك من كل مجموعةٍ أن تَصِفَ طبيعة ذلك الحيوان. فأما الذين لمسوا رأس الفيل فوصفوه بأنه جرَّة ماء، وأما الذين لمسوا أذنَي الفيل فشبَّهوه بمروحة ذَرِّ الغِلال، وأما أولئك الذين لمسوا قدم الفيل فقالوا إنه يُشبه العمود، وأما الذين لمسوا نابه فأصرُّوا على أن الفيل يُشبه الوتد. وأخذت تلك المجموعات تتناقش فيما بينها وتُصر كلُّ مجموعةٍ على أن تعريفها هو الصحيح وأن الآخرين مخطئون. إن دراسة البوذية على مدار القرن الماضي أو نحو ذلك كانت تشبه مقابلة الرجال العميان بالفيل من عدة نواحٍ؛ فطلبة البوذية اعتادوا التمسُّك بجزءٍ صغيرٍ من منهج البوذية، وافترضوا أن استنتاجاتهم عن المنهج بأكمله صحيحة. وفي أغلب الأحيان كانت الأجزاء التي تمسَّكوا بها تشبه إلى حدٍّ ما أنياب الفيل — فهي جزء بارز، لكنه لا يُمثِّل الحيوان ككلٍّ. ونتيجةً لذلك، انتشرت تعميمات كثيرة خاطئة ومتسرِّعة عن البوذية تصفها بأنها على سبيل المثال «سلبية»، و«منقطعة عن مُتَع الدنيا»، و«متشائمة»، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الميلَ إلى المبالغة في التعميم أصبح الآن أقلَّ شيوعًا، فإنه ما زال موجودًا في التراث القديم الذي يميل مؤلِّفوه إلى تضخيم سماتٍ معينةٍ في تعاليم البوذية، أو افتراض أن السمات التي كانت حقيقيةً عن البوذية في إحدى الثقافات أو الفترات التاريخية تنطبق صِحتها في كل مكانٍ آخر. ومن ثَمَّ فإن أول درسٍ مستفادٍ من قصة العميان هو أن البوذية موضوع كبير ومعقَّد، ويجب أن نحذر من التعميمات المستندة إلى أساس معرفة جزءٍ معين. وبصفةٍ خاصة، فإن العبارات التي تبدأ بقول: «يعتقد البوذيون ...» أو «تُعلِّم البوذية ...» يجب أن تُعامل بحذر. ونحتاج إلى إضفاء صفاتٍ معينةٍ على تلك الجُمل من خلال التساؤل عن «هُوِيَّة» البوذيين المشار إليهم، و«المنهج» البوذي المتَّبَع، و«المذهب» أو الطائفة التي ينتمون إليها … وهكذا، قبل أن تصبح تلك العباراتُ ذاتَ قيمة. وقد يذهب بعض الدارسين إلى أبعدَ من ذلك ويزعمون أن الظاهرة العابرة للثقافات المعروفة لدى الغرب باسم «البوذية» (أصبحت كلمة «البوذية» مألوفة في الاستخدام الغربي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر) ليست كيانًا واحدًا على الإطلاق، وإنما هي مجموعة من المناهج الفرعية. وفي هذه الحالة، ربما يجب التحدُّث عن «أنواع من البوذية» وليس عن «بوذية واحدة». ورغم ذلك، لعلَّ أفضل تفسير لميل هؤلاء الأكاديميين إلى «تفكيك» البوذية على هذا النحو هو أنه ردُّ فعل لميل القدماء إلى «بَيان جوهر» البوذية؛ أي افتراض أن البوذية كيان موحَّد متماثل مهما اختلف المكان. فهي مجموعة غريبة من أجزاءٍ مستبعدةٍ إلى حدٍّ ما، لكنها أيضًا تمتلك جسمًا أساسيًّا ترتبط به تلك الأجزاء. أما الدرس الثاني الذي يمكن تَعلُّمه من هذه القصة — وهو درس أقلُّ وضوحًا لكنه ليس أقلَّ أهمية — فيتمثل في وجود أنواعٍ كثيرةٍ للعمى؛ فلقد أوضحَتِ تجارِبُ الإدراك البصري أن العقل يؤثِّر كثيرًا على ما نراه. وإلى حدٍّ كبيرٍ يرى البشر ما يتوقَّعون رؤيته — أو ما يرغبون في رؤيته — ويحجبون الأشياء التي لا تتفق مع نموذج الواقع الموجود في مُخيِّلتهم. وفي الثقافات المختلفة يُربَّى الأطفال على الرؤية والفهم بطرقٍ مختلفة، ولهذا السبب في أغلب الأحيان تبدو تقاليد الآخرين مثيرةً أو غريبةً في عيون الغرباء عن ثقافةٍ ما، بينما تبدو طبيعيةً للغاية في عيون أبناء هذه الثقافة. وعند التعامل مع الثقافات الأخرى، ربما نتخيل وجودَ معتقداتنا وقِيَمنا في تلك الثقافات ثم «نكتشف» في مصدرها صحة ذلك على نحوٍ يثير الدهشة. وبهذه الطريقة أصبحت البوذية هي بالضبط ما نأمل (أو نخشى) أن تكون عليه. حتى الخبراء من الناس ليسوا محصَّنين ضد النظر للوراء و«إضفاء» افتراضاتهم الخاصة على البيانات. كثير من الباحثين الغربيين فسَّروا البوذية بطرقٍ تحمل بصمات معتقداتهم وتَنشئتهم على نحوٍ واضحٍ أكثر مما تحمل بصمات البوذية نفسها. وبالإضافة إلى ميل الأفراد إلى إضفاء تصوُّراتهم الخاصة على الثقافة الجديدة على نحوٍ يؤدِّي إلى إحداث تأثيراتٍ ذاتيةِ الطابع مختلفةِ الأشكال على تلك الثقافة، ثَمَّة خطر آخر؛ ألا وهو التنميط الثقافي الذي يظهر عند أي لقاءٍ مع «الآخر». وقد لفت الكُتَّاب المعاصرون، أمثال إدوارد سعيد، الانتباهَ إلى ميل الغرب في فنِّه وأدبه إلى تكوين «شرق» يكون انعكاسًا لظِلِّه أكثر من كونه تصويرًا دقيقًا للحقيقة الواقعية. ولسنا في حاجةٍ إلى قَبول نظرية المؤامرة المعقَّدة التي يُقدِّمها سعيد، والتي تقضي بأن الغرب قَوْلَبَ الشرقَ فكريًّا كتمهيدٍ لاستعماره سياسيًّا، كي نُدرِك أننا عند الشروع في دراسة الثقافات الأخرى لا يمكننا إلا أن نتأثَّر بالتوجُّهات والافتراضات المتبقية في ثقافتنا؛ تلك التوجُّهات والافتراضات التي نكاد نكون غيرَ مدركين وجودَها. وفيما يتعلق بدراسة البوذية، يجب حينئذٍ الانتباهُ إلى خطر «العمى الثقافي»، وسوء الفهم الذي يمكن أن ينجم عن افتراض أن التصنيفات والمفاهيم الغربية تنطبق على الثقافات والحضارات الأخرى. هل البوذية دين؟ شكل ١-١: معبد روريكو جي، ياماجوتشي، اليابان. هذه الباجودا ذات الطوابق الخمسة، التي تُعد واحدًا من أقدم مباني الباجودا في اليابان، تعود إلى القرن الخامس عشر، ويبلغ ارتفاعها ٣١ مترًا. تواجهنا مشكلات كهذه بمجرد أن نحاول تحديد ماهية البوذية. هل هي دين؟ هل هي فلسفة؟ هل هي أسلوب حياة؟ هل هي نظام أخلاقي؟ ليس من السهل تصنيف البوذية تحت أي اسم من تلك الأسماء؛ إذ تُمثِّل البوذية تحديًا يجعلنا نعيد النظر في بعض هذه الأسماء المذكورة؛ فعلى سبيل المثال، ما المقصود ب «الدين»؟ سيقول معظم الناس إن الدين معتقَد مرتبط بالإيمان بالرَّبِّ. علاوةً على ذلك، يهتمُّ الرَّبُّ عن كثبٍ (أو ظل يهتم إلى الآن على أقلِّ تقدير) بمسيرة التاريخ البشري، من خلال إقامة المواثيق الإلهية، والإعلان عن إرادته بشتى الطرق، وبالتدخُّل عن طريق المعجزة في الأوقات الحرجة. إذا كان الإيمان بالرَّبِّ على هذا النحو هو جوهر الدين، فمِن ثَمَّ لا يمكن أن تكون البوذية دينًا؛ فالبوذية لا تحمل هذا المعتقَد، بل على العكس تُنكر وجود إلهٍ خالق. وفي ضوء التصنيفات الغربية المتاحة، فإن هذا الأمر يجعل البوذية «إلحادية». ورغم ذلك، فإن إحدى مشكلات هذا التصنيف تتمثَّل في أن البوذية تعترف بوجود كائناتٍ خارقةٍ للطبيعة مثل الآلهة والأرواح. والمشكلة الأخرى هي أن البوذية لا تحمل الكثيرَ من السمات المشتركة مع الأيديولوجيات الإلحادية الأخرى كالماركسية على سبيل المثال. ومن هذا المنطلق، ربما يكون التصنيف على أساس «الألوهية» و«الإلحادية» غيرَ مناسب في هذا الصدد. واقترح البعضُ الحاجةَ إلى تصنيفٍ جديدٍ — ألا وهو دين «لا إلهي» — كي تَدخل البوذية تحت مظلة الأديان. وثَمَّةَ احتمال آخر، ألا وهو أنَّ تعريفنا الأصلي للدين هو ببساطةٍ تعريفٌ ضيق الأفق. فهل يمكن ألَّا تكون فكرةُ الإله الخالق، التي تُعد سمةً أساسيةً في أحد الأديان — أو في مجموعةٍ من الأديان — هي السمةَ المميزةَ الحاسمةَ في كل الأديان؟ وعلى الرغم من أن هذه الفكرة محورية على نحوٍ مؤكَّدٍ للديانات «الإبراهيمية» أو الأديان «السامية»؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، فربما توجد أنظمة عقائدية أخرى — مثل الكونفوشيوسية والطاوية — تشبه الدين الغربي في نواحٍ كثيرةٍ لكنها تفتقر إلى هذا المُكوِّن.
54
1,249
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Buddhism
Damian Keown
Arts & Humanities
Specialized
3,010,141
BAREC_Hindawi_62031951_001.txt
الفصل الأول الجزء الأول ي (إلى ي): §يا دهر صبري قد وهى لكن عذابي ما انتهى مظلومةٌ زاد النوى بعذابها فارفق بها§ … أشكو ودهري لا يرِقُّ لشاكِ والقلب منجرحٌ وطرفي باكِ أظهرتَ لي يا دهر لذَّات اللقا وسترتَ شؤم الهجر عن إدراكي فغدوتُ جائلةً بميدان الهوى وجهلتُه فوقعت في الأشراكِ ... الجزء الثاني س (إلى س): §لكل ليثٍ حُمامِ يلذُّ كاس الحِمامِ أما الجبان فعنه يفرُّ مثل الحَمامِ ليس الغني ذا اقتدارِ وما البهي ذا افتخر بل من يرى الموت حُلوًا في الحرب تحت الغبارِ§ س (إلى ي): أترين يا شقيقتي مي كيف أن خطيبك كورياس أظهر أنه في الحقيقة من أشجع الناس؛ لإنه عند سماعه بحدوث الحرب والكفاح، وذلك أمس مساءً، داخله الفرح والانشراح، وتأهَّب وسار من مدينته ألبا حتى وصل إلى رومية في هذا الصباح. وعن قليل يحضر إلى هذا المقام، وهو الآن في ساحات الصدام، منتظر وفود عساكر مدينته، ليشبوا نار الحرب ذات الضرام، ويشنُّوا الغارة على عساكرنا الرومانيين، فعليك إذًا أن تطلبي الانتصار لمدينتنا رومية من مارس إله الحرب ومن الآلهة أجمعين. ي (إلى ي): إن جاءنا بسرور يومًا فيُحزن شهرا كُفِّي الأسى واستجيري بالصبر، فالصبر أحرى ي (إلى س): ترى الجميع نظيري الله بالناس أدرى§٤ ي (إلى س): تشيرُ عليَّ بالصبر، وما الصبر لي بصاحب، فمن جرى هذه الحروب بات قلبي رهين النوائب، فإنه في الليل الماضي قد تراكمت عليَّ بهذا الخصوص الأحلام، فأيقنت أن لا بدَّ أن تداهمني بليَّةٌ عظيمةٌ في هذه الأيام. س (إلى ي): أنا لا أرى في هذه الحروب ما يدعو إلى الحزن والأسف، بل بعكس ذلك، إنِّي أراها سببًا لاكتسابنا الفخر والشرف؛ ولهذا ترينني بكل شوقٍ منتظرًا حدوث الحرب لأنال الجاه العظيم بمعاطاتي الطعن والضرب، وها أنا ذاهب أُحضِّر السلاح، لأنحدر حالًا إلى ساحات الكفاح. الجزء الثالث ي (إلى ي): §يا لقهري ما احتيالي قلَّ صبري واحتمالي آه من جور الليالي آه من جور الغرام للهوى جدُّ اهتمامي فابتلاني بالسِّقامِ ليت لا كان غرامي كان قلبي في سلام§ الجزء الرابع (ي (مي) – ن (روجينا)) ن (إلى ي): ما بالكِ يا سيِّدتي تزيدين في حزنكِ ونحيبكِ، وقد كان الأجدر أن تفرحي لما بشَّرك به أخوكِ هوراس من قدوم حبيبك، فقد عجبتُ لتأسُّفك وتوجَّعت لتلهفك. ي (إلى ن): إن قلبي لفي خفقان عظيم؛ فإن هذه الحرب بين رومية وألبا قد أوقعتني في قلق جسيم، وأنا داخلة إلى مخدعي لأريح قلبي في الخلوة عسى يتصبَّر، فإذا جاء كورياس فاستدعيني حالًا لأحضر. الجزء الخامس (م (ملكة) – ن (روجينا)) م (إلى ن): §أنتِ روجينا أعلميني هل أتى بعلي أخبريني قد أتى من قبل حينِ ومضى يجلي السلاحْ م (إلى م): آه ما هذي المصائب لم يزل دهري يحارب قد رمى والسهم صائب فشكا قلبي الجراحْ§ ن (إلى م): وأنتِ أيضًا يا سيِّدتي ملكة، أراكِ حزينة مرتبكة، وما علمتُ ما هو السبب، فعجبت كل العجب، ومثلك سيِّدتي مي، فقد لاحظتُ أنها من حزنها لا تعي على شيء، مع أن أخاها بعلك هوراس بشَّرها بقدوم خطيبها أخيك كورياس، فاشتدَّ لذلك قلقي وبلبالي، فأعلميني ما الخبر، عسى أن يستريح بالي. م (إلى ن): كأنكِ يا روجينا تجهلين الحرب التي ستُصلى نارها بين المدينتين بعد حين، فمن جهةٍ أخاف على بعْلي وعيلته من عساكرنا الألبيين، ومن الجهة الثانية أخاف على أخوتي وعيلتي من العساكر الرومانيين، وهكذا مي، فإن عليها من الخوف ما عليَّ، أسأل الآلهة أن تنظر إليها وإليَّ. … ذا أكيدٌ لكنما الصبر أولى ومع الصبر مُرُّه يحلو م (إلى ن): ليس للصبر من سبيل فما لي غير نوحي فذاك لي أهلُ (يُسمع صراخ الفوارس من الميدان. )
65
670
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Mai
Salim Khalil Al-Naqqash
Arts & Humanities
Specialized
3,010,142
BAREC_Hindawi_62491593_001.txt
تقدم لنا في الجزء الأول من مجلة الضياء كلام في بيان موضع الجرائد من الأمة، وما لها من التأثير في مداركها وأذواقها وآدابها ولغتها وسائر ملكاتها، ولا سيما مع كثرتها وانتشارها في عهدنا الحالي حتى أصبحت بحيث تصدر الألوف منها كل يومٍ وتوزع بين أيدي القراء؛ فيتناول كل قارئ منها على حسب وسعه واستعداده، وليس من ينكر أن ذلك كان سببًا في انتشار صناعة القلم عندنا، وتدريب الكتَّاب على أساليب الإنشاء، واقتباسهم صور التراكيب المختلفة، وإحياء كثير من اللهجة الفصحى حتى بين عامة الكتَّاب؛ مما آذن بانتعاش اللغة من كبوتها وأحيا الآمال في عودها إلى قديم رونقها، بل إذا تفقدت الجرائد أنفسها وجدتها قد انتقلت إلى طور جديد من الفصاحة وجزالة التعبير، كما تتبين ذلك من المقابلة بين حال الكثير من جرائدنا اليوم وما كانت عليه عامة الجرائد منذ نحو عشر سنوات أو دونها. والفضل في ذلك — ولا شك — عائدٌ إلى هذه الكثرة نفسها بما نشأ عنها من المباراة بين الأقلام، وازدحام القرائح في حلبات السبق، فضلًا عما تهيأ بها من انتشار أسلوب الفصاحة ورسوخ ملكة الإنشاء. بيد أننا مع ذلك كله لا نزال نرى في بعض جرائدنا ألفاظًا قد شذَّت عن منقول اللغة؛ فأُنزلت في غير منازلها أو استُعملت في غير معناها؛ فجاءت بها العبارة مشوهة وذهبت بما فيها من الرونق وجودة السبك، فضلًا عما يترتب على مثل ذلك من انتشار الوهم والخطأ، ولا سيما إذا وقع في كلام من يوثق به؛ فتتناوله الأقلام بغير بحث ولا نكير. فيكون الغلط فيها أسرع تفشيًا وأشد استدراجًا للسقوط في دركات الوهم. والعجب هنا أنك كثيرًا ما ترى أناسًا من متقدمي الكتَّاب وذوي القدم الراسخة في اللغة والإنشاء يعتمدون أحيانًا على التقليد، وربما قلدوا من هو دونهم من أصاغر أهل الصناعة؛ حتى فشا النقل بين تلك الطبقات كلها، وأصبح كثيرٌ من ألفاظ الجرائد لغةً خاصةً بها تقتضي معجمًا بحاله. ولما كان الاستمرار على ذلك مما يُخاف منه أن تفسد اللغة بأيدي أنصارها والموكول إليهم أمر إصلاحها، وهو الفساد الذي لا صلاح بعده، رأينا أن نفرد لذلك هذا الفصل نذكر فيه أكثر تلك الألفاظ تداولًا، وننبه على ما فيها، مع بيان وجه صحتها من نصوص اللغة، والله نسأل أن يوردنا جميعًا موارد الصواب بفضله — عز وجل — وحسن تسديده. فمن تلك الألفاظ لفظة التحوير التي لم يبقَ كاتب جريدة ولا مؤلف كتاب إلا وردت في كلامه مئات من المرار يريدون بها معنى التنقيح والتعديل والتهذيب وما جرى هذا المجرى، وذلك في الكلام على الشروط والمعاهدات والأحكام وأشباهها. ولم ترد هذه اللفظة في شيء من كتب اللغة بمعنى من هذه المعاني؛ إنما التحوير في اللغة بمعنى التبييض، يقال: حوَّر الثوب إذا قصَّره وبيَّضه، ومنه الحُوَّارَى للدقيق الأبيض، وهو لباب البُرِّ وأجوده وأخلصه، وقد حوَّر الدقيق إذا بيَّضه، وغالب ألفاظ هذه المادة يرجع إلى معنى البياض، فما ضرَّ لو استعملوا في مكان هذه اللفظة إحدى الكلمات التي ذكرناها في مرادفها. ومن ذلك قولهم: تقدم إليه بكذا، يعنون رغب إليه فيه وسأله قضاءه، وإنما يقال: تقدم إليه بمعنى أوعز إليه وأمره، تقول: تقدم الأمير إلى عامله أن يفعل كذا وكذا، فهو على عكس المعنى الذي يريدونه كما ترى. ومن ذلك قولهم: شكر له على إحسانه، وشكر لإحسانه، وشكر له لإحسانه؛ صورٌ لا تكاد تتعداها كتابات الأكثرين، وكلها حائدة عن الصواب. قال في تاج العروس: شكره وشكر له، وشكرت الله وشكرت لله وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله وشكرت بها. وفي البصائر للمصنف: يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح. وأحسن منه وأوضح تفصيلًا ما جاء في الأساس قال: شكرت لله نعمته، واشكروا لي. وقد يقال: شكرت فلانًا يريدون نعمة فلان ... فعُلم من صريح عبارته أن الشكر يعدَّى إلى المشكور له — أي المنعم — باللام، وإلى المشكور به — أي النعمة — بنفسه؛ تقول: شكرت لزيد صنيعته، بجر الأول ونصب الثاني، وهو الأشهر في أصل استعمال هذا الحرف، ثم يجوز لك أن تحذف أحد المتعلقين فتقول: شكرت لزيد وشكرت صنيعة زيد، ويجوز أن تقول: شكرت زيدًا، على تقدير مضاف محذوف؛ أي: صنيعة زيد. وأما تعديته إلى المشكور به بعلى فيجوز على تضمين الشكر معنى الحمد، وحينئذٍ تمتنع اللام فتقول: شكرته على إحسانه، كما تقول: حمدته على إحسانه؛ للمطابقة بين الاستعمالين؛ فتأمل. ومن ذلك قول بعضهم: مزق الكتاب إربًا إربًا، وقطع الحبل إربًا إربًا؛ أي: قطعة قطعة. وأكثرهم يقرؤها: أرَبًا أرَبًا، بفتحتين، وليس شيء من ذلك بصواب، إنما يقال: قطعت الذبيحة إرْبًا إرْبًا، بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: إربًا فإربًا. ومعنى الإرب العضو؛ فهو خاص بما له أعضاء، ولا يجوز استعماله للكتاب والحبل وأمثالهما. وأما الأَرَب — بفتحتين — فمعناه الحاجة.
41
814
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
The Language of Newspapers
Ibrahim Al-Yazji
Arts & Humanities
Specialized
3,010,143
BAREC_Hindawi_62685358_001.txt
مقدمة هذا كتاب نعرض فيه بعض آراءٍ كُتبتْ بالإنجليزية عن الأدب السوفييتي؛ أي الأدب الذي ظهر في روسيا منذ نشوب الثورة الشيوعية سنة ١٩١٧، وليس معنى ذلك أننا سنتحدث عن الأدب الذي ظهر في جميع أجزاء الاتحاد السوفييتي؛ لأن كل إقليم من أقاليم الاتحاد السوفييتي له أدبه الخاص به، وقد شجعت روسيا الحديثة هذه الآداب الإقليمية — إن صح هذا التعبير — ولكن هذه الآداب الإقليمية تختلف في لغتها ولم تُكتب باللغة الروسية، بينما سيكون حديثنا في هذا الكتاب عن الآداب التي ظهرت في روسيا السوفييتية وكُتبتْ باللغة الروسية. من الطبيعي أن الأدب السوفييتي هو استمرار تيار الأدب الروسي الذي كان قبل الحرب العالمية الماضية، وقبل الثورة الشيوعية، ولكنَّ هناك حقيقة لا نستطيع أن نغفلها، تلك أن الثورة الروسية قامت بتجديد كل مظاهر الحياة الروسية، من اجتماعية وسياسية واقتصادية، وكذلك كان لهذه الثورة أثرها في الثقافة والأدب، ولذلك نستطيع أن نقول: إن تاريخ الأدب السوفييتي إنما هو تاريخ المحاولات التي بذلتها الحكومة الشيوعية لخلق لون من الأدب يتفق مع أغراضها وبرامجها، ومن هنا اختلفت هذه المحاولات باختلاف أغراض الشيوعيين وبرامجهم، فحينًا نرى الشيوعيين يسيطرون على الشئون الأدبية سيطرة تامة ويفرضون على الأدب رقابة شديدة لا تكاد تعرفها أشدُّ الأمم إمعانًا في الدكتاتورية، وحينًا آخر نراهم يضطرون إلى إلغاء هذه الرقابة ويتركون للأدب شيئًا من حريته، فلكي نستطيع أن نعطي صورة صحيحة أو قريبة إلى الصحيحة للأدب السوفييتي يجب ألا نغفل الحديث عن سياسة الحكومة نحو المسائل الأدبية، فمن سنة ١٩١٧ حتى سنة ١٩٢١، وهي الفترة التي تعرف بفترة الحرب الشيوعية، يمكننا أن نختصر القولَ بأنْ نَصفها بأنها عهد تحلل في التقاليد الأدبية الروسية، وعهد اضطراب في المناقشات التي جرت بين المذاهب الأدبية، ولكن هذه الظاهرة بدأت في الواقع قبل الثورة الشيوعية، بل قبل الحرب الكبرى الماضية؛ ذلك أنه عندما بدأ القرن العشرون كان في الأدب الروسي مذهبان أساسيان: المذهب الواقعي والمذهب الرمزي، فالمذهب الأول كان البقية الباقية من العصر الذهبي للرواية الروسية التي تقوم على التحليل النفسي والواقع الملموس، ولكن هذا المذهب الواقعي قد تطور بعض الشيء، ويتمثل تطوره في فنِّ تشيكوف، هذا الفن الذي اقتدى به كل كتَّاب المذهب الواقعي منذ بدأ القرن العشرون. أما المذهب الرمزي فكان يجمع أكثر الكتَّاب والشعراء، وكان خصب الإنتاج حتى كاد يسيطر على جميع العناصر الهامة في الأدب الروسي الحديث، وقد وصف النقَّاد الفترة بين سنة ١٩١٠ إلى سنة ١٩١٢ «بالعصر الرمزي»، ولكن بعد سنة ١٩١٢ أصيب هذا المذهب بضعف شديد، وذلك لعدة عوامل؛ منها أن بعض أصحاب هذا المذهب حاولوا أن يتخذوا من الرمزيات شيئًا آخر بجانب الأدب، فقد طمعوا في أن يقدِّسوا الرمزيات ويدخلوا الرمزيات في الدين، والدين في الرمزيات — وبمثل هذه الآراء عبر «أندريه بيلي» أحد زعماء المذهب الرمزي — ثم لأن بعض أساتذة المدرسة الرمزية رأوا أن يصبغوا المذهب الرمزي بشيء من الواقعي، ولا سيما في الشِّعر حتى يقربوا الشعر إلى الحياة، وقد ظهر هذا الاتجاه في آخر مؤلفات ألكسندر بلوك الذي يُعدُّ أكبر أدباء المذهب الرمزي، وقد يكون أكبر شعراء روسيا الحديثة، ثم ظهرت مدرستان أدبيتان تناوئان المذهب الرمزي، فالمدرسة الأولى هي مدرسة «مذهب السمو» acmcism، وتقوم هذه المدرسة على أساس تجديد الأدب القديم وإحيائه، ومن أشهر أساتذة هذه المدرسة جوميليف، إخماتوفا، أوسيب ماندلزتام من الشعراء، فقد رأى هؤلاء الأدباء أن الألفاظ يجب أن تُكسى بلحم جديد — إن صحَّ هذا التعبير — وأن المذهب الرمزي ذو ألفاظ ملتوية ومعانٍ متشاركة، وإن كان لها رنة موسيقية خلَّابة، فقاوموا ذلك كله، وسعوا بالأدب إلى البساطة وإلى شيء من الواقع، أما المدرسة الثانية فهي مدرسة أدباء المستقبل Futurists وهو مذهب قريب جدًّا من مذهب أدباء المستقبل في الأدب الإيطالي؛ أي المذهب الذي كان يتزعمه «مارينيتي» على أن حركة هذه المدرسة لم تكن متجانسة، وكان ينقصها منهجٌ إيجابي تسير في هداه، وإن كانت قد تمتعت فترة من الزمن بنجاح وسلطان، ذلك أنه عندما نشبت الثورة الروسية وأبى أكثر زعماء الأدب — إلا أقلهم أمثال بريوسوف — أن ينضموا إلى الثائرين اضطر الثائرون إلى أن يستعينوا بأصحاب المذاهب الأدبية المتطرفة في معارضة المذاهب الأدبية الأخرى، فكانوا أصحاب مدرسة المستقبل، وعلى رأسهم الشاعر الموهوب فالديمير ماباكوفسكي. ومن ثم أصبح أدباء المستقبل من أسلحة الثورة ودعاتها، بل أصبحوا قادة الحياة الأدبية في روسيا السوفييتية والمحتكرين له، ولما كان أكثرهم من الشعراء غلب الشعر جميع ألوان الأدب الأخرى، وقد يكون السبب في غلبة الشعر أيضًا تلك الحالة الشَّاذة التي كانت عليها روسيا إذ ذاك، فقد تعذرت الطباعة وقلَّ نشر الكتب، وكان الشعر يجري على الألسن ويتناقله الناس رواية أو مدونًا في قصاصات من الورق، وبدلًا من أن يجتمع الشعراء والأدباء في دور النشر اتخذوا من المقاهي العديدة في موسكو أندية لهم، بل كاد شعراء مدرسة المستقبل يحتكرون الجلوس في مقاهٍ بذاتها؛ ولذا سمي هذا العهد في تاريخ الأدب الروسي الحديث «بعهد المقاهي».
37
815
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
In Soviet Literature
Mohammed Kamil Hussein
Arts & Humanities
Specialized
3,010,144
BAREC_Hindawi_62746272_001.txt
أسباب النقل وتطوره (١) مسببات النقل لماذا يحتاج الإنسان إلى النقل؟ هذا السؤال العريض قد يحتاج إلى شرح يتَّسم ببعض الطول، وإن كانت الإجابة عنه في اختصار شديد هي أن الإنسان، وعالم الحيوان عامة، يتَّصف بصفة أساسية هي الحركة المستمرة؛ ليس فقط سعيًا وراء الغذاء، بل لأن الحركة جزء أساسي من تكوينه البيولوجي أيضًا؛ فالأطراف للحيوان والأرجل للإنسان أجزاء عضوية حية تتطلب الحركة آليًّا — وما دامت الحياة تسري في العروق والشرايين — إلا إذا أصيب الكائن الحي بمرض يُقعده عن الحركة. والحركة المستمرة عند الإنسان قد أصبحت لها دوافع اقتصادية جوهرية بحكم الرغبة في الحصول على الغذاء في كل مراحل البشرية الحضارية، ومع التقدم الحضاري لم تعُد هناك دوافع اقتصادية مباشرة في تحركات كل فرد، وإن كانت هذه الدوافع الاقتصادية تهيمن على خلفية الحركة بحكم انتماء الفرد لمجموعة بشرية تتحرك من أجل أرض أحسن أو أوسع. وبعبارة أخرى: إن حركة القوات المتحاربة، رغم أنها قد لا تكون في حد ذاتها بدافع الحصول على مزيد من الغذاء للمحاربين، فإنها تخضع لخطة معينة في التوسع من أجل مزيد من المكاسب الاقتصادية لصالح القبيلة أو العشيرة أو الدولة. وهناك أيضًا حركة قد تبدو بعيدة تمامًا عن الحركة الاقتصادية، مثل التحرك نحو مكان له قدسية خاصة في صورة الحج، أو التحرك لمجرد الترويح والنزهة واستكشاف ما يجهله الفرد من أماكن جغرافية أو خلوية، ولكن هذه الحركة في مجموع نتائجها أصبحت تكون نشاطًا اقتصاديًّا لعدد آخر من الناس يكونون دائمًا في نهاية مثل هذه الطرق؛ يستقبلون هؤلاء الزائرين ويقدمون لهم الخدمات اللازمة من مأوًى ومأكلٍ وملهًى. ومجرد الحركة في حد ذاتها — وعلى الأخصِّ بعد تكاثف خطوطها في حضارة العصر الصناعي — قد أصبحت نشاطًا اقتصاديًّا يشغل وقت المتخصصين في صناعة وسائط النقل المختلفة من البدائية إلى الحديثة. وقصارى القول أن الحركة عند الإنسان — فردًا أو جماعات، سلعًا أو أخبارًا — يسيطر عليها دافع اقتصادي أصيل، سواء عند الفرد أو الجماعة المتحركة، أو عند الجماعة المستقبلة لهذه الحركة، وبالرغم من هذا فإنه بالإمكان أن نفصِّل مسببات الحركة إلى أسباب منفصلة؛ لكي يمكن دراستها وتحديد نوع الحركة، مع الأخذ في الاعتبار بما سبق ذكره من ترابط هذه الأسباب المنفصلة ترابطًا حيًّا داخل الإطار الاقتصادي. وأسباب النقل متعددة على رأسها: (١) البحث عن الغذاء عند الجماعات البدائية تكنولوجيًّا. (٢) التجارة الإقليمية والدولية. (٣) أغراض سياسية وعسكرية. (٤) أغراض ترفيهية ودينية ومعنوية. (٥) الحركة اليومية من المدن الرئيسية وإليها. (١-١) البحث عن الغذاء عند الجماعات البدائية تكنولوجيًّا سنتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع فيما بعدُ. ويمكننا أن نُلخِّص ما سبق قوله في أن الجماعات البشرية القديمة السابقة على الزراعة والرعي، والجماعات البدائية المعاصرة في غابات أفريقيا وصحاريها الجنوبية، وفي أمازونيا وجنوب الأرجنتين وشيلي وتيرادلفويجو، والقبائل المنتشرة في داخلية النطاق الغابي الكثيف في الملايو وبورنيو والفلبين وغينيا الجديدة (إيريان وبابوا)، وغالبية سكان مجموعات الجزر الباسيفيكية. هذه الجماعات كلها تمارس الانتقال الدائم والموسمي من أجل الحصول على الغذاء، في دوائر محدودة المساحة، أو تنتقل في قواربها وراء الأسماك في مساحات محدودة أيضًا من مياه الباسيفيك. أما حركة رعاة الإبل والبقر في السفانا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وصحاري منغوليا وسنكيانج، بالإضافة إلى رعاة الرَّنَّة في سيبيريا، والإسكيمو، صيادي الحيوانات البحرية في شمال أمريكا الشمالية؛ فحركتهم موسمية واسعة نسبيًّا، ومنتظمة سنويًّا. ويشتمل انتقال هذه الجماعات غالبًا على: «أ» في حالة السكن المستقر في أماكن الوفرة النسبية كالواحات أو النطاق الاستوائي أو نطاق السفانا أو جزر الباسيفيك، يقوم الشبان بالتنقل إلى معسكرات موسم المطر أو الصيد الوفير، بينما تظل معظم الجماعة في أماكن سكنها الدائم. «ب» في حالة البداوة الكاملة كما هو الحال عند أقزام وسط أفريقيا وبشمن كلهاري في أفريقيا الجنوبية، وإسكيمو الشمال الأمريكي، ولاب شمال اسكندنافيا وجماعات رعي الرَّنَّة السيبيرية، تنتقل الجماعة بكاملها، كبار السن وصغارهم، من مكان إلى آخر وراء الصيد أو إلى مناطق معينة تحددها إيكولوجية حيوان الصيد أو حيوان الرعي في العالم القطبي. ويختلف الانتقال عند كلٍّ من الفئتين؛ فإن البداوة الكاملة تستدعي نقل كل ما تملكه الجماعة في ترحالها الموسمي، أو ترحالها الدائم بحثًا عن الطعام عند جامعي الغذاء، بينما يقتصر التنقل في الحالة الأولى على معسكر الشباب فقط. ويترتب على اختلاف المستوى الحضاري عامةً اختلافٌ في حجم المنقولات؛ فهي شديدة البساطة عند الجماعيين، بينما تتعدد المنقولات عند الرعاة أو الزراع البدائيين لتشمل المسكن ومستلزمات الحضارة الأعلى من أوعية متعددة الأغراض، إلى الطعام المحفوظ، إلى الملابس والأسلحة وأدوات الإنتاج المختلفة. وفي حالة الزُّرَّاع البدائيين لا يُنقل المسكن المبني عادة من الأخشاب، بل يُترك ويُبنى غيره في المكان الجديد. وبناءً على ذلك، فإن النقل عند الجماعيين لا يستلزم وسيلة نقل خاصة سوى النقل بواسطة الأفراد، وربما كان ذلك سببًا من أسباب قلة منقولاتهم. ويشترك الزراع البدائيون مع الجماعيين في قلة منقولاتهم. أما الرعاة فإنهم يستخدمون حيوان الرعي في النقل، إما للحمل وإما للجر أو لكليهما معًا. وبرغم بساطة النقل عند الجماعات البدائية تكنولوجيًّا فقد كانت له آثار بعيدة بالنسبة لتعمير العالم؛ فإن الحركة المستمرة وراء الغذاء، سواء كانت للجماعيين أو الرعاة أو الزراع البدائيين، قد أدت طوال تاريخ الإنسانية إلى هجرات الشعوب الواسعة من أماكن محدودة على سطح الأرض، ليملئوا سطح القارات جميعًا بحثًا عن الغذاء. وهذه الهجرات قد تمَّت ببطء شديد. ولا شك أنها حدثت نتيجة تزايد العدد السكاني فوق موارد الإقليم الغذائية. وقد حدثت هذه الهجرات إما في صورة سلمية بسيطة وإما نتيجة الطرد بالقوة بواسطة جماعة وافدة غازية. ولكن هجرات الرعاة كانت دائمًا سريعة نسبيًّا نظرًا لاستخدام وسائل النقل الحيوانية بالإضافة إلى التنظيم العسكري الذي يكون أساس حياة البداوة.
39
952
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Geography of Transport
Mohammed Riyad
Social Sciences
Specialized
3,010,145
BAREC_Hindawi_62929285_001.txt
الباب الأول البحث عن إسرائيل التوراتية الفصل الأول الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي تشير البينات الأركيولوجية واللغوية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى أن المنطقة السورية الواقعة بين الفرات والبحر المتوسط كانت مسكونة بعناصر سامية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. فأقدم المدن في هذه المنطقة، مثل أريحا وبيت شان وبيت يارح ومجدو وعكا وصيدون وساريبتا وسيميرا وأوغاريت، تحمل أسماء سامية لا لبس فيها. كما أن اللُّقَى الأثرية وبقايا الهياكل العظمية تشير إلى استمرارية عرقية وثقافية واضحة، ترقى إلى الألف الرابع وتتجاوزه. ويمكن القول ببعض الثقة إن التركيب السكاني في المنطقة السورية لم يتعرض لأي تغيير جذري منذ أواخر العصر النحاسي، حيث نستطيع متابعة خط ثقافي متميز لحضارة متصلة لا تُظهِر فجوةً أو انقطاعًا. ولكن من هم هؤلاء الساميون القدماء؟ ومن أين جاءوا؟ لقد أحدثت الدراسات اللغوية المقارنة الحديثة تغييرًا عميقًا في معرفتنا للأصول السكانية في هذه المنطقة، والتغيرات التي طرأت عليها، إلى درجة أن معظم النظريات القديمة — والتي تعود إلى ما قبل سبعينيات القرن العشرين — قد غدت بالية، وبحاجة إلى إعادة نظر جذرية. فلفترة طويلة، ومنذ القرن السادس عشر، سادت وبشكل كامل تقريبًا نظرية الهجرات السامية من جزيرة العرب، التي اعتُبرت المهد الأصلي للعنصر السامي. فهذه النظرية تحتوي ضمنًا أن اللغة السامية الأصلية التي تفرعت عنها لغات حضارات الهلال الخصيب؛ قد نشأت في جزيرة العرب، وأن اللغة العربية هي أقرب الأقرباء إلى تلك السامية الأصلية. غير أن أبرز المدافعين عن نظرية الهجرات قد بدأ يتخلى عنها في ضوء المعارف الجديدة في علم اللغات المقارن، ففي كتابه الصادر عام ١٩٥٧، على سبيل المثال، يقول عالم الساميات المعروف سباتينو موسكاتي في المقدمة ما يأتي: «ثمة حقيقة تبدو ثابتة إلى حد كافٍ، وهي أن التاريخ يدلنا على أن الصحراء العربية كانت نقطة الانطلاق للهجرات السامية، وإننا في ضوء معلوماتنا الحالية يجب أن نقبل، ولو على سبيل الافتراض العملي، أن المنطقة التي انتشر فيها الساميون كانت الصحراء العربية.» غير أن موسكاتي، في كتاب لاحق له صدر عام ١٩٦٩ حول قواعد اللغة السامية، يُظهِر شكَّه في هذه الفرضية وما يتبعها من نسبة اللغة السامية الأصلية إلى الصحراء العربية، ومن كون اللغة العربية هي الأقرب إلى هذه السامية الأصلية من شقيقاتها في الهلال الخصيب، مثل الأكادية والأوغاريتية. وبدلًا من التركيز على ما يُسمى باللغة السامية الأصلية، يقوم العلماء الآن بتلمُّس خيط يَربِط اللغات السامية باللغة المصرية وبقية لغات شمال أفريقيا. وهم يَرَون أن الأقرب إلى الواقع هو وجود لغة أفرو-سامية، تفرعت فيما بعد إلى سامية وأفريقية عند نقطة معينة من التاريخ. من هؤلاء العلماء: الألماني P. Behrens، والروسي Diakonoff. ففيما بين الألف السادس والألف الخامس قبل الميلاد تعرض الشمال الأفريقي إلى موجة جفاف طويلة وحادة، أدت إلى التشكُّل التدريجي للصحراء الأفريقية، وإلى هجرات نحو مصر وآسيا الغربية. وقد قادت هذه الهجرات إلى تكوين اللغة المصرية القديمة في وادي النيل، واللغات البربرية فيما وراء الصحراء الليبية، واللغة السامية الأم في سوريا، وهي السامية الغربية، وعنها انشقت السامية الشرقية التي طورها النازحون باتجاه وادي الرافدين. لقد ازدهرت الحضارة الزراعية في سوريا منذ الألف الثامن قبل الميلاد، وكانت الثورة الثقافية — التي يدعوها الأركيولوجيون بثورة النيوليتيك (ثورة العصر الحجري الحديث) — قد بلغت ذروتها إبان الفترة التي وصل خلالها النازحون من شمال أفريقيا، من هنا فإن القادمين الجدد لم يكن لديهم ما يقدمونه للثقافة النيوليتية المتطورة سوى لغتهم، التي تفاعلت مع اللغة المحلية ليَنتُج عن تفاعلهما اللغة السامية الأصلية. أما عن جزيرة العرب، فيبدو أن اللغة السامية قد جاءتها من فلسطين وسوريا الجنوبية في أواخر عصر البرونز المبكر، وأوائل عصر البرونز الوسيط (أي حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. )، فخلال هذه الفترة ساد المنطقةَ السوريةَ جفافٌ حارٌّ وطويل، أدى إلى انهيار ثقافة البرونز المبكر، وإلى اقتلاع للسكان وهجرات واسعة النطاق، وتحوُّل شرائح كبيرة من المزارعين المستقرين إلى الرعي المتنقل. من هذا المنظور تغدو الهجرة السامية عكسية، وباتجاه الجزيرة العربية لا منها. لقد أدت الثورة النيوليتية في سوريا وبلاد الرافدين إلى إحلال جملة من التغيرات العميقة الأثر في مجرى الحضارة الإنسانية. فخلال العصر الحجري الحديث استقر الإنسان الصياد في الأرض، وبنى القرى الزراعية الأولى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلًا من جمعه، مبتدئًا بذلك حضارتنا الحديثة التي تعتبر استمرارًا غير منقطع لتلك القرى الزراعية الأولى. وكما كانت منطقة الهلال الخصيب منطلقًا للثورة النيوليتية، فقد كانت أيضًا منطلقًا للثورة الحضرية، أو المدينية (نسبةً إلى مدينة)، وهي الثورة الثقافية الثانية في حياة البشرية. فمع أواخر الألف الرابع ومطلع الألف الثالث قبل الميلاد ظهرت المدن الأولى في منطقة سومر جنوب وادي الرافدين، تبعتها المدن المصرية، فمدن بلاد الشام. ولقد غدا واضحًا، على ضوء علم مناخ وبيئة العصور القديمة، أن ظهور المدن الأولى قد جاء نتيجةً لازدهار اقتصادي عمَّ المنطقةَ مع بداية عصر البرونز المبكر (حوالي ٣٠٠٠ق. م. )، بتأثير تغيرات مناخية جذرية. ففيما بين ٣٥٠٠ و٢٣٠٠ق. م. شهدت المنطقة بكاملها مناخًا باردًا ورطبًا، تميز بارتفاع كبير في منسوب الأمطار أدى إلى استثمار مكثف لجميع الأراضي الصالحة للزراعة، وإلى استصلاح مِساحات كبيرة من المستنقعات، وإزالة مِساحات لا بأس بها من الغابات لأغراض الاستثمار الزراعي، وهذا كله قاد إلى تكوين فائض الإنتاج اللازم لتشييد المدينة. إلا أن الاكتشاف المثير لمدينة إيبلا القديمة في الشمال السوري على مسافة ٥٠كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب؛ قد أثبت أن ظهور المدن الكبرى في سوريا لم يتأخر كثيرًا عن ظهورها في سومر وفي مصر. فقد ظهرت إيبلا كمدينة مكتملة منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، ويدل أرشيفها الكبير الذي عُثر عليه في القصر الملكي على وجود شبكة واسعة من المدن السورية الأخرى المعاصرة لها، والتي قد تثبت الاكتشافاتُ المقبلةُ معاصرتَها للمدن السومرية أيضًا. ويبدو أن موقع تل البيدر في منطقة الفرات هو المرشح الأول الآن لإحداث الثورة الأركيولوجية الثانية بعد إيبلا؛ لأن الرُّقم الطينية التي تم العثور عليها في الموقع خلال موسم التنقيب في عام ١٩٩٤ ترجع بتاريخها إلى حوالي ٢٧٠٠ق. م. وهذا ما يضعنا في فترة فجر السلالات في كل من سومر ومصر. أما في فلسطين، وعلى عكس بقية المناطق السورية، فيبدو أن الثقافة المدينية لم تبلغ شأوًا يُعتد به، إذ بقيت التجمعات السكنية الكبيرة أقرب إلى البلدة أو القرية الكبيرة منها إلى المدينة بمفهومها الصحيح. وقد حافظ الاقتصاد هنا على طابع محلي، ولم يسهم في التجارة الدولية رغم مرور طرق التجارة عبر المناطق الحدودية للأطراف الفلسطينية. إن غياب البينة على وجود سلطة مركزية في أي من المناطق الفلسطينية خلال الألف الثالث، واعتماد أكبر التجمعات الحضرية فيها على الزراعة بالدرجة الأولى، وفِقدان البضائع الكمالية ذات العلاقة بحياة الرفاهية، وغياب الكتابة التي هي من خصائص البيروقراطية المدينية؛ يجعل من الصعب التحدثَ عن نشوء مدن بالمعنى الحقيقي في فلسطين خلال الألف الثالث قبل الميلاد، فالبلدة الصغيرة هنا لم تتعقد بُناها إلى ما وراء الحاجة إلى التبادل التجاري الإقليمي والدفاع المحلي.
43
1,165
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Peace of Damascus and Israel
Firas Al-Sawah
Arts & Humanities
Specialized
3,010,146
BAREC_Hindawi_63071863_001.txt
استطراد لست أدري أية خاطرة قذفها القدر على ذهني فجعلتني أفكر في كتابة هذا الكلام الذي أكتبه الآن، والذي لا أستطيع أن أعرف له عنوانًا يصفه، فمن المؤكد أنه ليس مذكرات؛ فإنني عن معرفة بنفسي وليس عن تواضع لا أرى أنني من هؤلاء الذين يجدر بهم أن يكتبوا مذكرات. وهو أيضًا ليس حكايات مؤلَّفة، ولا هو رواية مما ألِف الناس أن يقرءوا لي. هو أقرب ما يكون إلى ذكريات كما اخترت العنوان، وأرجو ألا أكون قد اعتسفته اعتسافًا، فإن جنحتْ هذه الذكريات إلى القصة، فهي قصص من صنع السماء ليس لي عليها إلا عمل الناقل لا الخالق. وإن جنحت إلى رسم شخصيات مما تعودت أن أكتب أحيانًا، فهي الشخصيات أتحرى في رسمها الصدق لا الفن، فهي إذن صور فوتوغرافية، وليست صورًا قلمية أُضفي عليها من خيالي ما أشاء لأجعلها تبدو كما أريدها أن تبدو. فالشخصية المرسومة قد تكون عدة أفراد جمعتها أنا في فردٍ واحد، ولكن هذا الذي ستشاهده في هذه الصفحات هي شخصيات عرفتها، وستدرك حقيقتها حين تجد اسمها الحقيقي الذي يعرفه من عرفها يعلن عن أنها بنت الحياة، وليست من بنات الخيال، ولا هي من شخوص لروايات. أحسب أنني اليوم وأنا أقارب الخطو إلى ستينيات عمري لا يفصلني إلا سنوات قلائل نظرت إلى أيامي الماضية فوجدتني قد مررت بأقوامٍ كثيرين، وبعهودٍ شتى ربما لا تكون فيها غرابة، ولكن خُيِّل لي أن فيها طرافة. فقد نشأت في بيت أبي المغفور له إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهو رجل من رجال السياسة في عصره، ورجال السياسة في مصر يختلطون بكل الناس من شتى النِّحل والمهن، وأكثر صلتهم بناخبيهم الذين ينتخبونهم ليكونوا نوابهم في المجالس النيابية. وقد كان أبي عضوًا في مجلس النواب منذ تكوَّن إلى أن انتهت الحياة النيابية في مصر عام ٥٢، فليس غريبًا إذن أن أكون أنا على معرفةٍ تامة بالحياة منذ وعيت الحياة. وهل الحياة إلا الناس وقد وُلدت في زحامهم، وعشت بين أمواجهم، وشببت عن الطوق وأنا أتنفس الهواء الذي يتنفسون، وربما عرفت من أفواههم خفايا حياتهم التي يضنون بها على خاصتهم الأقربين؛ فقد طالما قصدوا إليَّ لأكون شفيعهم إلى أبي، والحديث إلى الابن الصغير أكثر يسرًا من الحديث إلى الأب الذي يحيط به جلال شخصيته ووظيفته نائبًا أو وكيلًا لمجلس النواب أو وزيرًا. وقد عرفت الحياة وأبي واحد من هؤلاء الثلاثة؛ فقد وُلدت عام سبعة وعشرين وتسعمائة وألف، وكان هو عضوًا بمجلس النواب، وسمعت فيما بعد أنه كان مديرًا لمكتب رئيس الوزراء محمد باشا محمود عام ٢٨، ثم مديرًا لمكتب عدلي يكن عام ٢٩، ثم عاد بعد ذلك إلى مجلس النواب نائبًا، ثم صار وكيلًا للمجلس مرتين؛ مرة في عام ٣٠، وأخرى عام ٣٨. وما دمت قد عرضت لما سمعته عن أبي فقد يحلو لي أن أروي ما سمعته عن نفسي، وإن كان قد خطر لي أن أروي مواقف أبي في ثورة ١٩، إلا أنني عدلت عن ذلك لأسبابٍ تواثبت تباعًا إلى ذهني؛ الأول: أنني لو دلفت من هذا الباب لاحتاج الأمر إلى كتابٍ بأكمله، والثاني: أن هذه المواقف مكتوبة في كل الكتب التي تناولت ثورة ١٩، والثالث: هو أنني أستطيع أن أروي بقلمي قصة صغيرة سمعتها، ولا تحتاج روايتها إلى مشاهدة وحضور. أما إذا رويت عن أبي في ثورة ١٩ فلا بد لي أن أكون معايشًا لهذه الفترة معايشة تسمح لي أن أكتب عنها، وهذا ما لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، وقد تزوج أبي من والدتي في عام ٢٤. ومما رُوِي لي أن الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد كان من أشد أنصار سعد باشا زغلول، وكان العقاد صاحب قلم عنيف شديد الوطأة على من يخاصمهم في الرأي. وحدث أن كتب عدة مقالات يهاجم فيها محمد محمود باشا، وكان الهجوم فيه سباب كثيف، حتى لقد وصف محمد محمود بالشقي محمد محمود، ثم كتب مقالًا آخر بعنوان الشقي رقم كذا، وكأنما محمد محمود أصبح من نزلاء السجون الذين يُعرفون بأرقامهم. وضاق محمد محمود بهذا الهجوم، وفي نوبةٍ من نوبات الضيق الشديد منه أقبل عليه أبي، فقال له محمد باشا: «أيرضيك ما يكتبه العقاد؟» وقال أبي: «لا، لا يرضيني، وأنا قادر على الرد بما يُسكته، ولكن بشرطٍ واحد.» وقال محمد باشا: «ما هو؟» قال أبي: «تنزل مقالاتي إلى مطبعة السياسة مباشرةً، ولا يقرؤها الدكتور هيكل رئيس التحرير؛ فهو لا يرضى مني العنف في المقالات، وسيحاول أن يخفف من قسوتها.» فقال محمد باشا: «لك هذا.»
45
761
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Memories, Not Memoirs
Tharwat Abaza
Social Sciences
Specialized
3,010,147
BAREC_Hindawi_63538394_001.txt
البداية سيرغب القارئ في معرفة ما يدور حوله هذا الكتاب؛ أيْ كيف سيتعامل مع الأسئلة الصعبة المطروحة حول الطاقة والبيئة، ومع الاحترار العالمي على وجه الدقة. وفي كلا هذين المجالين، نخاطب القارئ العادي غير المتخصص. ونرسم سياسات مهمة يمكن أن تُحدِث فارقًا عند تنفيذها، ونقترح خطوات محدَّدة ونضع قائمة أولويات. (١) وجهة النظر المتَّبَعة هذا كتاب يسعى إلى التنقُّل بين نقيضين. فنحن نعتقد أن ظاهرة الاحترار العالمي تَحدث وأن تصرفات البشر عامل رئيسي في ذلك الاحترار، ولكننا لسنا مقتنعين بأن كل شيء سيضيع إذا لم تُطبَّق على الفور وفي كل مكان تغييراتٌ هائلة في السياسات وأنماط الحياة؛ فلدينا وفق حساباتنا «فرصة سانحة» لفترة من عشرة إلى عشرين عامًا لوضع سياسات ستكون فاعلة في تسهيل التكيُّف مع المستويات الحالية من الاحترار العالمي، والتخفيف من أسوأ آثار الزيادة الخطيرة للغاية والطويلة الأمد في درجات الحرارة العالمية. سوف تكون هذه السياسات مكلِّفة، وسوف تتطلب مواءمات صعبة على نحو متزايد بينما يجري تدشين اقتصادِ طاقة جديدٍ، وسوف تحدث «صدمات» سياساتية وأخطاء مكلفة على طول الطريق، ولكن التغييرات لن تكون بالغة التكلفة أو مستنزفة بما لا طاقة لنا به ولن تُباغتنا «إذا» لم نستخدم الشكوك والصراعات الأيديولوجية كأعذار للمماطلة. وسوف نناقش هذه الأمور كلها بمزيدٍ من التفصيل في الفصول التالية. نظرًا لثبوت أن الكثير من توقعات تغيُّر المناخ بالغَتْ جدًّا في التفاؤل — إذ تَبخس جسامة الأحداث الفعلية قدرها — فمن الممكن أن تزول الفرصة السانحة بسرعة أكبر مما نتوقَّع الآن. ولإدراك وجود احتمال أن مثل هذا الوضع التعيس يمكن أن يحدث، فإننا بحاجة إلى أن نكون مستعدين لتنفيذ بعض الاستجابات الأكثر تطرُّفًا — وفي بعض الحالات المثيرة للجدل — بسرعة كبيرة حيال الاحترار العالمي. ولهذا السبب، تتَّبع اقتراحاتنا السياساتية المذكورة في الفصول التاسع والعاشر والحادي عشر استراتيجية ذات مسارين: مسار «طبيعي» في العقدين القادمين يسعى لإقامة عملية سياساتية تعمِّق قدرتنا على التعامل مع آثارِ الاحترار الذي حدث وسيستمر في الحدوث، وتخفيفِ آثاره، وإدامة هذه العملية السياساتية؛ ومسار «غير طبيعي»، يركِّز في البداية على نفقات الأبحاث المعززة التي تسعى إلى تفادي الأسوأ والحد من الأضرار الناجمة عمَّا لا يمكن تفاديه. يوجد تشابه بسيط هنا مع استجابة إدارة أوباما نحو الخطر الذي هدَّد مؤخرًا النظام المالي في الولايات المتحدة، وكذلك النظم المالية في جميع أنحاء العالم؛ ففي هذه الحالة، تم اللجوء إلى استجابات سياساتية متعددة الأبعاد وواسعة النطاق للحيلولة دون حدوث انهيار مدمِّر. قد تظهر الحاجة إلى استجابة طارئة مماثلة إذا أصبح المسار غيرُ الطبيعي واقعًا، ولكن توجد احتمالات معقولة لتفادي مثل هذه النهاية. نريد أيضًا أن نكون مُنْصفين في تحليلنا، بحيث لا نكون من منكري تغير المناخ تمامًا، أو من المدعين الأيديولوجيين الذين يبحثون فحسب عن مكسب حزبي من النقاش حول تغير المناخ، بل أن نكون من المحلِّلين الذين يعتقدون أنه يمكننا التعامل مع المشكلة على نحو أكثر فاعليةً وبتكلفة أقل من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل الأخرى. إنَّ علم وسياسة تغير المناخ يتطوران باستمرار، وتظهر معلومات جديدة من مجموعة متنوعة من المصادر، وتنشأ تكوينات جديدة من القوة السياسية والرأي العام باستمرار. من المهم أيضًا التأكيد على أنه مهما كانت درجة اتفاق الآراء في الأوساط العلمية والسياسية، فإن العامة بوجه عام مشوشون أو مترددون أو غير مبالين عادة بالنقاش حول الاحترار العالمي؛ هم مركزون في المقام الأول على القضايا الاقتصادية (الوظائف والرهون العقارية والمعاشات وغيرها)، وبالنسبة إليهم يمكن لآثار تغيُّر المناخ الطويلة المدى أن تنزل بسهولة إلى موضع متدنٍ على أجندتهم السياسية (أو الشخصية). ومن ثَم، أظهرت دراسة حديثة أن الاحترار العالمي كان في المركز العشرين على قائمة القضايا ذات الاهتمام للناخب التقليدي، وهذا له آثار واضحة على ما هو مرجح — أو غير مرجح — أن يكون مجديًا أن تفكر فيه أيُّ حكومة. سوف نعود إلى مسألة آثار الرأي العام في وقت لاحق، وخاصة في الفصل الحادي عشر. ربما يجدر أيضًا التعليق على الجدل الذي دار في ديسمبر ٢٠٠٩ بشأن رسائل إلكترونية بين عدد من العلماء في جامعة إيست أنجليا تم اختراقها (على نحو غير قانوني). على ما يبدو كشَف عددٌ قليل من الرسائل بعضَ الجهود الطفيفة من قِبَل قليل من العلماء لإخفاء انخفاضٍ حديثٍ في درجات الحرارة، ومنع نشر بعض المقالات التي كتبها بعض منكري الاحترار العالمي. ولما كانت الرسائل المخترَقة قد سُرِّبت في الوقت الذي جرى فيه افتتاح مؤتمر كوبنهاجن، أدَّى ذلك إلى إرباك العامة وقدَّمَ ذريعة (وإن كانت زائفة) لمعارضي اتخاذ إجراء سريع نحو اقتصاد طاقة جديد. ومن ثَمَّ، استشهد المندوب السعودي في مؤتمر كوبنهاجن بالرسائل الإلكترونية المسرَّبة في كلمته الافتتاحية كسبب لتأجيل اتخاذ الإجراء، مضيفًا — على نحو غريب للغاية — أنه ينبغي تحت أيِّ ظرف تعويض البلدان المصدِّرة للنفط عن أيِّ خسائر اقتصادية محتملة، إذا بدأت مصادر الطاقة المتجددة تحل محل المواد الهيدروكربونية في اقتصادات الوقود. ولكنه مع ذلك لم يعرض تعويضات موازية من جانب الدول المصدرة للنفط لإعادة أرباحهم التي هبطت عليهم من السماء إلى أولئك الذين تضرَّروا بسببهم. والأكثر تخييبًا للآمال هو أن العلماء في إيست أنجليا انتهكوا المعايير المهنية الخاصة بهم؛ ولكن بنظرة أوسع، لا يشكِّل ذلك فارقًا كبيرًا.
35
855
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Challenge of Climate Change
Daniel D. Berlemter and Robert L. Rothstein
STEM
Specialized
3,010,148
BAREC_Hindawi_63635250_001.txt
الفن الطولوني وسامرَّا الفن الإسلامي فن مَلَكيٌّ بطبيعته، ونقصد بذلك أنه مَدين بكل شيء للسلطان؛ فالمثَّالون، والمصوِّرون، والمهندسون، وغيرهم من رجال الفن إنما كانوا يشتغلون إجابةً لطلبه، وتحقيقًا لرغبته، وإشباعًا لشهواته. ونحن إذ استثنينا السلطان فلن نجد للفنون الجميلة رُعاةً إلا من بلاطه وحاشيته، أو في الأُسَر القليلة التي تسكن العاصمة وتعتمد في معيشتها على السلطان وبيت ماله، ولسنا نقصد أن هذا الأمر مقصور على الفن الإسلامي؛ ولكنَّا نقول إنه أصبح فيه ظاهرة كبيرة يصحُّ معها أن تُنسَب المراحل المختلفة في التاريخ الإسلامي إلى الأُسرات الحاكمة، فيُقال: فن أُموي، وفن عباسي، وفن طولوني، وفن فاطمي … إلخ. وإذن فليس غريبًا أن تظلَّ مصر قبل الطولونيين تابعةً للخلافة الإسلامية في الفن، كما كانت تتبعها في السياسة، وليس غريبًا أن تكون نشأة الفن الإسلامي في مصر وحياته فيها قبل العصر الطولوني يحيط بهما شيء من الغموض. والفن الطولوني أول مرحلة واضحة جلِيَّة في تاريخ الفن الإسلامي بأرض الفراعنة، وسيَرَى القُرَّاء أنه لم يكن مستقِلًّا كل الاستقلال عن فن الخلافة العباسية في ذلك العهد، ولكنه — على تبعيَّته له واشتقاقه منه — كان منافسًا له، ولا غروَ؛ فقدِ استطاع بنو طولون أن يتَّخذوا لأنفسهم بلاطًا كبلاط الخليفة في سامرَّا وبغداد، إن لم يَفُقْهُ أُبَّهةً وعظمة، وأصبح البذخ والترف في مصر يربو على ما في العراق وبلاد العرب؛ حيث كانت ثورة الزنج والفتن الداخلية قد استنزفَتْ أموال الحكومة وجهودها. والمصادر التاريخية والأدبية حافلة بذِكْر عظمة الطولونيين وتعضيدهم الفنون، يؤيِّد ذلك ما وصل إلينا من الأبنية والطُّرَف الأثرية. وممَّا يُلاحظه علماء الآثار الإسلامية أن الفن الطولوني مُستقِل في التاريخ الفني لمصر، له صفاته ومميزاته، فإن كان الفن الفاطمي مُشبعًا بالتأثيرات الفارسية، والعوامل السورية والطولونية، مع اقتباسات قليلة عن فنون البربر في شمال أفريقيا؛ وإن كان فن المماليك قد احتفظ بذكريات فاطمية وسلجوقية ومغولية، مع بعض تأثيرات مغربية وأوروبية؛ فإن الفن الطولوني يكاد يكون قد أخذ كل أصوله عن الفن العراقي الذي ترعرع في سامرَّا عاصمة الخلافة العباسية. وقد كان الفن الطولوني وعلاقته بسامرَّا موضع جدل ودرس طويلَين، وكتب فيه كثيرون من علماء الآثار والمستشرقين، نذكر منهم: كوربت CORBETT، وفان برشم VAN BERCHEM، وسلمون SALMON، وهرتز باشا HERZ PACHA، وسلادان SALADIN، وزرَّه SARRE، وهرتزفلد HERZFELD، وشتريجوفسكي STRZYGOWSKI، وفلوري FLURY، وكريزول CRESWELL، وعكوش، وهوتكير HAUTECOEUR، وفييت WIET. ويعزو الأستاذ فون لوكوك VON LE COQ التقدُّم الذي وصلَتْ إليه الفنون في مصر في عهد ابن طولون وبيبرس إلى أن «هذين التُّركيَّين لم يكونا من الهَمَج المتوحشين، بل كانا من القبائل الهندية الأوروبية (الآريَّة) التي غلبَتْ عليها الصبغة التُّركية، وورثا الفن السيتي الذي ازدهر في أواسط آسيا.» وهذا زعمٌ غير صحيح؛ فنحن نسلِّم بتأثير هذه القبائل التُّركية وفنونها على ما نسمِّيه الطراز الأول من زخارف سامرَّا التي سندرسها قريبًا، ولكنَّنا نظن أنه من غير المحتمل أن يدَّعي مثل ابن طولون وبيبرس وغيرهم من الأتراك والمماليك أنهم ورثوا عن بلادهم الصحراوية القاحلة فنونًا زاهرةً حضرية، كفنون مصر في عهد الطولونيين والمماليك، وفضلًا عن ذلك فقد عرف الفن الإسلامي في مصر في عهد الفاطميين (وهم ليسوا من الجنس الهندي الأوروبي الذي غلبَتْ عليه الصبغة التُّركية على حد قول فون لوكوك) تقدُّمًا وازدهارًا لا نظير لهما، بدليل ما وصل إلينا من الأبنية والتحف الأثرية، وما كتبه المقريزي عن كنوز الخليفة المستنصر بالله. ومهما يكن من شيء فإن نظرة إلى مسجد أحمد بن طولون، وإلى المصادر التاريخية العربية تكفي لأن تقنعنا بأن الفن الطولوني مأخوذ عمَّا كان من فن في بلاد الجزيرة، وخاصةً في سامرَّا التي كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية حين ظهر أحمد بن طولون على المسرح السياسي. قضى أحمد بن طولون شبابه في سامرَّا التي كشفَتْ فيها حفائر الأستاذَين زرَّه SARRE، وهرتزفلد HERZFELD عن أنواع مدهشة من الأبنية والزخارف الفنية والتحف الأثرية، وظلَّت ذكرى هذه العاصمة العباسية باقيةً في ذهن ابن طولون الذي كان يحرص كلَّ الحرص على أن يرتقي ببلاطه وبعاصمته في مصر؛ حتى يكون منافسًا لعاصمة الخلافة وما فيها. وإذ إننا سنضطر في كثير من الأحوال إلى الالتجاء إلى هذه العاصمة؛ لنتفهَّم أصول الزخارف الطولونية؛ فإنه يجدر بنا أن نبدأ بدراسة مُفصَّلة لتاريخها ولِما ازدهر فيها من فنون.
25
708
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Islamic Art in Egypt
Zaki Mohammed Hassan
Arts & Humanities
Specialized
3,010,149
BAREC_Hindawi_64628479_001.txt
حاضر اللغة العربية تربِط اللغة العربية في العصر الحاضر بين شُعوب تُعَدُّ بعشرات الملايين؛ فهي من حيث ذلك عامِلٌ قوي عظيم؛ ذلك بأنها قِوام الثقافة المُشترَكة التي تصِل أنحاء ذلك العالَم الكبير الذي نُسمِّيه «العالم العربي»؛ لهذا نرى الشعوب العربية على اختِلاف نزَعاتها ومُلابَساتها الأجياليَّة والجُغرافية تعمل مُجمعةً على إحيائها وبعْثها من ذلك الركود الذي انتابَها نَيفًا وعشرة قرون، لتُلاحِق — بما فيها من قوة الحياة — غيرَها من اللغات الحيَّة التي يتكلَّمُها شعوب المدنِية الحديثة. وقد نرى أنَّ أهل العِلم في هذا الزمان يَشعرون شُعورًا عميقًا بما لها من أثرٍ في خلق التصوُّرات الحديثة الملائمة لثقافتهم، والتعبير عن تلك العواطف التي تَجيش في صدورهم، والآمال التي تمتلئ بها تَصوُّراتهم، والخَلَجات التي تهتزُّ لها مَشاعِرهم، فنراهم وقد فزِعوا — كلٌّ في الناحية التي يتَّصِل بها — إلى نبْشِ كلِّ ما يتَّصِل بحياة اللغة؛ ليَستخلِصوا من آثار الماضي المجيد قواعد يتَّخِذونها أساسًا لبناء مُستقبلٍ أعظم من الماضي وأمجد. ولقد نجِد فوق ذلك أنَّ الناطقين بالضاد مُنقسِمِين قِسمَين: قسمًا يرى أن القواعد التي وَضَعها اللغويُّون واعتُبرت المِقياس الذي لا ينبغي أن تخرُج عليه اللغة، هو الحدُّ الذي يجِب أن يقِف عنده اجتهادُنا، وقِسمًا يرى أن هذه القواعد إن صلُحَت أن تكون حدًّا ينتهي عنده اجتهاد أهل اللغة في العصور الأولى، فإن حاجات هذا العصر تَحمِلنا على الرجوع إلى ما وَضَع أحرار الفكر من اللغويين لنأخُذ منها ما يُلائم حاجات العصر الذي نعيش فيه، فنوسِّع من أقْيِسة اللغة، ونجعلها قادِرةً على مُجاراة اللغات الحديثة من حيث القُدرة على الوضع والابتكار. والبحث يَدلُّنا على أنَّ أئمة اللغويين قد استطاعوا أن يَستخلِصوا من كلام العرب الأُصَلاء قواعد انتَحَوها في وَضع مُفرَدات اللغة، منها التعريب والنَّحْت والاشتِقاق والزيادة، أي زيادة الحروف على بِنية الأصول، والاقتِياس: وهو مَبْحث جديد استخلصتُه في اللغة، وآمُل أن يَصلُح أن يكون أساسًا جديدًا يُنتَحى في وَضع الأسماء الاصطلاحية. وقد يَحسُن بنا في بَداءة هذا البحث أن نُشير إلى حقيقةٍ أساء الكثيرون تفسيرها؛ ذلك بأن فئةً من الباحِثين يقولون: إن القواعد اللغوية التي خلَّفَها السَّلف من اللغويين قد لابَستْها حالة من القداسة، أو أنها أُلْبِسَتْ ذلك الثوب عمدًا؛ اتِّقاء حالاتٍ قامَتْ في عصور مدنِيَّتنا الأولى. والحقيقة أن سَلفَنا لم يلجئوا إلى تلك القواعد ولم يُقرِّروها إلَّا لحاجةٍ غلبَتْ على عصورهم، فأرادوا بها ردَّ عادِيَةِ الرَّطانة والعُجمة عن اللغة. ولقد استطاعوا بكدِّهم وجِدِّهم وصفاء قرائحهم أن يَضعوا للُّغة سوارًا أشدَّ من الصُّلب مرة، بحيث تَقصُر عنها هجَمات الشُّعوبيِّين وأهل العُجْمة، فحفِظوا بذلك هيكل اللُّغة صافيًا ومَورِدَها عَذبًا غير مُدنَّس بأكدار الدَّخيل من لغات الشعوب التي اختلطتْ بالعرب بعدَ القرن الثالث الهجري. فلقد نظلِم سَلَفَنا إذا نحن رَمَيناهم بالجمود أو نَسبْنا إليهم ظلامِيَّة العقل والتفكير، وحَكمْنا على القواعد التي وَضعوها بمِقياس حاجتنا في العصر الحاضر، من غير أن نُلِمَّ بالحالات التي قامت في عصورهم، ولو أنَّنا رجعْنا إلى الحالات التي شهِدَها أهل العربية في أوائل القرن الرابع الهجري ودُخول أقوامٍ بَعيدين عن العروبة في جِسم العالَم العربي يَستعملون لغة القرآن فيُفسِدون من كِيانها، ويَهدِمون من بِنيَتها، حتى لقد طغى على العربية في ذلك العصر مدٌّ من العُجمة، لرَأيْنا أنَّ السَّلَف الصالح لم يجِد من سلاحٍ يُقاوِم به ذلك الطّغيان إلا تلك القواعد التي سوَّر بها اللغة واتَّخذَها حِصنًا لها حصينًا، إذن يكون المذهب القديم — أي مَذهب المُحافِظين من القُدَماء — ضرورة اقتضَتْها حالات اجتماعية وسياسية واقتصادية قامت في تلك الأزمان، فهي ليست من طبيعة اللغة العربية كما عرَفَها العرب وكما استعمَلَها أهل البادية؛ فإنهم في الواقِع كانوا أحرارًا إلى أبعَدِ حدود الحرية. وما القيود التي اخترَعَها اللغويُّون إلَّا وسائل تذَرَّعوا بها إلى حفِظ كِيان اللغة، ولا شكَّ في أنَّ الوسائل تتغيَّر بتغيُّر الأزمان.
17
608
17-fa
17
7
5
3
Hindawi
Renewing Arabic
Ismail Mazher
Arts & Humanities
Specialized
3,010,150
BAREC_Hindawi_68184917_001.txt
القاهرة: نوستالجيا مستقبلية الموضوع الآتي رؤية ذاتية أسقطها من الماضي على المستقبل. كنت أود أن يكون العنوان «القاهرة التي كانت»، ولكن تراءى لي أن الخلاصة ستكون نظرة حزينة للواقع الذي نعايشه في قاهرتنا المحروسة المحبوبة للمصريين والكثير من أشقائنا في العروبة والإسلام، ومن ثم مزجت الماضي بالمستقبل، متخطيًا الواقع المؤلم الذي نعايشه. حنين جارف للماضي، وتشوق لما يمكن أن نعمله من أجل استعادة كلِّ شيء جميل كان يميز هذه المدينة الخالدة. الماضي الجميل ولدت ونشأت وعشت حتى الآن قاهريًّا أصيلًا. ربما كانت هناك جذور ممتدة إلى الشرقية، لكنني لم أعرفها إلا سردًا قليلًا من خلال قلة من أقرباء «شراقوه» مقيمين أيضًا بالقاهرة. حين شببت عن الطوق كانت تحدوني باستمرار رغبة في المشي الطويل؛ للتعرف على شوارع حي الجمالية، وبرغم لهفة الأهل، فإنني كنت أغامر طويلًا حتى انطبعت في الذاكرة خريطة من السيدة زينب إلى باب اللوق، وغربًا إلى كوبري قصر النيل، وشرقًا إلى عابدين والعتبة. وفي مرحلة الشباب اتسعت خريطة القاهرة لتشمل المدينة الفاطمية وبدايات شَبرا والعباسية، وفي مرحلة التعليم الثانوي تسلقت المقطم فجر أحد أيام شتاء ١٩٤٣ مع ثلاثة من زملاء الفصل في مغامرة خطرة حيث كانت هناك معسكرات للجيش الإنجليزي، وتُهنا عن عين موسى التي كانت مسجلة عندي في خريطة، وعند العصر وجدنا أنفسنا عند الجبل الأحمر، وتكررت رحلتي بمفردي إلى القناطر الخيرية بطريق إمبابة-المناشي، راكبًا دراجة أو ماشيًا على الأقدام مع العودة بالقطار. أما الذهاب إلى الأهرامات؛ فكان يسيرًا بواسطة الترام الذي كان يسير في منتصف الشارع بين خضرة وورود مما كان يشكل نزهةً ما بعدها متعة وجمال، وتمعن في أمجاد مصر دفعني إلى قراءات كثيرة في التاريخ المصري القديم. ولا أنسى فضلًا لأبي في مزيد من التعرف على خريطة القاهرة؛ فكل صلاة جمعة كنا نقضيها في مساجد بعيدة في المنيل وشبرا والجيزة، وعشرات المساجد من القلعة والسلطان حسن — الذي تعلقت به كثيرًا — والرفاعي، إلى الأزهر وغيره من التحف المعمارية الإسلامي التي تتميز بها القاهرة عن بعض المدن العربية الأخرى، وهذا ما زادني اتجاهًا إلى قراءات في تاريخ القاهرة، وشم عبق الزمان في الغورية والسكرية والخيامية والجمالية ...إلخ. أذكر هذه الخبرة الشخصية ليس لمجرد السرد، ولكن لنعرف كيف يحاول الشباب من جيلي أن يعرف مدينته إذا كانت كبيرة رحيبة مهيبة كالقاهرة. قد ساعد على هذه الريادات بنية ملائمة للمشي والتنقل في شوارع القاهرة آنذاك، فقد كانت الشوارع كلها ظليلة بما زرع على الأرصفة من أشجار ظلٍّ كثيرة، وما كانت المحلات تفرده من ستائر معلَّقة أمام واجهاتها في الأحياء المتوسطة والشعبية؛ بل في أرجاء القاهرة القديمة كانت بعض الشوارع تظلها أسقف خشبية أو من قماش سميك لدرء أشعة الشمس عن السابلة أثناء حركتهم في الأسواق، وتتخلل هذه الأسقف منافذ عالية للتهوية والإنارة، وبمثل هذا التحوط البشري كان الناس تلقائيًّا وتاريخيًّا يتعايشون مع البيئة القاهرية الحارة خلال الصيف الطويل، بحيث إن مثل هذه الشوارع كانت تسري فيها نسمات منعشة أقل حرارة من الجو المفتوح. وهذه هي إحدى أسس البناء عند العبقري المصري العالميِّ المهندس البنَّاء حسن فتحي: درس حسن فتحي أشكال البناء المصري القديم والإسلامي في القاهرة والواحات والنوبة التي غرقت تحت مياه بحيرة السد أو بحيرة ناصر، مستخلصًا مبادئ بسيطة لكنها شديدة الفعالية في التغلب على حرارة صيف المناطق الصحراوية، ويمكن تلخيصها في أمرين؛ أولهما: محاولة الحصول على الظل والنسمة من خلال تقارب المباني بحيث يقلل مساحة الفراغات التي تتسلط منها أشعة الشمس، وثانيهما: الإكثار من القباب على أسطح البيوت التي تزيد من حجم الغرف والصالات مع نوافذ عليا تتسرب منها الحرارة المتجمعة المنبعثة من الأجسام والنشاط البشري داخل الغرف؛ فالهواء الدافئ يصعد إلى أعلى والبارد ينزل إلى أرضية الغرف. كما أن وظيفة الأقبية أنها تشتت أشعة الشمس الخارجية في زوايا عديدة على كل درجات الميل للقباب بدلًا من السطح المستوي للأسقف، وفي الممرات والدهاليز داخل البيوت تسري أهوية رطبة تخفض درجة الحرارة على أن يكون لها فتحات مواجهة للرياح الشمالية السائدة. ومن هنا كان بناء مساقط هواء «شخشيخة» ملونة الزجاج على أسطح البيوت، يمكن التحكم بواسطتها بفتح زجاج مواجه لتيار الهواء وإغلاق غيره. ومن هنا أيضًا كان استخدام المشربيات على النوافذ له مثل هذه الوظائف المبردة لزمتة الصيف وخنقة الرطوبة. كل هذه المبادئ البسيطة في البناء هي نتاج تاريخ طويل لممارسات سكان المناطق الحارة الجافة من إيران إلى مصر وشمال أفريقيا، وكلها كانت في انتظار توافق فكر مبدع يربطها معًا، وهكذا كانت عبقرية المعماري حسن فتحي، وما أحوجنا إلى الاحتفاء به هذه الأيام، ليس فقط بإقامة ندوَات علمية؛ بل أيضًا بمحاولة تطبيق توافقاته البيئية بصورة أعم مما هو عليه الوضع الآن. القاهرة كما يعرفها من هم في سنِّي، منذ الأربعينيات والخمسينيات، ينكر أن القاهرة الآن هي التي كان يعرفها منذ نصف قرن لولا بعض الشواهد الباقية الباهتة. فكثير من الشوارع والميادين تغيرت أسماؤها وتدهورت أحوالها. من يقول: إن شارع فؤاد (٢٦ يوليو الآن) هو نفس الشارع الذي كان متنفسًا يذهب إليه الناس للترويج في ظلِّ إطار الأشجار التي كنت تحفُّ به، ولمشاهدة مجموعة المَحَالِّ شديدة الرقيِّ: شيكوريل وشملا وبيع المصنوعات، وعصافير زاهر شفيق — إن أسعفتني الذاكرة — وقهوتَيْ بول نور وبورفؤاد على ناصيتي سليمان باشا وشريف باشا، ومحلات «الأمريكين» والبن البرازيلي وحلواني أسدية والكازار وتسيبَّاس ... إلخ. والشوارع المتقاطعة بما فيها من مقاهٍ ومطاعم وسينمات، مثل: البودجا والكورسال والباريزيانا، وسينما ديانا وكايرو وسان جيمس، ومسرح رتيبة وإنصاف رشدي في شارع الألفي، ومترو وميامي وكافيه ريش ومشرب الشاي الهندي في سليمان باشا. وعشرات المطاعم الفاخرة الغربية والشرقية، مثل: الشيمي وكورسال وسان جيمس واليونيان، وسوق التوفيقية الشهير بأصناف منتقاة من الخضر والفاكهة، وسوق الممر التجاري بصناعاته الجلدية المصرية التي كانت تلقى قبولًا حسنًا من المصريين والأجانب المقيمين والسياح. هذا قليل من كثير لشارع واحد محوري في القاهرة، يبدأ بمنتزهٍ عظيم هو حديقة الأزبكية التي تقطعت أوصالها، ويحاولون الآن استعادتها بعد الخسارة! كان الشارع مسارًا للترام والأتوبيس والسيارات، وبقربه من عماد الدين بداية مترو مصر الجديدة، وبرغم ذلك كانت الضوضاء والجلبة قليلة وعادم السيارات قليل بحكم انضباط قواعد إصدار التراخيص. كانت فئات الشباب تجوب الشارع صيفًا بعيون مفتوحة على حركة الناس والتجارة، يتناولون وجباتٍ سريعةً وقطع الجاتو في مَحالَّ متعددةٍ، وكبار القوم يلتقون في البول نور في هدوء يحتسون القهوة، ورجال أعمال يختارون قهوة بورفؤاد مقرًّا للشاي وإجراء الصفقات. كانت أمسيات الصيف القاهريِّ أكثر من رائعة تتخللها نسمات رقيقة نقية الهواء، والكثير من العائلات تذهب لحفلات السينما في أبهى حلة من السادسة إلى التاسعة، مع القليل من محبي النظر إلى الجمال، والقليل جدًّا من المعاكسات الشبابية؛ لأن رجال الشرطة يؤدون واجبهم وسط طاعة واحترام الجميع وتقديرهم لما تؤديه الشرطة لأمن الناس. أما في الشتاء يغلق مبكرًا إلا من بعض الذين يشوون أبو فروة في الأمسيات الباردة، وينسحب روَّاد المقاهي إلى داخل المقهى والطلبة في بيوتهم يستذكرون بانضباط نحسدهم عليه الآن؛ لأن المدرسة كانت حازمة بالنسبة لمن يتكرر رسوبهم.
54
1,158
15-sin
15
6
4
3
Hindawi
Cairo
Mohammed Riyad
Social Sciences
Specialized
3,010,151
BAREC_Hindawi_69179508_001.txt
افتتاح بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أحمده حمدًا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة مَن لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضلُّ مَن أنعم به عليه، وأستغفره لما أزْلَفْتُ. وأخَّرت، استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأُصلِّي وأُسلِّم على من كان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخَب لرسالته، المفضَّل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته، المرفوع ذكره مع ذكره في الأُولى، والشافع المشفَّع في الأخرى؛ أفضل خلقه نفسًا، وأجمعهم لكل خلق رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسبًا ودارًا؛ محمد عبده ورسوله. ١ الزَّلَف: التقدُّم والقُربى، وأزلفت قدمت. ٢ اقتباس من كتاب الرسالة للإمام الشافعي. ٣ اقتباس من كتاب الرسالة للإمام الشافعي. مقدمة ومنهج ليس التاريخ، مهما كان موضوعه: رجلًا أو دولة أو فنًّا أو علمًا، إلا صنعة شخص أو أشخاص في إطارٍ من الزمن؛ فما من حدث من أحداث التاريخ إلا كان من ورائه شخص أو أشخاص، وما من دولة قامت أو سقطت إلا كان ذلك نتيجة عمل شخص أو أشخاص، وما من نظام زال ليحل مكانه نظام آخر إلا كان ذلك ثمرة أعمال رجال كانوا هم العامل الأول فيه، وهكذا إلى سائر الموضوعات والجوانب التي يتناولها التاريخ والمؤرخون. ومن ثَمَّ، كانت الأهمية البالغة للتراجم والمترجمين؛ لأن هذه التراجم هي التي تفسر التاريخ تفسيرًا صحيحًا، وهي التي تعين على فهمه حقًّا، وهي أولًا وأخيرًا التي تبعث فيه الحياة، ما دام التاريخ ليس إلا وصفًا صادقًا لسير هذه الحياة بما تشمل من كائنات. ومن ثَمَّ أيضًا، كانت دقة المؤرخ أو المترجم، وكان عمله يقتضيه حذرًا بالغًا يقيه الوقوع في الخطأ، واعتماد كل ما يقع لديه من أقاصيص ومأثورات تتناول من يترجمه من هذه الناحية أو تلك. كما تقتضيه بذل الجهد في فهم مَن يترجم له من كل نواحيه، بما في ذلك النواحي العقلية والنفسية والأخلاقية وما يتصل بها، والبصر بالعصر الذي نشأ فيه، والبيئة التي تقلَّب في أرجائها، والعوامل التي تأدَّت به إلى ما عُرف به من أفكار وآراء تتمثل في المذهب الذي أُثِر عنه، والآثار التي كانت لهذا المذهب. من أجل ذلك كله، رأينا أن نسير في هذا البحث طبقًا لهذا النهج الذي نوجزه في هذه البحوث أو الفصول: (١) دراسة العصر الذي عاش فيه. (٢) دراسته باعتباره إنسانًا منذ نشأ حتى صار صاحب مذهب أصبح خالدًا في الفقه. (٣) دراسة طريقته وفقهه. (٤) نزعاته أو اتجاهاته الفقهية، وبخاصة الإنسانية منها. (٥) صور من الخلاف بينه وبين الفقهاء الآخرين. (٦) وأخيرًا، أثره ومآل مذهبه. وفي كل هذه المباحث لن نألو — بفضل الله تعالى ومشيئته — جهدًا في استقراء المراجع الأصلية، وتحرِّي الأمارات والقرائن والدلائل، للوصول منها جميعًا إلى الحقائق التي لا شك فيها، وسنحاول أن نكون منصفين طالبين الحق وحده، والله يهدي إلى سواء السبيل. عصر أبي حنيفة تمهيد عاش أبو حنيفة الشطر الأكبر من حياته العلمية في ظل الدولة الأموية، كما عاش الشطر الآخر تحت كنف الدولة العباسية، وبذلك شهد ما كان من أحداث في كلٍّ من هذين العصرين من عُصُر الدولة الإسلامية، وصاحَب أرباب النِّحَل والآراء والمقالات فيهما، سواء في ذلك الناحية الدينية والناحية السياسية، وأحسَّ ما كان من تفاعل الثقافة الإسلامية والثقافات الأجنبية التي تسربت إلى المحيط الإسلامي أو نقلت إليه، وكان لكل ذلك أثره فيه وفي غيره من رجال الفكر والرأي بلا ريب. نعم! لقد رأى أبو حنيفة النور في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ونشأ في ولاية الحجاج الثقفي على العراق، هذا الوالي الذي يعرفه التاريخ بالقسوة والشدة في معاملته للثائرين على سلطان سادته الأمويين، ثم عاصر وهو شابٌّ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. وأخيرًا، رأى ما صار إليه الأمويون من سوء حال يؤذن بزوال دولتهم، وساير بدء الدعوة للعباسيين التي اتخذت العراق — وطن أبي حنيفة — مهدًا لها، والتي انتهت بانتقال الخلافة إليهم على أيدي نفر من بني جلدته الفرس، ثم كان أن عاصر أيضًا خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بعدما رأوا أن العباسيين أخذوا الأمر لأنفسهم، على حين كانت الدعوة باسم العلويين، ثم كانت خاتمة حياته في أيام المنصور عام ١٥٠ه بعد أن استقر الأمر تمامًا له ولذويه دون أبناء عمومتهم العلويِّين. لا جرم إذن أن يتأثر أبو حنيفة تأثرًا كبيرًا بهذه الأحداث التي نشأ فيها، وعاش بينها، وأسهم في بعضها؛ وأن يُعمل فيها فكره، وأن تكون عاملًا هامًّا — بجانب العوامل الأخرى التي سنتكلم عنها فيما بعدُ — في طبع تفكيره بطابع خاص، وفي توجيهه الوجهة التي اتجه إليها، وجعلته إمامًا من أئمة الفقه الإسلامي.
44
853
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
Abu Hanifa and the Human Values in His Doctrine
Mohammed Youssef Mousa
Social Sciences
Specialized
3,010,152
BAREC_Hindawi_69284635_001.txt
أحلام تحت تأثير المخدِّر بينما أحاول أن أُقنِع ميار ابنتي بالنوم والاكتفاء بهذا القدر من اللَّعِب والقفز، اتسعت ابتسامتها وهي تقول وقد أدركَتْ بأعوامِها الخمسة أنها نالت منِّي: غير أني بُهِتُّ لِمَا قالت، واتسعت ابتسامتي جدًّا، وسمحتُ لها بالطبع بوقتٍ إضافي لِلَّعِب؛ تقديرًا لذكائها وتسليمًا مني بانتصارها في الجدل، إلا أن الموقف كذلك بَدَا متشابهًا مع تعليقِ طفلةٍ وهمْسِها لصديقٍ قبل أن يَحقنها بأدوية التخدير، حين أخبرَتْه أنها تراه رسولًا للنوم. ربما يكون عاديًّا أن يخلط الأطفال بين انسحابِ الوعي الناتج عن التخدير، وذلك الناتجِ عن النوم؛ فكلاهما غيابٌ للوعي بالمحيط، ولردود الأفعال الواعية، وللتفكير والذاكرة والدهاء. لكنك تجد أطباءَ تخديرٍ يتعمَّدون ذلك الخلطَ ويستحبُّونه، ودوافعُهم عديدة. في أول أيام عملي كطبيب مُقِيم بقسم التخدير بجامعة القاهرة، وبينما كنت أَدلِف إلى إحدى غُرف العمليات تلفَّظت بعبارة: «المريض متبنج أو متخدر، تحت تأثير البنج أو التخدير.» لأتفاجأ بعبارةِ لومٍ وعتاب ونظراتٍ تَحمل كثيرًا من الضِّيق وكأنني ارتكبتُ جُرْمًا: «لا تَقُل أبدًا العيان متخدر أو متبنج أو تحت تأثير البنج أو التخدير، قل العيان نائم.» لم أُعقِّب وإنْ تساءلتُ في حينها عن مغزى توصيفِ غيابِ الوعي العميق، الناجم عن أدويةٍ لتضييع الإحساس بالمؤثِّر الجراحي، بتلك العملية الفسيولوجية الطبيعية والمسمَّاة بالنوم. لم يَمضِ كثيرُ وقتٍ حتى صرتُ أحْرَصَ منهم على وصف مرضاي تحت تأثير أدويتي السحرية بأنهم نائمون، أفعل ذلك بلا وعيٍ ربما، غير أني لم أكفَّ عن محاولةِ تفسيرِ الأمر. لماذا نفعل ذلك؟ لماذا نصِفُ وضع المريض تحت تأثير المخدِّر بتلك الحالة من السَّكِينة التي نغرق فيها جميعًا، والتي اصطلحنا على تسميتها بالنوم؟ تبدو الأسباب مُتداخِلةً وسيكولوجيةً في مُجمَلها. نعم، نحن — أطباءَ التخدير — قومٌ مُتطيِّرون، نؤمن بالفأل الشؤم والفأل الطيب، ونَعتقِد في الغيبيات والماوَرَاء، ونستعيذ من الشياطين ومن عبَثِهم، ونتودَّد للملائكة ونأمل في مساندتهم لنا. ليس الأمر كما قد يبدو تسليمًا بالخرافة أو مُعالجةً لمرضانا بشكل غير علمي تجريبي؛ على العكس تمامًا، فما أعلمه يقينًا أننا قوم نؤمن بالطب المبنيِّ على دليلٍ، وكلُّ رأي أو نظرية لا تصحُّ إلا بعد أن تؤكِّدها التجارب، وساعتَها فقط تتحوَّل إلى حقيقةٍ مثبتة، ورأيٍ قاطع، وممارَسةٍ معمَّمة، وإرشاداتٍ تُصدِرها كُبريات الجهات العِلمية والطبية. أقوى أنواع الأدلة لدينا هي تلك القائمة على تجارِبَ سريريةٍ موسَّعة، قد تَشترك فيها عدةُ مؤسَّسات طبية للخُلُوص إلى النتيجة الصائبة، وذلك بعد موافَقة اللِّجان الأخلاقية والمرضى؛ تجارب يحدِّد فيها الإحصاءُ أعدادَ العينات التي يتمُّ اختيارها بشكل عشوائي، ويُضاف إلى ذلك أنَّ جُلَّ هذه التجارب ثنائيةُ التعمية؛ أيْ إنَّ هناك على الأغلب مجموعتين أو أكثرَ، إحداهما موضع الفحص والطرق الجديدة في العلاج، والأخرى تخضع للطرق التقليدية؛ وذلك لمقارَنة النتائج بين المجموعتين، ولمعرفة هل كان هناك فارقٌ بالفعل. المقصودُ بثنائية التعمية هو أن المريض الذي وافَقَ على التجرِبة لا يعرف إنْ كان يخضع للطريقة الجديدة للعلاج أم لتلك التقليدية، وكذلك الذي يجمع البيانات لا يعرف أيٌّ من المرضى قد خضَعَ للعلاج الجديد وأيهم خضع للتقليدي. هذه التعمية لا يتمُّ كشفها إلا مركزيًّا لمُقارنة النتائج بعد كلِّ محاولات تحييد الخطأ البشري النفسي؛ فهناك ما يُعرف بتأثير البلاسيبو placebo effect؛ أيْ إن المريض الخاضع لعلاج جديد يُشفَى نفسيًّا لمجرَّد عِلْمه أنه يتلقَّى علاجًا؛ هذا الأثرُ يحاولون التحكُّمَ فيه بجعل المريض يَجهل إنْ كان يتلقَّى العلاجَ الجديد أم التقليدي. كذلك جامعُ البيانات نفسه، قد يتأثَّر نفسيًّا، وبغير وعيٍ يُفضِّل نتائجَ العلاج الجديد ويراها أفضل، ويتمُّ تحييد ذلك بجعْلِ جامعِ البيانات نفسه جاهلًا بحالِ مريضِه من حيث تناوُله للعلاج الجديد أم التقليدي. هذه هي أعلى مَراتب الدليل الطبي والطب المبنيِّ على الدليل، تأتي بعدها تلك النتائج المستخلَصة من معلومات تمَّ جمعُها سابقًا وأرْشَفَتها، وآخِرُ مَراتبِ الدليل هي رأْيُ العلماء والخبراء المَبنيُّ على مجرَّد الخبرة والممارَسة، دون تحليلٍ إحصائي وافٍ. هكذا تَنبني الممارَسة الطبية في التخدير وغيره، لكنْ يبقى الأطباء عمومًا، وأطباء التخدير بخاصة، متأثِّرين جدًّا بالغيب والماوَرَاء. أعتقد أن ذلك يَرجع ربما لأنه وإنْ كانت الأرقامُ حَدِّيةً ولا تَقبل الفصال، والمضاعَفاتُ حتميةً بنِسَبٍ مُعيَّنة محسوبة ومُقدَّرة؛ إلَّا أن لُعبةَ الاحتمالات صادقةٌ جدًّا عندما ننظر لعَيِّنة واسعة، لكنْ عندما يتعلَّق الأمرُ بشخصٍ واحد فقط هو الذي بين يدَيْك، فالاحتمالُ هو إمَّا أن يحدث الأمر أو لا يحدث بنسبة مائة بالمائة. على سبيل المثال، نسبةُ إصابة المرضى بالمضاعَفات حالَ تركيبِ قسطرةٍ وريديةٍ مركزية central venous line لهم ثابتةٌ إلى حدٍّ كبير؛ تتراوح بين «١٪ و٦٫٦٪» بحسب الوريدِ المستخدَم ونوعِ الإبرة والتقنيةِ وغيرها؛ أيْ إنه من كل مائة مريضٍ سيُصاب عددٌ يتراوَح بين الواحد والستة ب «الاسترواح الصدري» pneumothorax. لتركيبِ قسطرةِ وريدٍ مركزية نَستخدم إبرة سميكة بعض الشيء، هذه الإبرة قد تَثقب الغشاءَ البلَّوري المحيط بالرئة؛ فيتجمَّع الهواء فيه وتنضغط الرئة؛ مما يُسبِّب صعوبةً في التنفُّس قد تستدعي تدخُّلًا طبيًّا آخَر لتصحيح الأمور. هذه النسبةُ ثابتةٌ ومكتوبة، لكنها ليست كذلك بين المريض والطبيب، بالنِّسبة للمريض الواحد وطبيبه إما أن يُصاب بنسبةِ مائةٍ في المائة، أو لا يُصاب بنسبةِ مائةٍ في المائة. قد تُخبِر مريضَك كطبيب بالنسبة، وتُخبِر نفسَك بالنسبة، لكن يبقى الأمر أنه إما أن يُصاب أو لا يُصاب، ساعتَها لا تملك إلا محاولاتٍ غيبيةً وسيكولوجية، تُطبِّق العلمَ لكنَّك تعلم أن ما قد يحدث لا بدَّ حادث، لكنَّك لا تعرف مَن سيقع الأمر في قُرْعته وحْدَه؟ ومتى؟ وأحيانًا لماذا هو دونَ الباقين؟
44
905
16-ayn
16
7
5
3
Hindawi
The Elixir
Ahmed Samir Saad
STEM
Specialized